كتب:

 

الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، يقال كتبت السقاء، وكتبت البغلة جمعت بين شفريها بحلقة، وفى التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل في الكتابة النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر ولهذا سمى كلام الله وإن لم يكتب كتابا كقوله ﴿ألم ذلك الكتاب﴾ وقوله: ﴿قال إني عبد الله آتاني الكتاب﴾ والكتاب في الأصل مصدر ثم سمى المكتوب فيه كتابا، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه وفى قوله: ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء﴾ فإنه يعنى صحيفة فيها كتابة، ولهذا قال: ﴿ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس﴾ الآية ويعبر عن الاثبات والتقدير والايجاب والفرض والعزم بالكتابة، ووجه ذلك أن الشئ يراد ثم يقال ثم يكتب، فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى.

 

ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى، قال: ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ وقال تعالى ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا - لبرز الذين كتب عليهم القتل﴾ وقال: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ أي في حكمه، وقوله ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس﴾ أي أو حينا وفرضنا وكذلك قوله ﴿كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت﴾ وقوله ﴿كتب عليكم الصيام - لم كتبت علينا القتال - ما كتبناها عليهم - لولا أن كتب الله عليهم الجلاء﴾ أي لولا أن أوجب الله عليهم الاخلال بديارهم، ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى وما يصير في حكم الممضى وعلى هذا حمل قوله ﴿بلى ورسلنا لديهم يكتبون﴾ قيل ذلك مثل قوله ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت﴾ وقوله: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه﴾ فإشارة منه إلى أنهم بخلاف من وصفهم بقوله ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ لان معنى أغفلنا من قولهم أغفلت الكتاب إذا جعلته خاليا من الكتابة ومن الاعجام، وقوله ﴿فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون﴾ فإشارة إلى أن ذلك مثبت له ومجازي به.

 

وقوله ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ أي اجعلنا في زمرتهم إشارة إلى قوله ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم﴾ الآية وقوله ﴿مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ فقيل إشارة إلى ما أثبت فيه أعمال العباد.

 

وقوله ﴿إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ قيل إشارة إلى اللوح المحفوظ، وكذا قوله ﴿إن ذلك في كتاب - إن ذلك على الله يسير﴾ وقوله: ﴿ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين - في الكتاب مسطورا - لولا كتاب من الله سبق﴾ يعنى به ما قدره من الحكمة وذلك إشارة إلى قوله ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾ وقيل إشارة إلى قوله ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ وقوله ﴿لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا﴾ يعنى ما قدره وقضاه وذكر لنا ولم يقل علينا تنبيها أن كل ما يصيبنا نعده نعمة لنا ولا نعده نقمة علينا، وقوله ﴿ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم﴾ قيل معنى ذلك وهبها الله لكم ثم حرمها عليكم بامتناعكم من دخولها وقبولها، وقيل كتب لكم بشرط أن تدخلوها، وقيل أوجبها عليكم، وإنما قال لكم ولم يقل عليكم لان دخولهم إياها يعود عليهم بنفع عاجل وآجل فيكون ذلك لهم لا عليهم وذلك كقولك لمن يرى تأذيا بشئ لا يعرف نفع مآله: هذا الكلام لك لا عليك، وقوله: ﴿وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا﴾ جعل حكمهم وتقديرهم ساقطا مضمحلا وحكم الله عاليا لا دافع له ولا مانع، وقال تعالى: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث﴾ أي في علمه وإيجابه وحكمه وعلى ذلك قوله ﴿لكل أجل كتاب﴾ وقوله ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله﴾ أي في حكمه.

 

ويعبر بالكتاب عن الحجة الثابتة من جهة الله نحو ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير - أم آتيناهم كتابا من قبله فأتوا بكتابكم - أوتوا الكتاب - كتاب الله - أم آتيناهم كتابا - فهم يكتبون﴾ فذلك إشارة إلى العلم والتحقق والاعتقاد، وقوله ﴿وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ إشارة في تحرى النكاح إلى لطيفة وهي أن الله جعل لنا شهوة النكاح لنتحرى طلب النسل الذي يكون سببا لبقاء نوع الانسان إلى غاية قدرها، فيجب للانسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب مقتضى العقل والديانة، ومن تحرى بالنكاح حفظ النسل وحصانة النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له وإلى هذا أشار من قال: عنى بما كتب الله لكم الولد ويعبر عن الايجاد بالكتابة وعن الإزالة والافناء بالمحو.

 

قال: ﴿لكل أجل كتاب - يمحو الله ما يشاء ويثبت﴾ نبه أن لكل وقت إيجادا وهو يوجد ما تقتضي الحكمة إيجاده ويزيل ما تقتضي الحكمة إزالته، ودل قوله ﴿لكل أجل كتاب﴾ على نحو ما دل عليه قوله ﴿كل يوم هو في شأن﴾ وقوله: ﴿وعنده أم الكتاب﴾ وقوله: ﴿وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب﴾ فالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكورة في قوله ﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم﴾ والكتاب الثاني التوراة، والثالث لجنس كتب الله أي ما هو من شئ من كتب الله سبحانه وتعالى وكلامه، وقوله ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان﴾ فقد قيل هما عبارتان عن التوراة وتسميتها كتابا اعتبارا بما أثبت فيها من الاحكام، وتسميتها فرقانا اعتبارا بما فيها من الفرق بين الحق والباطل.

 

وقوله: ﴿وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا﴾ أي حكما ﴿لولا كتاب من الله سبق لمسكم﴾ وقوله ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله﴾ كل ذلك حكم منه.

 

وأما قوله: ﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم﴾ فتنبيه أنهم يختلقونه ويفتعلونه، وكما نسب الكتاب المختلق إلى أيديهم نسب المقال المختلق إلى أفواههم فقال: ﴿ذلك قولهم بأفواههم﴾ والاكتتاب متعارف في المختلق نحو قوله: ﴿أساطير الأولين اكتتبها﴾ وحيثما ذكر الله تعالى أهل الكتاب فإنما أراد بالكتاب التوراة والإنجيل وإياهما جميعا، وقوله: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى﴾ إلى قوله: ﴿وتفصيل الكتاب﴾ فإنما أراد بالكتاب ههنا ما تقدم من كتب الله دون القرآن، ألا ترى أنه جعل القرآن مصدقا له، وقوله: ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا﴾ فمنهم من قال هو القرآن ومنهم من قال هو القرآن وغيره من الحجج والعلم والعقل، وكذلك قوله: ﴿فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به﴾ وقوله ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب﴾ فقد قيل أريد به علم الكتاب وقيل علم من العلوم التي آتاها الله سليمان في كتابه المخصوص به وبه سخر له كل شئ، وقوله: ﴿وتؤمنون بالكتاب كله﴾ أي بالكتب المنزلة فوضع ذلك موضع الجمع إما لكونه جنسا كقولك كثر الدرهم في أيدي الناس، أو لكونه في الأصل مصدرا نحو عدل وذلك كقوله: ﴿يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ وقيل يعنى أنهم ليسوا كمن قيل فيهم ﴿ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض﴾ وكتابة العبد ابتياع نفسه من سيده بما يؤديه من كسبه، قال: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم﴾ واشتقاقها يصح أن يكون من الكتابة التي هي الايجاب، وأن يكون من الكتب الذي هو النظم والانسان يفعل ذلك.