حديث حول سورة الحجرات (1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ / يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1)
صدق الله مولانا العلي العظيم
مقدمة
ما تلوناه كان من سورة الحجرات، والتي هي من السور المدنية، وقد نزلت في عام الوفود، وهو سنة التاسعة من الهجرة النبوية بعد أنْ أخذَ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وحينها نزلت سورة النصر المباركة وهي قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(2) صدق الله مولانا العلي العظيم.
سورة الحُجُرات تشتمل على ثمانية عشر آية، ويمكن أن نعبِّر عن هذه السورة المباركة بسورة الأخلاق والآداب؛ حيث أنها اشتملت على منظومة متكاملة من أصول الأخلاق والآداب التي لو روعيت وتم الإلتزام بها من قِبل المجتمع الإسلامي، لكان ذلك مُفضياً إلى أن يصل هذا المجتمع إلى مستوى الريادة كما أراد الله له ذلك، فمضامين هذه السورة تستهدف تقويم البناء الإجتماعي، وينتهي الالتزام بها الى مجتمع متماسك قوي قادرعلى مواجهة التحديات، وقادر على أن يخطو نحو التكامل بخطواتٍ ثابتة، ومنتظمة، وحينئذ يكون جديرا بموقع الريادة لعموم البشرية وقادرا على أن يسير بها نحو الكمال الذي أراده الله -عز وجل- للإنسان.
أمران:
قبل أن نشرع في بيان سبب نزول الآية الأولى والثانية اللتين تلوناهما، نشير إلى أمرين:
الأمر الأول: فضل تلاوة سورة الحجرات
ورد أنه: "من قرأ سورة الحجرات في كلِّ ليلة، أو في كلِّ يوم، كان من زوّار محمد (ص)"(3). أي إنَّ تلاوة هذه السورة تَعدِل زيارةً للنبي الكريم (ص)، وأيُّ فضل، وأيُّ ثوابٍ عظيمٍ يترتَّب على زيارة الرسول الكريم (ص)؟! فمعنى الرواية الشريفة ان من حُرم زيارة الرسول الكريم (ص) فإنه لا يُحرم ثواب الزيارة لو كان قد قرأ وتلى هذه السورة المباركة، هذا ما نستفيده من هذه الرواية الشريفة.
ثمَّة رواية أخرى وردت عن أهل البيت (ع)، أفادوا فيها صلوات الله وسلامه عليهم: "من قرأ سورة الحجرات أُعطي من الاجر عشر حسنات بعددِ مَن أطاع الله ومن عصاه"(4). كم هو عدد الطائعين لله؟! وكم هو عدد العصاة؟! الأرض كلُّها إما أنْ يكون أهلها من أهل الطاعة، أو من أهل المعصية، فإذا كانت القراءة لهذه السورة منتجا لتحصيل عشر حسنات بعدد كلِّ شخص -ليس بعدد القراءة، وإنما بعدد كلِّ رجلٍ وامرأة وإنسان على وجه هذه الأرض-، ولعلَّ المقصود منها هو كل إنسانٍ نشأ على وجه هذه الأرض سواءً كان في هذا الزمن، أو في الحقب الماضية. فلو كان هذا هو المراد فأيّ ثوابٍ عظيم يترتب على قراءة هذه السورة؟!
تنويه:
ما هو منشأ هذا الثواب؟! وما هو منشأ هذا الفضل؟!
إنَّ التلاوة لهذه السورة التي هي مجرَّد لقلقة لسان قد لا يُنتج هذا الأثر وهذه المنح الإلهية، وإنما يترتب هذا الثواب عندما يقرأ المؤمن هذه السورة مخلصاً لله جل وعلا، قاصداً التمثُّل بمضامين هذه الآيات، وساعياً جاهداً من أجل أن يتمثَّلها في حياته، وعندئذ يكون ممن يحظى بهذه المنحة الإلهية.
