انحراف ثمود قوم صالح (ع) -3

7- سفك الدماء:

خرجت الناقة بلا حارس وبلا سائس في اليوم المحدد لها ومعها فصيلها (ابنها) وروي أن ثمود مشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها. لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يقتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق. ولد زنا لا يعرف له أب. يقال له: قدار. شقي الأشقياء. شؤم عليه. فجعلوا له جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده. تركها حتى شربت وأقبلت راجعة. فقعد لها في طريقها. فضربها بالسيف ضربة. فلم تعمل شيئا.

فضربها ضربة أخرى فقتلها. وخرت على الأرض على جنبها. وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل. فرغا ثلاث مرات إلى السماء(1) وروي أن جماعة تبعوا فصيلها لما هرب منهم فرماه أحدهم بسهم فأصابه في قلبه. فسقط على الأرض ثم جروه برجليه وأنزلوه. ووضعوا لحمه مع لحم أمه واقتسموه بينهم(2).

وروى ابن كثير أنها عندما شد عليها قدار بالسيف. خرت ساقطة إلى الأرض. ورغت رغاء واحدا تخدر سقبها (فصيلها) ثم طعنها قدار في لبتها فنحرها، وانطلق سقبها (فصيلها) حتى أتى جبلا منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا .. وقال ابن كثير يقال إنه رغا ثلاث مرات وأنه دخل في صخرة فغاب فيها.

ويقال: إنهم اتبعوه فعقروه مع أمه(3) وبلغ الخبر صالحا (عليه السلام). فجاءهم وهم مجتمعون فلما رأى الناقة بكى وقال: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾(4) وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء(5) وكان الله تعالى قد أوحى إلى نبيه صالح: أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم منها ضرر. ولم يكن لهم فيها ضرر. وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام. فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم .. وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث .. فلما أبلغهم صالح (عليه السلام) الذي أوحاه إليه ربه. اشتدوا وعتوا وتمردوا وقالوا: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾(6).

لقد عقروا الناقة وابنها. واقتسموا لحم الابن وأمه بينهم، لقد أكل القوم ناقة الله! أكلوا ناقة الله! ما هذا؟ على أي درب من دروب الانحراف كان يقف هذا النمط من بني الإنسان؟ وعندما أكلوا .. دعاهم نبيهم للاستغفار، فقالوا كما قال كفار قوم نوح وقوم هود من قبل: (ائتنا بما تعدنا) فعلى أي شاطئ من الوحل كان يقف هذا النمط؟ لقد خرجوا على الكون، والصخور التي صنعوها لتكون لهم سكنا يحميهم من الرياح لن تقف حائلا بينهم وبين ما يستحقون من عقوبة، ولن تبكي عليهم الأرض ولا السماء وسوف يلعنون على امتداد الرحلة البشرية داخل معسكرات الذين آمنوا.

لقد عقروا ناقة الله، وعندما عقروها قال لهم الله: (تمتعوا) .. يا لعظمة الانتقام. (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) عقروا ناقة الله التي لا أب لها ولا أم. الناقة التي خلقها الله عن طريق الإعجاز كما خلق آدم. لتكون حجة عليهم ومقياسا للماء في ديارهم. وبعد أن عقروها. قال لهم رب العالمين العزيز الصبور: (تمتعوا) يتمتعون في مدينتهم. ويتنعمون بالحياة. ويتلذذون بأنواع النعم. ثلاثة أيام. يتمتعون بالحياة الرخيصة، التي صدوا عن سبيل الله من أجلها، وقتلوا من أجلها ويتلذذون بما لديهم من نعم ظنوا أنها تقودهم إلى السعادة! وبعد ذلك سيعلمون الحقيقة في وقت لا يجدي فيه الندم.

8- محاولة قتل صالح (عليه السلام):

عندما رفض القوم التوبة والاستغفار بعد قتل الناقة، وعدهم صالح (عليه السلام) بالعذاب، وكان ذلك يوم الأربعاء يقول المسعودي: فقالوا له مستهزئين: يا صالح متى يكون ما وعدتنا به من العذاب عن ربك؟ فقال: تصبح وجوهكم يوم مؤنس (الخميس) مصفرة. ويوم العروبة محمرة. ويوم شبار مسودة. ثم يصبحكم العذاب يوم أول(7) وعندما أعلن صالح (عليه السلام) عليهم هذا، كان بالمدينة تسعة رهط(8)، وهم التسعة الذين أخبر الله عنهم في كتابه. بقوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(9)، يقول ابن كثير: عن هؤلاء التسعة إنهم كانوا كبراء ثمود ورؤساءهم(10). وقال البغوي: كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح(11). فهؤلاء الجبابرة اجتمعوا بعد عقر الناقة.

