انحراف ثمود قوم صالح (ع) -1
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾(1)
ثمود! قبور في الصخور
أعلام الجحود
مقدمة:
بعد هلاك عاد بنحو مائة عام، ظهرت حضارة ومدينة أخرى تقودها ثمود.
وثمود من العرب العاربة. جاءت قافلتهم من حول جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح (عليه السلام). شأنها كشأن العديد من القوافل التي تركت المنطقة الأولى وانتشرت في الأرض، وكان على رأس قافلة ثمود: ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وانتهى مسيرها إلى موقع بين الشام والحجاز، وكانت أهم حاضرة لهم مدينة الحجر.. وذكر المسعودي: أن حجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين وهي مصاقبة لخليج العقبة.. وما زالت آثار ثمود باقية إلى يومنا هذا والمكان الذي فيه ديارهم يعرف اليوم ب (فج الناقة).
والنبي الذي بعثه الله تعالى إلى ثمود. هو صالح (عليه السلام). وكان بينه وبين هود (عليه السلام) -كما ذكر المسعودي- نحو مائة عام(2).
وصالح (عليه السلام) ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد ضد الوثنية.
ويذكره الله تعالى بعد نوح وهود (عليهما السلام). ولقد أثنى الله عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله.
وذكر صالح (عليه السلام) في القرآن تسع مرات في سور: الأعراف، هود، الشعراء، وذكرت ثمود في القرآن في أحد عشرة سورة: الأعراف، هود، الحجر، الشعراء، النمل، فصلت، الذاريات، النجم، القمر، الحاقة، الشمس.
1- في خيام الانحراف:
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾(3) ويقول عز وجل: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾(4) لقد كانت البداية هدى، وهذا الهدى غزته ثقافة الجودي، ثقافة ما بعد الطوفان التي قامت على أعمدة التوحيد، وعندما انطلقوا لإقامة مجتمعاتهم الجديدة. كانت الفطرة في أعماقهم تدلهم على طريق الصواب. وبالجملة. عرفهم الله الحق وما يؤدي إليه والباطل وماذا يترتب عليه.
فمن هنا كانت دائرة الاستبصار، ولكن دائرة الاستبصار هذه انطفأت في صدور الذين كفروا. وذلك بعد أن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم. وعلى هذا كانت دائرة العمى، وعندما جاءهم رسول من ربهم كي يعيدهم إلى دائرة الاستبصار، صدوا عن سبيل الله، وإلى هنا شق القوم طريقهم في اتجاه الاستئصال والله غني عن العالمين، وطريق ثمود نحو الاستئصال هو نفسه طريق عاد. بكل شعاراته وأعلامه، لقد رفضت ثمود ما رفضته عاد، فمن خيمة الشذوذ والانحراف رفضوا الرسول البشر.. يقول تعالى: ﴿إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(5) وفي احتجاجهم على نبيهم صالح (عليه السلام) قالوا له: ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾(6).
لقد أمسكوا بذيل الآباء في رفض البشر الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده، رغم أنهم يحملون المعجزات التي تؤيد دعواهم، وذلك لأنهم يشاركونهم في البشرية. هذا في الظاهر. أما الحقيقة فلأنهم يروا أنفسهم أفضل من الأنبياء، من حيث أنهم يمتلكون الأموال والأولاد والأنعام وزينة الحياة الدنيا. ولديهم العتاد والجموع وهذا ما لم يتوفر للأنبياء، لقد كانوا يرون أنفسهم أفضل بني آدم.
فأمسكوا بذيل الشيطان الذي قاس أفضليته على آدم بأن الله خلقه من نار بينما خلق آدم من طين. إن فقه الغباء لم يفطن في البداية أن الله هو الخالق ولم يفطن في النهاية إلى أن الله هو الرزاق وأن له في خلقه شؤون وما خلق سبحانه شيئا إلا بهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة.
وإذا كانت ثمود قد أمسكت بذيل عاد في رفض البشر الرسول، فإنهم سقطوا معهم في قاع اتباع الهوى وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فأورثهم الصد عن الحق. وأما طول الأمل فأورثهم نسيان الآخرة، ومع ثقافة الصد والنسيان لم تتدبر ثمود فهلك عاد وقوم نوح من قبل. فأقاموا بيوتهم في بطون الصخر وجعلوا لها أبوابا ضيقة يتحكمون فيها عند هبوب الرياح. حتى لا يهلكوا كما هلكت عاد.
