هدى:

 

الهداية دلالة بلطف ومنه الهدية وهوادي الوحش أي متقدماتها الهادية لغيرها، وخص ما كان دلالة بهديت وما كان إعطاء بأهديت نحو أهديت الهدية وهديت إلى البيت إن قيل كيف جعلت الهداية دلالة بلطف وقد قال الله تعالى: ﴿فاهدوهم إلى صراط الجحيم - ويهديه إلى عذاب السعير﴾ قيل ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغة في المعنى كقوله: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ وقول الشاعر: * تحية بينهم ضرب وجيع * وهداية الله تعالى للانسان على أربعة أوجه، الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شئ بقدر فيه حسب احتماله كما قال: ﴿ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى﴾، الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾، الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنى بقوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ وقوله: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ وقوله: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم﴾ وقوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا - ويزيد الله الذين اهتدوا هدى - فهدى الله الذين آمنوا - والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم﴾، الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنى بقوله: ﴿سيهديهم ويصلح بالهم - ونزعنا ما في صدورهم من غل﴾ إلى قوله: ﴿الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله.

 

ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث، والانسان لا يقدر أن يهدى أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الأول أشار بقوله: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - يهدون بأمرنا - ولكل قوم هاد﴾ أي داع، وإلى سائر الهدايات أشار بقوله تعالى: ﴿إنك لا تهدى من أحببت﴾ وكل هداية ذكر الله عز وجل أنه منع الظالمين والكافرين فهي الهداية الثالثة وهي التوفيق الذي يختص به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة نحو قوله عز وجل: ﴿كيف يهدى الله قوما﴾ إلى قوله ﴿والله لا يهدى القوم الظالمين﴾ وكقوله ﴿ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين﴾ وكل هداية نفاها الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن البشر، وذكر أنهم غير قادرين عليها فهي ما عدا المختص من الدعاء وتعريف الطريق، وذلك كإعطاء العقل والتوفيق وإدخال الجنة، كقوله عز ذكره: ﴿ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء - ولو شاء الله لجمعهم على الهدى - وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم - إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل - ومن يظلل الله فما له من هاد - ومن يهد الله فما له من مضل - إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء﴾ وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ وقوله: ﴿من يهد الله فهو المهتد﴾ أي طالب الهدى ومتحريه هو الذي يوفقه ويهديه إلى طريق الجنة لا من ضاده فيتحرى طريق الضلال والكفر كقوله: ﴿والله لا يهدى القوم الكافرين﴾ وفى أخرى ﴿الظالمين﴾ وقوله ﴿إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار﴾ الكاذب الكفار هو الذي لا يقبل هدايته، فإن ذلك راجع إلى هذا وإن لم يكن لفظه موضوعا لذلك، ومن لم يقبل هدايته لم يهده، كقولك من لم يقبل هديتي لم أهد له ومن لم يقبل عطيتي لم أعطه، ومن رغب عنى لم أرغب فيه، وعلى هذا النحو ﴿والله لا يهدى القوم الظالمين﴾ وفى أخرى ﴿الفاسقين﴾ وقوله: ﴿أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى﴾ وقد قرئ " يهدى إلا أن يهدى " أي لا يهدى غيره ولكن يهدى أي لا يعلم شيئا ولا يعرف أي لا هداية له ولو هدى أيضا لم يهتد لأنها موات من حجارة ونحوها، وظاهر اللفظ أنه إذا هدى اهتدى لاخراج الكلام أنها أمثالكم كما قال تعالى ﴿إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم﴾ وإنما هي أموات.

 

وقال في موضع آخر: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون﴾ وقوله عز وجل ﴿إنا هديناه السبيل - وهديناه النجدين - وهديناهما الصراط المستقيم﴾ فذلك إشارة إلى ما عرف من طريق الخير والشر وطريق الثواب والعقاب بالعقل والشرع وكذا قوله: ﴿فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة - إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء - ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ فهو إشارة إلى التوفيق الملقى في الروع فيما يتحراه الانسان وإياه عنى بقوله عز وجل: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ وعدى الهداية في مواضع بنفسه وفى مواضع باللام وفى مواضع بإلى، قال تعالى: ﴿ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم - واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط المستقيم﴾ وقال: ﴿أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع﴾ وقال: ﴿هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى﴾ وما عدى بنفسه نحو: ﴿ولهديناهم صراطا مستقيما - وهديناهما الصراط المستقيم - اهدنا الصراط المستقيم - أتريدون أن تهدوا من أضل الله - ولا ليهديهم طريقا - أفأنت تهدى العمى - ويهديهم إليه صراطا مستقيما﴾.

 

ولما كانت الهداية والتعليم يقتضى شيئين: تعريفا من المعرف، وتعرفا من المعرف، وبهما تم الهداية والتعليم فإنه متى حصل البذل من الهادي والمعلم ولم يحصل القبول صح أن يقال لم يهد ولم يعلم اعتبارا بعدم القبول وصح أن يقال هدى وعلم اعتبارا ببذله، فإذا كان كذلك صح أن يقال إن الله تعالى لم يهد الكافرين والفاسقين من حيث إنه لم يحصل القبول الذي هو تمام الهداية والتعليم، وصح أن يقال هداهم وعلمهم من حيث إنه حصل البذل الذي هو مبدأ الهداية.

 

فعلى الاعتبار بالأول يصح أن يحمل قوله تعالى: ﴿والله لا يهدى القوم الظالمين - والكافرين﴾ وعلى الثاني قوله عز وجل: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ والأولى حيث لم يحصل القبول المفيد فيقال، هداه الله فلم يهتد كقوله: ﴿وأما ثمود﴾ الآية، وقوله: ﴿لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء﴾ إلى قوله: ﴿وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله﴾ فهم الذين قبلوا هداه، واهتدوا به، وقوله تعالى ﴿اهدنا الصراط المستقيم - ولهديناهم صراطا مستقيما﴾ فقد قيل عنى به الهداية العامة التي هي العقل وسنة الأنبياء وأمرنا أن نقول ذلك بألسنتنا وإن كان قد فعل ليعطينا بذلك ثوابا كما أمرنا أن نقول اللهم صل على محمد وإن كان قد صلى عليه بقوله: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾ وقيل إن ذلك دعاء بحفظنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، وقيل هو سؤال للتوفيق الموعود به في قوله: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ وقيل سؤال للهداية إلى الجنة في الآخرة وقوله عز وجل: ﴿وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله﴾ فإنه يعنى به من هداه بالتوفيق المذكور في قوله عز وجل ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾.

 

والهدى والهداية في موضوع اللغة واحد لكن قد خص الله عز وجل لفظة الهدى بما تولاه وأعطاه واختص هو به دون ما هو إلى الانسان نحو ﴿هدى للمتقين - أولئك على هدى من ربهم - وهدى للناس - فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي - قل إن هدى الله هو الهدى - وهدى وموعظة للمتقين - ولو شاء الله لجمعهم على الهدى - إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾.

 

والاهتداء يختص بما يتحراه الانسان على طريق الاختيار إما في الأمور الدنيوية أو الأخروية قال تعالى: ﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها﴾ وقال ﴿إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا﴾ ويقال ذلك لطلب الهداية نحو ﴿وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون﴾ وقال: ﴿فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون - فإن أسلموا فقد اهتدوا - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا﴾.

 

ويقال المهتدي لمن يقتدى بعالم نحو ﴿أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون﴾ تنبيها أنهم لا يعلمون بأنفسهم ولا يقتدون بعالم وقوله ﴿فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها﴾ فإن الاهتداء ههنا يتناول وجوه الاهتداء من طلب الهداية ومن الاقتداء ومن تحريها، وكذا قوله ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون﴾ وقوله ﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى﴾ فمعناه ثم أدام طلب الهداية ولم يفتر عن تحريه ولم يرجع إلى المعصية.

 

وقوله ﴿الذين إذا أصابتهم مصيبة﴾ إلى قوله ﴿وأولئك هم المهتدون﴾ أي الذين تحروا هدايته وقبلوها وعملوا بها، وقال مخبرا عنهم ﴿وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون﴾.

 

والهدى مختص بما يهدى إلى البيت.

 

قال الأخفش والواحدة هدية، قال: ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به، قال الله تعالى: ﴿فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى - هديا بالغ الكعبة - والهدى والقلائد - والهدى معكوفا﴾.

 

والهدية مختصة باللطف الذي يهدى بعضنا إلى بعض، قال تعالى: ﴿وإني مرسلة إليهم بهدية - بل أنتم بهديتكم تفرحون﴾ والمهدى الطبق الذي يهدى عليه، والمهداء من يكثر إهداء الهدية، قال الشاعر: * وإنك مهداء الخنا نطف الحشا * والهدى يقال في الهدى، وفى العروس يقال هديت العروس إلى زوجها، وما أحسن هدية فلان وهديه أي طريقته، وفلان يهادى بين اثنين إذا مشى بينهما معتمدا عليهما، وتهادت المرأة إذا مشت مشى الهدى.