وبعد أن أخبرهم صالح (عليه السلام) بالعذاب الذي سيحل بهم. وأصدروا قرارا بقتل صالح (عليه السلام). حتى يستطيعوا العيش كما يريدون. ولا ينغص عليهم أحد هذا العيش. فلقد عقروا الناقة وأكلوها، ولم يبق إلا الرسول والدعوة، فإذا قتل صالح، فلن يتبقى غير المستضعفين. وهؤلاء تقومهم السيوف التي قتلت الناقة.

يقول المسعودي: فهم التسعة بقتل صالح وقالوا: إن كان صادقا (فيما أخبرهم بالعذاب) كنا عاجلناه قبل أن يعاجلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته(12). وقام الجبابرة بتحديد خطوات تنفيذ جريمتهم. وقد أخبر الله تعالى عن خطوطها العريضة فقال: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ / قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ / وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(13).

قال المفسرون: قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله. لنقتلن صالحا وأهله بالليل (لنبيتنه وأهله) فالتبيت القصد بالسوء ليلا، وبعد عملية قتله يقولون لوليه إذا حدث وعرفهم. ما شهدنا هلاك أهله. وفي هذا مكر منهم، لأنهم عندما ينفون مشاهدتهم لمهلك أهل صالح (عليه السلام) فإنهم في نفس الوقت ينفون مشاهدة مهلك صالح نفسه. وأيضا بنفيهم مشاهدة مهلك أهل صالح يضعهم في دائرة الصدق أمام القوم، لأن الحقيقة أنهم شاهدوا مهلك صالح وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط.

إن ثمود تحرت الدقة في تنفيذها للجريمة كي يبدوا الجبابرة بملابسهم الفاخرة أمام القوم في دائرة الصدق والشرف والمروءة ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أما مكرهم فهو التواطؤ على تبييته وأهله، والتبييت كما ذكرنا السوء بالليل. وأما مكره تعالى. فهو تقديره سبحانه هلاكهم جميعا. يقول المسعودي: فأتوه ليلا، فحالت الملائكة بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة ومنعه الله منهم(14) وقال ابن كثير والبغوي: قال هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالح، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته.

فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله. فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطأوا على أصحابهم. أتوا منزل صالح فوجدوهم (أي أصحابهم) منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا، وإن كان كاذبا، فأنتم من وراء ما تريدون. فانصرفوا عنهم(15).

﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ / فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(16) لقد ضربتهم الحجارة يوم الأربعاء.

اليوم الذي عقروا فيه الناقة. ضربتهم قبل قومهم، ليذوق القوم عذاب الذل.

وهو يرى جبابرته وشيوخه وسادته. يسبحون في بحر من الدماء أمام بيت صالح (عليه السلام). لقد قتلوا في الخلاء بعيدا عن بطون الجبال وأحشائها. وهم الذين قضوا حياتهم يحفرون في الصخر ليوفروا لأنفسهم نوما آمنا ومعيشة آمنة. لقد شاهدوا شيوخهم في العراء بعد أن أعطوهم بيعة إلى الأبد ليقتلوا بها كل طاهر حتى يعيش الجبابرة وفقهاؤهم وجنودهم في أمان. فها هم الجبابرة محت الحجارة ملامحهم، وها هم الغوغاء والرعاع الذين يرقصون مع كل قرد ينتظرون ألوانا ثلاثة على وجوههم: صفراء، ومحمرة، ومسودة، وبعد ذلك يأخذهم العذاب الأليم. كي يلحق التابع بالمتبوع.

9- يوم الصيحة:

بعث الله تعالى في ثمود رسولا منهم فكذبوه. وأيد سبحانه رسوله فيهم بآية مبصرة هي الناقة فعقروها، والله تعالى عندما يرسل آياته إنما يرسلها تخويفا للناس ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها وأفظع. ولكن ثمود لم يخافوا وتقبلوا العادة المتوارثة على ما هي عليه، عادة آبائهم كفار قوم نوح وقوم هود الذين قالوا لكل رسول عندما أنذرهم عذاب الله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وعندما وعدهم صالح (عليه السلام) بأن العذاب نازل بهم في ثلاثة أيام هموا بقتله ولكن الله حال بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة. ومنعه الله منهم.