وكانت عاد من قبل قد شيدت لها أبنية على قمم المرتفعات حتى لا يهلكهم الطوفان الذي أهلك قوم نوح من قبل. وعن ثمود يقول تعالى: ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾(7) أي يسكنون الكهوف المنحوتة من الحجارة ظنا منهم أن هذا يجعلهم آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية. إنها ثقافة النسيان. التي انطلقت إلى غابة طول الأمل الشيطانية. وهناك في كل جرف صخري داخل واديهم السحيق. أقاموا مساكنهم التي ظنوا أنها تدفع عنهم الموت، ولم يكن يدري أهل ثقافة الانحراف. أن كفران النعمة أورثهم الجوع والخوف. والجائع لا يشبع من طعام ولا من حياة، ولأنه يريد مزيد من الحياة، خاف من المستقبل، وفي عالم الخوف يقف الخائف وراء الجدر، فلا يقاتل إلا من ورائها ولا يكيد إلا من ورائها، وثمود لم تكتف بالوقوف وراء الجدر بل دخلت فيها. يقول تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾(8) أي الذين ينحتون الصخر ويخرقونه ليتخذون منه بيوتا(9). لقد ظنوا أن ما يصنعوه يؤمن سعادتهم في الدنيا، ولم يدر أهل كفران النعمة ونسيان العهد، أن بطون الجبال ستكون عذابا لهم في يوم أليم وأن حضارتهم لن تحمل للمستقبل إلا دخانا، يدل على أن في هذا المكان يوما ما اضطرمت نار الغضب، كي يعتبر بهم من أراد الاعتبار.
2- الرسول والدعوة:
1- الرسول:
بعث صالح (عليه السلام) وكان يومئذ غلام حدث(10) وروي أنه بعث وهو ابن ست عشرة سنة، فلبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة(11) وذكر ابن الأثير في الكامل أنه بعث وهو ابن ثلاثين سنة، ومات وهو ابن ثمان وخمسون سنة(12) ورواية بعثه وهو غلام رواها غير واحد، وهناك روايات ذكرت أن دعوة صالح (عليه السلام) كانت عشرين سنة، وهذه مدة غير كافية لنسيان ثقافة خروج الناقة من الصخرة.
ومن المعروف أن معجزة الناقة أدت إلى إيمان العديد وعلى رأسهم رئيس القوم(13).
أما الرواية التي نصت على أن صالحا (عليه السلام) بعث وهو غلام أو ابن ست عشرة سنة وأنه لبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة، فهي تستقيم مع الأحداث لأن المدة كافية لظهور أجيال ترى في الناقة عادة مألوفة، ولا تراها كمعجزة كما رآها الجيل السابق، ومع هذه الأجيال تدور معارك العقيدة، بين معسكر الحق ومعسكر الشذوذ الذي يسهر عليه آباء الانحراف الذين لم يؤمنوا برسالة صالح وتمسكوا بذيول الآباء. فالناقة كانت في الحقيقة حجة على جيلين. جيل طلب الآية. وجيل لم يطلب الآية ولكنه رآها وهو يشب بين القوم.
الجيل الأول آمن منه من آمن وعاش في ثقافة المعجزة، أما الجيل الثاني فجاء يسمع ثقافة المعجزة وثقافة الصد عن السبيل، وهو مخير بين هذا وذاك. إما أن يكون مع الناجين. وإما أن يكون امتدادا لأجيال لن تلد إلا فاجرا كفارا وحينئذ يكون عذاب الاستئصال.