الأمر الثاني: سورة الآداب والأخلاق
إن هذه السورة كما قلنا يمكن أن نُعبِّر عنها -كما عبَّر عنها بعض الأعلام- بسورة الآداب والأخلاق؛ حيث أنها اشتملت على مجموعة من الأُصول الأخلاقية، سواءً الشخصية أو الإجتماعية.
أقسام السورة المباركة:
وهذه السورة في واقع الأمر يمكن تصنيف مضامينها إلى سبعة أقسام:
القسم الأول: أدب التعامل مع النبي الكريم (ص)
اشتملت أولاً على بيان كيفية التعامل مع النبي الكريم (ص)، والآداب التي يلزم المؤمن رعايتها مع النبي الكريم (ص) في حياته وبعد رحيله إلى الله عز اسمه وتقدس، وقد تصدت لذلك الآيات الأولى كما سيتضح ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ..﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾(5).
القسم الثاني: الأصول الأخلاقية
القسم الآخر اشتمل على بيان الأُصول الأخلاقية التي تُساهم وإلى حدٍ كبير في تقويم البناء الإجتماعي، والذي يقتضي عدم رعايتها نقض البناء الإجتماعي؛ مثلاً: آية النبأ نهت عن الإعتماد على خبر الفاسق، وأمرت بالتبيُّن قبل ترتيب الأثر على خبره، وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(6).
واشتملت السورة على النهي عن الغيبة، وعن التجسّس على المؤمنين، وعن السخرية بالمؤمنين، وعن التنابُز بالألقاب .. هذه مجموعة من السلوكيات التي لواتسم بها مجتمع لكان مجتمعاًممزقامتهالكاً غير قادر على التكامل والتماسك. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾(7)، ويقول ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾(8)، ويقول ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾(9). ثم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾(10) لأي شيْ؟! -﴿لِتَعَارَفُوا﴾- أي تتعارفوا فيما بينكم، بأن تتواصلوا، وتتراحموا، وتتوادُّوا، وحينئذ يكون ذلك ضماناً لتقوُّم البناء الإجتماعي. هذا قسم مما تضمنته السورة المباركة.
القسم الثالث: التعاطي مع حالات الاختلاف
بيَّنت السورة المباركة أيضاً كيفية التعاطي مع حالات النزاع والشقاق الذي قد يقع فيإطار المجتمع الإسلامي، فأفادت بعض الآيات أنه إذا نشب نزاع بين طائفتين، فالعلاج الأول الذي ينبغي أن يُبادر له المؤمنون هو الإصلاح، وهذا يعطينا أمرين:
الأمر الأول: أنه لا ينبغي أن يقف الآخرون موقف المحايد تجاه النزاعات والإختلافات التي تطرأ في إطار المجتمع المسلم، فينبغي أن تستشعر المسئولية تجاه هذا الذي طرأ في جسم المجتمع المسلم .. والعلاج الذي ينبغي أن يُبادروا إليه هو الإصلاح؛ ثم إنْ لم ينجع الإصلاح فينبغي أن لا يبقى الخلاف مُستحكِماً، مستشرياً، متداعياً؛ نزاع يجرُّ نزاعاً، واختلاف يجرُّ اختلافاً، بل ينبغي أن يُبادر المؤمنون بعد أن يتعذّر عليهم الإصلاح إلى التعرُّف على مَنْ مِنَ الطائفتين مُحقٌّ ومَنْ منهما مُبطِل، وحينئذ يجب أن يكونوا مع المُحِقّ من هاتين الطائفتين، ويقفوا في وجه الطائفة الضَّالة، ويتصدوا لها؛ لكي يمنعوها من أن تمارس بغيها وظلمها، أو يمسكوا على يدها، أو يمارسوا معها دور التصفية إن بلغ الأمر إلى حدٍّ لم يكن من الممكن معه معالجة هذه المشكلة الطارئة إلا بذلك، يقول تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ﴾ -ورجعت- ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(11).
ثم بيَّن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمنون، فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(12) -هذا هو الأصل- ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾(13). هذا هو القسم الثالث الذي تضمنته سورة الحجرات.
القسم الرابع: المعيار في قيمة الإنسان
وتضمنت السورة المباركة بيان المعيار في تحديد قيمة الإنسان، فهل المعيار الذي يتحدَّد به قيمة الإنسان هو الجاه؟ هل هو المال؟ هل هو القوة البدنية؟ هل هو القوة العسكرية؟ هل هو الذكاء؟ ليس شيئاً من ذلك يُحدِّد قيمة الإنسان.
قيمةُ الإنسان بنظر الإسلام -كما أفاد القرآن الكريم- هي التقوى لله. فبمقدار ما يكون الإنسان تقياًّ بمقدار ما يكون إنساناً، وكلما ابتعد عن التقوى يكون قد ابتعد عن الإنسانية، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(14).
أقرب الناس إلى التقوى هو أقربهم إلى الإنسانية، لذلك يكون هو أقربهم إلى الله؛ لأن الإنسانية تعني الخلافة لله على وجه الأرض، والخليفة يجب أن يكون قريباً من الله الذي خلَّفه على وجه هذه الأرض. فالله عزَّ وجلَّ إنما خلق الإنسان ليكون خليفةً له على هذه البسيطة، فمتى ما شطَّ عن خطِّ الله، وعن تقوى الله، ابتعد عن الغاية التي من أجلها خُلق؛ لذلك يكون بعيداً عن إنسانيته في واقع الأمر، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(15).
القسم الخامس: اقتران الإيمان بالعمل
ومن المضامين التي اشتملت عليها السورة المباركة هو أن الإيمان بالله -عز وجل- لا يتلخّص في التلفُّظ بالشهادتين، والإقرار اللفظي بأصول العقيدة؛ فهذا وإن كانت تُحقن به الدماء، وإن كان يترتَّب عليه أن يكون هذا الإنسان مسلماً، إلا أن ذلك وحده ليس هو المُراد، وليس هو الغاية من وجود الإنسان، ومن بعث الرسالات، بل لا بدَّ من اقتران الإيمان بالعمل قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا﴾ -هذا هو العمل- ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ -وليس غيرهم- ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(16).
القسم السادس: الإمتنان لا المِنَّة
والمضمون السادس الذي اشتملت عليه السورة المباركة هو: أنَّ ثمَّة من يَمُنُّ على الله بإسلامه، ويرى أنه عندما أسلم يكون قد أسدى جميلاً لرسول الله (ص)، وأنَّه بإسلامه قد اعتزَّ الإسلام، وبدخوله في الإسلام أصبح الإسلام قوي منيعا اً! هذا الشعور ينتاب الكثير من المتكبِّرين ممن دخل في صدر الدعوة إلى الإسلام!
القرآن الكريم في هذه السورة المباركة، وبعد تسع سنين من الهجرة، يعني في نهاية الدعوة، أي بعد اثنين وعشرين سنة من نزول الوحي على الرسول الكريم (ص)، فبعد كلِّ تلك السنين لازال ثمَّة مَن يستشعر الكبرياء، ويستشعر الإمتنان على الله -تعالى- وعلى رسوله؛ لأنه أسلم وهو رجل وجيه في قومه، فدخوله كان إعزازاً للإسلام!! الله -تبارك وتعالى- يقول لهؤلاء: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ -يتوهمون أنَّك يا رسول الله محتاج لإسلامهم- ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(17) -لو كنتم صادقين لاستشعرتم الإمتنان لله جلَّ وعلا وليس المِنَّة عليه، فهو تعالى أولى بأن يمتنَّ عليكم حيث هداكم إلى هذا الطريق السويّ صراط الله العزيز الحكيم.
القسم السابع: الرصد والعلم الربَّاني
وأما المضمون السابع والأخير: فهو أنَّ الله عز وجل أراد أن يؤكِّد معنىً طالما أكَّده في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وهو أنَّ الله -عزَّ اسمه وتقدَّس- مُطَّلع على جميع أسرار هذا الوجود، فأيُّ شيء يُمثِّل وجود الانسان في مقابل هذا الوجود الواسع؟! فهو تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾(18)، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾(19)، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ﴾(20).
لاحظوا! هذه الوريقات الصغيرةوالكثيرة التي هي في الأشجار المنتشرة في عموم وربوع هذه الأرض الواسعة المترامية، إنَّ الله -سبحانه- يعلم متى تسقط ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾، بل وأصغر من ذلك ﴿وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(21). فليس منسر يخفى على الله عز وجل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(22)، فلا يتوهم الإنسان أنه إذا تآمر أو دبَّر المكائد أنَّ ذلك يخفى على الله! نعم قد يمهله ليستدرجه إلا أنه ليس غافلاً عما يعمل الظالمون.
هذه مجموعة المضامين التي اشتملت عليها السورة المباركة.
سبب نزول الآيتين الشريفتين:
بعد ذلك نقف -وبإيجاز شديد نكمله إن شاء الله ليلة غد- على سبب نزول الآيتين الكريمتين اللتين تلوناهما في صدر الحديث: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ / يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾(23).
ذكر البخاري في صحيحه بأنَّ سبب ومنشأ نزول الآية الأولى والثانية على قلب رسول الله (ص) هو -كما ذكرنا في بداية الحديث- أن السورة نزلت في عام الوفود -وهي السنة التاسعة من الهجرة-؛ ففي هذا العام الذي أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وأخذت الوفود تتقاطر على الرسول (ص) لتُعلن إسلامها .. في هذا العام جاء وفدٌ من بني تميم إلى المدينة المنورة، ودخل على رسول الله (ص) مسجده الشريف، وبعد حديثٍ وسؤال، وبعد أن عَرَض عليهم الرسول (ص) الإسلام، وعرَّفهم أصول الإيمان، وأقام لهم ببعض الدلائل التي اقتنعوا بها فدخلوا في الإسلام؛ حينها كان ثمَّة وُجهاء من الوفد، وكلٌّ منهم يحرص على أن يكون هو من يؤمِّره الرسول (ص) على قومه، ويجعله المُبلِّغ عنه في عشيرته .. حينها اقترح أبو بكر على النبي (ص)، فقال له: أمِّر القعقاع بن معبد على قبيلة تميم .. فاعترض عمرُ قال: لا يا رسول الله، أمِّر الأقرع بن حابس على قبيلة تميم .. فقال أبو بكر لعمر -هذا ما نقله البخاري- قال له: ما أردتَ إلَّا خلافي! فردّ عليه: ما أردتُ خلافك، ولكنِّي أرى أنَّ الأصلح هو الأقرع. قال: بل الأصلح هو القعقاع. فتماريا حتى ارتفع صوت كلٍّ منهما في محضر الرسول الكريم (ص)، وأخذ كلٌّ منهما يُجادل الآخر في رأيه وأنَّ رأيه هو الأصوب .. ورسول الله (ص) ساكت، فنزلت الآية على إثر هذا النزاع وهذه المشادَّة الكلامية التي وقعت في محضره الشريف(24).
وقد وقع منهما أمران قد نهى عنهما القرآن في هذه الآية المباركة:
الأمر الأول: أنهما اقترحا أمراً تقدَّما فيه على رسول الله (ص) بالرأي، رُغم أنَّ النبي (ص) لم يطلب رأيهما، وكلٌّ منهما قدَّم بين يدي رسول الله (ص) رأيه ورآه هو الأصوب، والأجدر بأن يؤخذ به.
الأمر الثاني: أنهما رفعا صوتيهما أمام الرسول الكريم (ص).
وعلى إثر ذلك نزلت الآية وقالت: ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾، و﴿لَا تَرْفَعُوا﴾ .. ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ﴾، و﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾. هذا هو منشأ نزول الآية المباركة كما في صحيح البخاري، والكثير من الروايات الواردة من طرقنا، ومن طرقهم أيضاً.
أسباب أخرى للنزول
ثمَّة مناشئ أُخرى ذُكرت لنزول هاتين الآيتين المباركتين -الأولى والثانية-:
فقد ذكر بعضهم أنَّ المنشأ هو أنَّ البعض كان يتبرَّع من نفسه عبادةً لم يأمر بها رسول الله (ص)، فكان أحدهم قد ذبح الأضحية قبل صلاة العيد، فأمره رسول الله بإعادة الذبح.
وقيل أنَّ بعضهم كان يقترح على الرسول (ص) اقتراحات وآراء، ويراها هي الأصوب قبل أن يأمره الرسول (ص) بأن يُبدي رأيه؛ هذا منشأ ثالث.
كما ذُكر أنَّ بعضهم كان يتقدَّم على رسول الله (ص) في المشي، ولا يُراعي الآداب في المشي مع النبي (ص).
وذُكر أنَّ بعضهم كان يتمنَّى أن ينزل فيه قرآناً، أو أن ينزل في قومه.
هذه كلها مناشئ مذكورة في مقابل المنشأ الأول، وهي جميعاً غير معول عليها.
المُعوَّل عليه من سبب النزول
والمنشأ المُعوَّل عليه -في نظر المحدثين- هو الذي ذكرناه أولاً. ولو كانت هذه المناشئ تامَّة فلا يضرّ، فإن الآية وإن نزلت بسبب ما ذكرناه، ولكنها لا تختص به؛ فقد ثبت أنَّ الآيات لا تُخصَّص بأسباب النزول، فإنَّ خصوص المَورِد لا يُخصِّص عُموم الوارد -كما ذكر علماء الأصول-.
التفسير:
المراد من قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا ..﴾
سوف نتحدث في الليلة القادمة -إن شاء الله تعالى- عن معنى التقديم بين يدي الله ورسوله (ص).
وخلاصة ما هو المراد -وسوف نفصِّل ذلك فيما بعد- هو أنه ليس لأحدٍ يؤمن بالله ورسوله (ص) أن يتبنَّى رأياً، أو يحكُم بحكمٍ في مقابل ما يحكم به الله ورسوله، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ﴾(25).
فوظيفة المؤمن هي الإنقياد، والتسليم لأمر الله تعالى ورسوله (ص)، وليس له أن يقترح رأياً بنفسه، أو أن يتبنَّى رأياً في مقابل ما جاء به الإسلام. بل لو أنَّ الرسول (ص) جاء بشيء لم أتعقَّله، ولم أُدرك وجه الحكمة فيه، فإنه ليس لي أن أعترض عليه، بل لا بدَّ من التسليم لأمر الله، وأمر الرسول (ص). وتفصيل الحديث حول معنى التقديم بين يدي الله ورسوله، نتناوله في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الحجرات / 1-2.
2- سورة النصر / 1-3.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج6 / ص256.
4- جامع أحاديث الشيعة -السيد البروجردي- ج15 / ص112.
5- سورة الحجرات / 4.
6- سورة الحجرات / 6.
7- سورة الحجرات / 11.
8- سورة الحجرات / 11.
9- سورة الحجرات / 12.
10- سورة الحجرات / 13.
11- سورة الحجرات / 9.
12- سورة الحجرات / 10.
13- سورة الحجرات / 10.
14- سورة الحجرات / 13.
15- سورة البقرة / 30.
16- سورة الحجرات / 15.
17- سورة الحجرات / 17.
18- سورة طه / 7.
19- سورة سبأ / 2.
20- سورة سبأ / 2.
21- سورة الأنعام / 59.
22- سورة الحجرات / 18.
23- سورة الحجرات / 1-2.
24- صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص116.
25- سورة النساء / 64.