عندما أصبح القوم نظروا إلى وجوههم كما وعدهم صالح. فوجدوا اللون الأصفر على وجوههم وهو علامة اليوم الأول. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها! ولم يتوبوا ولم يرجعوا! فلما كان اليوم الثالث أصبحوا وجوههم مسودة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح(17).

وهكذا أدار الجبابرة العتاة معركتهم مع التوبة! لقد جرى في عروقهم الدم والموت، ولكن الاستكبار الذي نقب الصخور! أقام الدليل على أنه التلميذ الوفي لآبائه الذين كانوا بدورهم أوفياء للشيطان، وفي اليوم الأخير دقق العتاة في كل شق بكل صخرة وبكل جدار، وعلموا أنهم لن يفعلوا بمشاعلهم شيئا في الظلام .. وعندما أصبحوا من يوم الأحد. تغيرت الأجسام. وتيقن القوم صدق الوعد وأن العذاب واقع بهم. فجلسوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب؟(18) وأوحى الله تعالى إلى صالح (عليه السلام) بالخروج، وخرج صالح في ليلة الأحد من بين ظهرانيهم مع من خف من المؤمنين فنزل موضع مدينة الرملة من بلاد فلسطين، وآتاهم العذاب يوم الأحد(19) آتاهم جبرائيل (عليه السلام) فصرخ لهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، وكانوا قد تحنطوا وتكفنوا في الأيام الثلاثة بعد أن علموا أن العذاب نازل بهم لا محالة، فماتوا جميعا في طرفة عين. صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا رعية ولا شئ إلا أهلكه الله، فأصبحوا في ديارهم موتى، وأرسل الله تعالى إليهم مع الصيحة نار من السماء فأحرقتهم أجمعين(20).

قد ذكر الله تعالى أن سبب هلاكهم أنهم أخذتهم الرجفة فقال تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(21) وفي موضع آخر قال سبحانه: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾(22) وفي موضع ثالث قال سبحانه: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾(23) والرجفة والصيحة والصاعقة دثار واحد لعذاب واحد أحاط بالظالمين من كل مكان وهذا العذاب عنوانه العريض هو الدمدمة. يقول تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَ / فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا / وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾(24) والدمدمة على الشئ: الإطباق عليه. يقال مثلا: دمدم عليه القبر. أي أطبقه عليه.

والدمدمة على ثمود أي شملهم الله بعذاب يقطع دابرهم بسبب ذنبهم. فسوى الدمدمة بينهم. فلم يفلت منهم قوي ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. وتحت عنوان الدمدمة تكون الصواعق التي لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها ومع هذا وذاك ترتجف الأرض نتيجة لملامسة الاهتزاز الجوي الشديد لها، ونتيجة لذلك توجف القلوب. وترتعد الأركان، فثمود جاء إليها العذاب الأليم من تحت دثار الدمدمة، عذاب تحمله صاعقة سماوية اقتربت الصيحة هائلة ورجفة في الأرض وفي قلوبهم. فأصبحوا في دارهم وفي بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم، لقد ضربتهم صيحة واحدة أصبحوا بعدها كالشجر اليابس كما أصبحت. عاد من قبل كجذوع نخل خاوية. يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾(25) أصبح العتاة وفقهاء الجبابرة كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته .. إنه عدل الله، لقد عقروا ناقة الله، واستكبروا أن تأكل وتشرب في أرض الله، فجعلهم الله في مماتهم كشجر لا يصلح إلا للدواب، ولقد رفعوا رقابهم أمام صالح (عليه السلام) وتطاولوا على الذين آمنوا. فجعلهم الله في مماتهم ساقطين على وجوههم وركبهم. ولقد شيدوا دورهم ومساكنهم داخل الصخور وتطاولوا بها على المستضعفين من الذين آمنوا ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ / فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ﴾(26) أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم ليفروا من عذاب الله. وهو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم(27).