بعث صالح (عليه السلام) وهو غلام. وبعث الله تعالى صالحا في هذا السن معجزة في حد ذاتها. ليرى فيه القوم رجاحة العقل في زمن عز فيه أن يرى عاقل تنجبه ثقافة الجوع والخوف والصخور، وصالح (عليه السلام) كان من بيت شرف ومشهود له بالأمانة، وعندما تتوج الأمانة والشرف إنسانا صادقا في عالم يتخذ من خناجره معاول لتمزيق أحشاء الصخور بحثا عن الأمن. يكون هذا الإنسان في حد ذاته دعوة للسمع وللبصر. فلعل السمع منه يدل القوم إلى الأمن الذي يقود إلى السعادة الحقيقية، لأنهم عندما يسمعون سيسمعون من عاقل، وعندما ينظرون فسينظرون إلى أمين لا يسألهم أجرا، لقد كان بعثه (عليه السلام) وهو غلام معجزة لم يتدبرها الأوائل، لأنهم انطلقوا في ليل الانحراف الذي يغشى بأجنحته السوداء دروب الضياء والمعرفة، وكان (عليه السلام) يراهم وهم يهرولون في اتجاه الصخور ويخبرهم أن الطريق إلى الأمن لا يحتاج إلى هذه المشاق. وأنه يبدأ من توحيد الله وعبادته والسير داخل المجتمع بالعدل والإحسان. وأن لا يسرفوا ولا يطغوا ولا يعلوا في الأرض. كان يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن القوم تجنبوه في بداية الأمر، ولم يجبه من قومه إلا نفر يسير من الضعفاء، الذين لا ينظرون إلى الصورة. ولكن يتعمقون في القول وبلاغته ومضمونه وأهدافه، ولا ينظرون إلى طول الجسم وما عليه. وإنما ينظرون إلى أعماق الإنسان، حيث الأمانة والعفة والطهر والنقاء والصدق، كان هذا هو حال الضعفاء الذين اتبعوا صالحا (عليه السلام)، أما الجبابرة فتجنبوه لعدم استطاعتهم دفع حججه، وأوهموا أتباعهم أنهم إنما تركوه لصغر سنه.
وشب صالح (عليه السلام) في ثمود، وكان كل يوم يمر يشعر معه الجبابرة بالخطر الذي يحمله صالح (عليه السلام). لقد وجدوه يحمل عقيدة تعمل من أجل الإطاحة بما كان عليه آباؤهم. وهذه العقيدة تلازمه من يوم أن شاهدوه في أول أمره كنبت أخضر ذي أصل ثابت. يتسلق فرعه في اتجاه السماء، إلى اليوم الذي أصبح فيه كشجرة تشب مع الأجيال وتحمل لهم الثمار، كان الجبابرة يشعرون بالخطر، ولأنهم لا يتنفسون إلا من خيمة الانحراف، كان كل يوم يمر لا يزدهم من الإيمان إلا بعدا، لم يتدبروا يوما في أحوال صالح الذي حمل الرشد والكمال في شخصه وبيته، ولا يأتي منه إلا الخير. ولا يترقب منه إلا النفع.
2- الدعوة:
يقول تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ / أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ / فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ / وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ / الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(14).
لقد هدم (عليه السلام) عقائدهم وثقافاتهم التي تقوم عليها، فدعاهم لأن يتدبروا وأن يتقوا الله، وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، ثم نفى عن نفسه أي طمع دنيوي. والدليل أنه لم يسألهم الأجر كما يسألهم كهان الأوثان الأجر عندما يفتونهم، وليس معنى أنه لا يسألهم الأجر أن ما يقوم به لا وزن له، وإنما له ثواب وأجر عند الله رب العالمين وهو يطمع في هذا الأجر وهذا الثواب، وبعد أن قرع (عليه السلام) آذانهم بالتوحيد. رد عقولهم إلى الحقيقة التي تعاموا عنها فقال: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾؟ أي أنكم لن تتركوا في أرضكم وما أحاط بكم في أرضكم هذه. وأنتم مطلقوا العنان لا تسألون عما تفعلون وآمنون من أي مؤاخذة إلهية(15) لقد وعظهم وحذرهم نقم الله أن تحل بهم.. وذكرهم بأنعم الله حيث أنبت الله لهم الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات(16) لكنهم لم يشكروا النعمة ويضعوها في محلها، وإنما اتخذوا تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها. وأنهم كانوا حانقين متقنين لنحتها ونقشها(17) ولأن ما يفعلوه لا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، أمرهم أن يقبلوا على الله بطاعته. لأن طاعته من طاعة الله. وأن لا يطيعوا أمر المسرفين.. فلا يقلدوهم ولا يتبعوهم في أعمالهم وسلوكهم.
وخطابه (عليه السلام) كان للعامة التابعين للمسرفين، وكان للمسرفين الذين يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم ولقد أمر بعدم طاعتهم لأنهم يفسدون في الأرض غير مصلحين. والإفساد لا ومن معه العذاب الإلهي والله عزيز ذو انتقام.
