آدم والشيطان (1)

الآيـات

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ / وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ / فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.

 

التّفسير

آدم (عليه السلام) في الجنّة:

ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإِنسان، ويقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.

 

يبدو للوهلة الاُولى أن مسألة السجود لآدم جاءت بعد تجربة الملائكة المذكورة في الآيات السابقة وبعد تعليم الأسماء. ولكن لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أن موضوع السجود جاء بعد اكتمال خلقة الإِنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة.

 

يقول تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، السجود إذن جاء مباشرة بعد نفخ الروح في الإِنسان، وهذا المعنى جاء في الآية 72 من سورة (ص)(2).

 

ثمة دليل آخر على هذه المسألة هو أن استجابة الملائكة لأمر الله بالسجود، لو كانت بعد اتضاح مكانة آدم، لما اعتبرت مفخرة للملائكة.

 

على أي حال، الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإِنسان وعظمة مكانته. فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

 

حقاً، إن هذا الموجود، اللائق لخلافة الله على الأرض، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يستحق كل احترام.

 

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟!

 

بحثان

1- لماذا أبى إِبليس؟

«الشّيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشّياطين. أمّا «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس -كما صرح القرآن- ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية. قال تعالى: ﴿فَسَجدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ﴾(3).

 

باعثه على الإِمتناع عن السجود كبُر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم، بل ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية 12 من سورة الأعراف(4).

 

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإِلهي، وبذلك لم يعصِ فحسب، بل إنحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

 

وعبارة ﴿كَانَ مِنَ الْكَافِرينَ﴾ تشير إلى أن إبليس كان قبل صدور الأمر الإِلهي إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله، وأسرَّ في نفسه الإستكبار والجحود. لعله عزم في قرارة نفسه أن لا يخضع لو صدرت إليه أوامر بالخضوع والسجود. ومن المحتمل أن تكون عبارة ﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ إشارة إلى ذلك.

 

وورد هذا المعنى في حديث عن الإِمام الحسن العسكري (عليه السلام) "قال إِبْليسُ: لَئِنْ أَمْرَنِي اللهُ بِالسُّجُودِ لِهَذَا لَعَصَيْتُهُ إِلى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: ﴿أُسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا فَأَخْرَجَ إِبْلِيسُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَدِ فَأَبِى أَنْ يَسْجُدَ﴾"(5).

 

2- هل كان السّجود لله أم لآدم (عليه السلام)؟

لا شك أن السجود يعني «العبادة» لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلاّ الله.

 

من هنا فإن الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً. بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.

 

جاء في «عيون الأخبار» عن الإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "كَانَ سُجُودُهُمْ للهِ تَعَالى عُبُودِيَّةً، وَلاِدَمَ إكْراماً وَطَاعَةً، لِكَونِنَا فِي صُلْبِهِ"(6).

 

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، أُمر آدم وزوجه أن يسكنا الجنّة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ، وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَُما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾(7).

 

يستفاد من آيات القرآن أن آدم خُلق للعيش على هذه الأرض. لكنّ الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كل ما يزعج آدم.

 

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الارض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإِلهية في تحقيق سعادته، ولإِعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

 

وكان من الضروري أيضاً أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية. فمعصية الله -لا تسدّ إلى الإبد- أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإِلهية.

 

ينبغي أن ينضج آدم(عليه السلام) في هذا الجوّ إلى حد معيّن، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

 

كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنّة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية.

 

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلاّ أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه -كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم- بالخلود وباتخاذ شكل الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين(8).

 

تقول الآية بعد ذلك: ﴿فَأَزَلَّهُما الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾(9).

 

نعم. أُخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوءُ وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.

 

وصدر لهما الأمر الإِلهي بالهبوط ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوُّ، وَلَكُمْ فِي الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِين﴾.

 

وهنا، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنّة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان. وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء. مع أن آدم كان نبيّاً ومعصوماً، فإن الله يؤاخذ الإنبياء بترك الأولى -كما سنرى- كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

 


1- سورة البقرة / 34-36.

2- لى هذا أشار أيضاً الآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي في التّفسير الكبير.

3- سورة الكهف / 50.

4- راجع المجلد الرابع من هذا التّفسير.

5- تفسير الميزان ج1 / ص125.

6- نور الثقلين ج1 / ص58.

7- الرغد على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهنيء، وعبارة «حيث شئتما» تعني: من أي مكان شئتما في الجنّة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنّة.

8- سورة الأعراف / 20-21.

9- مرجع الضمير في «عنها» إمّا أن يعود على «الجنّة» ويكون معنى «ممّا كانا فيه» في هذه الحالة: من مقامهما الذي كانا فيه. وإمّا أن يعود على «الشّجرة» فيكون معنى الآية: إن الشيطان أزلهما بوسيلة الشّجرة، وأخرجهما من الجنّة التي كانا فيها.