لقد أطبق العذاب على ثمود فلم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم .. لقد حفروا في الصخور كي يتجنبوا الرياح المهلكة التي أطاحت بعاد. لكن العذاب جاءهم من طريق أسرع من الرياح. لقد حفروا في الصخور مخافة الموت فجلسوا فيما حفروا ينتظرون الموت. بعد أن تأكدوا من أن الذي وعدهم به صالح من عذاب آت لا ريب فيه. وأن عليهم أن يدفعوا ثمن خيانتهم للفطرة ولأنفسهم وللرسول وللمعجزة وللكون كله الذي ساروا فيه في عكس اتجاهه. لقد جلسوا وتحنطوا وتكفنوا ولم يعد في ثمود من يثق في أي قول يقال له من العتاة الذين وثنوا الفطرة ومهدوا السبيل لثقافة الانحراف والشذوذ وصدوا عن سبيل الله، لم يعد هناك من يثق في قول العتاة وذلك في وقت لن يجدي فيه الندم، بعد أن أطاحوا بالتوبة والاستغفار يوم أن دعاهم نبيهم إليها.

كان كل فرد في ثمود لا يثق إلا في كفنه، ذلك الشر الذي يطرد الشر من على صفحة هذه الأرض، وبينما هم في الأكفان جاءتهم الرجفة التي لم يعملوا لها حساب وفقا لمقاييس فروع الهندسة في عالم العتاة. والرجفة هي الاضطراب والاهتزاز الشديد كما يحدث في زلزلة الأرض وتلاطم البحر، وعندما ضربتهم، الرجفة أصبحوا في بيوتهم جاثمين، والجثوم في الإنسان كالبروك في الإبل، لقد برك الجبابرة وأتباعهم كل داخل دياره وعلى أبدانهم أكفانهم ليذوقوا عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد. جثوا في بطون الجبال ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ / فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(28) لقد جرى عليهم العذاب وفق ما يأذن به الله. وبينما كانت الدمدمة تحيط بهم من كل جانب. كان صالح (عليه السلام) ومن معه لا يخافون، لأنهم في رحاب الرحمة وداخل دائرة الأمن التي لا يشملها الغضب الإلهي ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ / كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾(29) ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ / وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾(30).

وذهبت ثمود. بعد أن جعلها الله عبرة لكل من يعرض عن آيات الله. لقد كانت الناقة بينهم وتعيش على أرضهم وتنفعهم ولا تضرهم. ولكن قلوب الحجر التي في الصدور أعرضت عن آيات الله. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون إن وجود آية بين الناس حجة بالغة. وقتل هذه الآية جريمة من أعظم الجرائم يترتب عليها فتح أبواب الفتن وأبواب العقاب.

لقد ذهبت ثمود ومن بعدها جاءت أمم أخذت منها سلاحها وأقوالها وأفعالها. ثم قامت بتطوير هذه الأدوات وهذه الثقافات وفقا للعصور التي ابتليت بهم. وقامت هذه الأمم ببناء أكثر من جرف صخري وراء جدر النفس من أجل الصد عن سبيل الله، ولكن تحت السماء لا يفر الظالمون.. واللسان والقلم في كل عصر مستعدان دوما لأن يحكيان القصة الأخيرة عند المحطة الأخيرة لهذه الأمم. لأن سقوط الباطل علامة من علامات الحق. فالباطل طارئ لا أصالة له في الوجود. والباطل مطارد من الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله. إن الباطل مهزوم مهزوم. ولن تبقى إلا آثاره التي تفوح بالأبخرة النتنة الكريهة تلك الأبخرة التي أنتجها الضمير الآثم على مر العصور.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- الميزان ج10 / ص315.

2- كتاب الأنبياء ص106.

3- ابن كثير ج2 / ص229.

4- سورة هود / 65.

5- ابن كثير ج2 / ص229، مروج الذهب.

6- كتاب الأنبياء ص106.

7- مروج الذهب ج2 / ص48.

8- الرهط الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين.

9- سورة النمل / 48.

10- ابن كثير ج3 / ص367.

11- البغوي ج6 / ص291.

12- مروج الذهب ج2 / ص48، ابن كثير ج2 / ص229.

13- سورة النمل / 48-50.

14- مروج الذهب ج2 / ص48، البغوي ج6 / ص293.

15- ابن كثير ج3 / ص368، البغوي ج6 / ص293.

16- سورة النمل / 50-51.

17- الميزان ج10 / ص316.

18- ابن كثير ج2 / ص229.

19- مروج الذهب ج2 / ص48.

20- الميزان ج10 / ص316.

21- سورة الأعراف / 78.

22- سورة هود / 67.

23- سورة فصلت / 17.

24- سورة الشمس / 13-15.

25- سورة القمر / 31.

26- سورة الذاريات / 44-45.

27- الميزان ج10 / ص381.

28- سورة الحجر / 82-84.

29- سورة هود / 67-68.

30- سورة النمل / 52-53.