ولقد حذرهم (عليه السلام) من الإمساك بذيل المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، لأن الكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة، والكون ترتبط أجزاءه ارتباطا محكما، وأي انحراف أو تفريط فإن الميل والانحراف يكون إفسادا للنظام المرسوم. ويتبعه إفساد غاياته. الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية الجارية، فإن جرى على ما تهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله بالسنين وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد. وإن أقاموا على ذلك الفساد لرسوخه في نفوسهم. أخذهم الله بعذاب الاستئصال، وطهر الأرض من قذارة فسادهم(18) فماذا قال الجبابرة والمترفون والمسرفون لصالح (عليه السلام) عندما دعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من نقمه. وعندما بين لهم أن الطريق الصحيح لن يكون في ذيل الذين يفسدون في الأرض؟ يقول تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ / مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(19) لقد واجهوا النصح بحشد من الاتهامات فاتهموه بأنه ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب السحر على عقله(20) وضعوا على كل مرحلة من مراحل حياته علامة تقول إنه مسحور. صادروا الحكمة والبلاغة والمضمون ودقوا وتد السحر. وعندما خاطبهم جمعوا له كل العلامات التي وضعوها على امتداد حياته وقالوا: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ ولم ينس طابور الانحراف أن يلقي بأثقال الآباء التي ألقي بها من قبل أمام نوح وهود (عليهما السلام) فقالوا لصالح (عليه السلام): ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بآية تثبت صدقه في دعواه فقالوا: ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
لقد دعاهم (عليه السلام) لكي يدخلوا في رحاب الأمن الحق الذي يربط أجزاء الكون بالعدل. ولكن العدل عند خيمة الانحراف، أن تتركهم وما يفعلون، وأن تتركهم وما يقولون، وأن لا تحول بينهم وبين ما يحبون! العدالة عندهم أن تتركهم حتى لو أدت أعمالهم إلى احتراق الأخضر واليابس في مشهد واحد.
3- انحراف جديد:
كانت ثمود أمة من أمم الانحراف، والانحراف لا بد وأن يترك تحت رماده بذور يصلح زرعها على أرض معسكر الانحراف. الذي يستلم الراية فيما بعد.
وهذه البذور تظل تحت الأرض لفترة حتى يأتي من يتعهدها حتى تكبر وتصبح شجرة من الدنس في نهاية الطريق. وإذا كانت ثمود قد تعهدت شجرة ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ التي قام كفار قوم نوح بتسليمها لكفار قوم هود، فإن ثمود كان لها السبق في إضافة معنى آخر يقبل بشرية الرسول بشروط، ولقد اتسعت هذه الشروط فيما بعد وكان في اتساعها كارثة.
فعندما حاصر صالح (عليه السلام) ثمود بحججه الدامغة، ولم تجد ثمود فيه إلا كل الخصال الحميدة، هرول إليه الضعاف واعتنقوا دعوته، وأمام هذا المد -وإن كان ضعيفا- اهتز الذين يحرصون على الحياة، وأصبحت أوراق فقه التحقير والانتقاص من البشر الذين يحملون رسالات الله لا تجدي.
بعد أن أحرزت الدعوة تقدما لها في ديار الضعاف. لهذا قام كفار ثمود لتطوير فقه التحقير والانتقاص بما يسحب البساط من تحت أقدام النبوة فقالوا كما أخبر سبحانه: ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ / أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾(21) لقد نصبوا شباك الصد عن سبيل الله، شباك صنعت من خيوط الحسد، وقالوا: "لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا قيادتنا لواحد منا"(22) فلو كان الوحي حقا، وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر جميعا(23) باختصار بثت أبواق ثمود ثقافة جديدة تقول للعامة والخاصة أن إثبات الرسالة لصالح وحده فيه انتقاص لكم، لأنكم تماثلونه في البشرية، فإذا جاز أن يدعي الرسالة، فمن حقكم أن تدعوا الانتفاخ بالروح القدس.
وهذا البيان لن يصب في النهاية إلا في سلة الجبابرة. لأن الضعاف لن يجرؤ واحد منهم أن يدعي الانتفاخ أو يدعي الرسالة. لأنه لا يملك أن يقدم البينة عليها، فالبيان بالنسبة للضعفاء تحصين لهم في مواجهة صالح (عليه السلام).
أما بالنسبة للجبابرة، فإنهم إذا ادعوا الرسالة يمكن أن يلوحوا بما لديهم من عدة وما معهم من جموع، فالعدة والجموع قمم في عالم الانحراف والشذوذ، وعلى امتداد دعوات الأنبياء والرسل كانت معسكرات الانحراف ترفض الرسل لأنهم لا عدة لهم ولا جموع معهم، وأمام النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دفعوا بما ورثوه عن ثمود ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾(24) لقد بدأوا في صدر البشرية بأهداف خفية حملتها الجماهير، أما عند الرسالة الخاتمة ظهر ما كان مخبوء. ظهر أن أهل العناد والعتو والتمرد صعب عليهم أن يكونوا مروا سنين كسائر الناس يعمهم حكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا مال له ولا قوة من رجال وسلاح. كان الجبابرة في عهد الرسالة الخاتمة هم العنوان. ومن وراء الجبابرة وقفت الجماهير أتباع الناعق في كل زمان ومكان.
فإذا كانت ثمود قد دقت أوتاد العدة والجموع في أول الزمان، فإن القرآن الكريم مزق هذه العدة وهذه الجموع في معسكر الباطل، في رده على الذين قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ فقال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ / وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ / وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ / وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾(25).
قال المفسرون: إن قولهم هذا ينبغي أن يتعجب منه! فإنهم يحكمون فيما لا يملكون، فهذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرزقون. وهي رحمة منا. لا قدر لها ولا منزلة عندنا. وليست إلا متاعا زائلا. نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم. فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى.
وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد. فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها عمن شاؤوا. إن متاع الدنيا من مال وزينة، لا قدر لها عند الله سبحانه ولا منزلة، ولولا أن يجتمع الناس على الكفر لو شاهدوا تنعم الكافرين، لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة. ودرجات عليها يظهرون بغيرهم، وكل هذا لا قيمة له في الآخرة التي جعلها الله للمتقين سعادة دائمة وفلاح خالد(26). إن معيار الذهب والفضة والسلاح والجموع، لا يصلح إلا في خيام ومعسكرات الانحراف، فهذه المكاييل إذا كان يمتلكها كافر فلا يحق ولا يجوز له أن يحدد النبوة على أساسها، لأنه يستعمل مكيال لا قدر له ولا منزلة في تحديد مصدر سعادة دائمة وفلاح خالد. إن الذي تكون مقدمته لا قدر لها ولا منزلة تكون نتائجه أيضا لا قدر لها ولا منزلة. ولقد دقت ثمود أوتادا لا قدر لها ولا منزلة. ومن خيمتهم اختنقت الأرض من الظلم، وبعد أن اتسع الشذوذ ظهر الذين ادعوا الحكم الإلهي، وظهر الأنبياء الكذبة، والهداة الكذبة، والفقهاء الكذبة، والأمراء الكذبة، ظهروا بعد أن أصبح المال يعسوبا ودليلا في عالم المجاعات والأهواء ومع ثقافة المال وهدايته. أصبح الحب مقتا، والنهار ليلا، والأمل يأسا، والسلم حربا، والفرح ألما، والسعادة شقاء ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾(27) ولما كانت مقدمة ثمود لا تنام ولا تكل شاء الله لها أن تجثوا تحت أقدام المسيح الدجال الذي يتاجر بالمال والأهواء.
والمسيح الدجال حذر منه جميع رسل الله وأنبيائه وهو خارج آخر الزمان لا محالة(28) ليتلقط أبناء الشذوذ والانحراف الذين أخلصوا لخيام معسكرات الانحراف ابتداء من يوم نوح عليه السلام ومرورا بعاد وثمود وقوم لوط. وانتهاء بأتباع عجل بني إسرائيل والتثليث والمسجد الضرار. إن الدجال سيلتقط كل من يمثل رقعة من رقعات الشذوذ ليذيقه الله عذاب الذل والخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب أليم.
المصدر:
الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.
1- سورة فصلت / 17.
2- مروج الذهب ج2/ ص47.
3- سورة فصلت / 17.
4- سورة العنكبوت / 38.
5- سورة فصلت / 14.
6- سورة الشعراء / 159.
7- سورة الحجر / 82.
8- سورة الفجر / 9.
9- ابن كثيرج4/ ص508.
10- مروج الذهب -المسعودي- ج2 / ص47.
11- الأنبياء -العاملي- ص104.
12- الفتح الرباني ج20 / ص46.
13- مروج الذهب ج2 / ص47، ابن كثير ج2 / ص228، تفسير الميزان ج10 / ص315.
14- سورة الشعراء / 141-152.
15- الميزان.
16- تفسير البغوي ج6 / ص232.
17- ابن كثير ج3 / ص343، البغوي ج6 / ص233.
18- الميزان.
19- سورة الشعراء / 153-154.
20- الميزان.
21- سورة القمر / 24-25.
22- ابن كثير ج4 / ص264، البغوي ج8 / ص135.
23- الميزان.
24- سورة الزخرف / 31.
25- سورة الزخرف / 32-35.
26- الميزان.
27- سورة هود / 68.
28- راجع سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال.