انحرافات قوم لوط (ع) -2

2- استعجال العذاب:

لبث لوط في قومه ثلاثين سنة، يدعوهم إلى الله عز وجل. وكانوا لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة(1) ولم ييأس لوط (عليه السلام) من دعوتهم، وكانوا قد حذروه من قبل أنه إذا لم ينته فسيطرد من القرية! لقد أراد أصحاب الدنس أن يقطعوا شعاع الرحمة النازل من السماء، وليس في الوجود أشد حمقا من مثل هؤلاء. إنهم ينامون في الدنس والعار، ولا يريدون أن يستيقظوا على صوت يدعوهم إلى التفكير في أحوالهم من منطلق فطري. حتى ولو كان هذا صوت الوحي! إن هذا النوع من الناس ضيق الأفق لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الشيطان، ويكفيهم عارا أن الشيطان زين لهم أدبار الذكران وغواهم في هذه الجزئية، فاعتبروها دستورا لحياتهم.

لقد طالبوا لوطا (عليه السلام) بالصمت لكن لوطا نبي ليس له إلا أن يبلغ رسالة ربه. وعندما قام لوط بالبلاغ أصدروا عليه قرار الطرد! يقول تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ / أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾(2).

لقد خاطب الإحساس فيهم، فقال: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء!!(3) ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أي بل أنتم قوم مستمرون على الجهل ولا فائدة في توبيخكم والإنكار عليكم(4) فماذا كان جواب القوم؟ أعلنوا إعلانهم بإخراج آل لوط من القرية.

وسبب قرار الطرد: أن آل لوط يتنزهون عن هذا بالعمل(5) أو يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقرارهم على صنيعهم، فإخراجهم من بين أظهرهم فإنهم لا يصلحون لمجاورتهم في بلادهم(6)!! وقرار الإخراج ورد أيضا في سورة الأعراف ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ / إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ / وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(7).

أخبرهم أن ما يفعلوه لم يفعله أحد من الأمم والجماعات من قبل، وأنهم بهذا العمل تعدوا على سبيل الفطرة، فترك سبيل النساء والاكتفاء بالرجال إسراف وجهل لأنه وضع للشئ في غير محله. ولم يكن يجد القوم جوابا على خطاب لوط.

لقد كان خطاب لوط فيهم ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء﴾ فجاءت إجابتهم عليه ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ لقد وضعوا ما ليس بجواب موضع الجواب وفي هذا دلالة على سفههم. وعندما أصدروا قرار الطرد أنذرهم لوط (عليه السلام) بالعذاب يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾(8) أي خوفهم أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه(9) ولم يلتفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه(10).

وفي عالم الجدل العقيم اتسعت دائرة الشذوذ أكثر فأكثر وبدأ القوم يعملون من أجل تصدير فاحشتهم، فقطعوا الطرق وعندما ابتعد المارة عن طرقهم حين شاع أمرهم صاروا يطلبون الرجال من البلاد، ويدفعون على ذلك المال(11).

وعند هذا الحد أنذرهم لوط (عليه السلام) العذاب الأليم، لأن القوم بدأوا يحاربون الفطرة في أرض الله الواسعة، لكنهم كعهدهم لم يسمعوا ولم ينصتوا إلى صوت الحق.

وروي أن إبراهيم (عليه السلام) كان يأتي قوم لوط فيقول لهم: أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته. فلم يطيعوه(12) وأنذرهم لوط (عليه السلام) الإنذار الأخير.

وكان جوابهم عليه هو أيضا الجواب الأخير ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ / أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ / قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾(13).

لقد كشف لوط (عليه السلام) عن الأهداف التي ستنتهي إليها أقدام هذا الفتات الآدمي المهلهل. الذي شق فيه الشيطان شقوقه وقدم له حلول قضاياه.

فأخبرهم أن فعلهم هذا سيؤدي إلى إهمال طريق التناسل. وهذه جريمة لا تعادلها جريمة. كما أن فعلهم هذا سيؤدي إلى ثقافة تكون وصمة عار في جبين البشرية.

قال المفسرون: قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل إهمال طريق التناسل وإلغاؤها وهي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء وترك نكاحهن(14) فقطع النسل دوران في عكس اتجاه حركة الوجود. وعدم الاستقامة مع حركة الكون يؤدي إلى الضرب وعذاب الاستئصال. أما الورقة الثقافية التي ستنتج عن جريمة قوم لوط.

يقول المفسرون: قوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ النادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه. ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله. فوسط الأهل يأتون بالفحشاء أو بمقوماتها الشنيعة على مرأى ومسمع من الجميع(15) إنها ورقة ثقافية قابلة للتصدير في عالم يعج بالأوثان والشهوات والرقيق والأهواء.

وقيل إن المراد بقطع السبيل: قطع سبيل المارة بديارهم، فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم، وكانوا يرفعون ابن السبيل بالخذف. فأيهم أصابه كان أولى به. فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضي بذلك(16)! ولكن السياق يقضي بخلاف ذلك.

وقد يكون قد فعلوا ذلك. ولكن قطع السبيل بإهمال طريق التناسل وإلغاؤها هو الذي تدل عليه آيات القرآن في أكثر من موضع كما سيأتي وقيل إن إتيان المنكر في النادي هو أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مر بهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط (17).

لقد بين لهم لوط (عليه السلام) أن عملهم يقطع النسل ويشوه الوجه البشري خزيا وعارا. لكن القوم لم يروا أن في هذا إخلالا بالشرف لأنهم لا يعرفون ما هو الشرف. وأصروا على أن يكتبوا أسماءهم في قائمة الاستئصال وهم مختارون ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ لقد استهزئ أهل اللواط وسخروا، كما استهزء من قبلهم الأكثر منهم فحولة وذكورة.

وأمام طلبهم لم يملك لوط (عليه السلام) إلا أن يقول: ﴿رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ دعاء منه عليهم. وقد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض ويقطع النسل ويهدد الإنسانية بالفناء(18).

3- ملائكة البشرى والعذاب:

كان إبراهيم (عليه السلام) في مكان قريب من مكان القوم الذين أرسل إليهم لوط (عليه السلام)، فبعد ارتحالهم من العراق إلى بلاد الشامات وفلسطين، استقر لوط (عليه السلام) في بلاد الأردن على الأظهر، وكانت قريته التي حل بها وسكنها اسمها (سدوم) ويجاورها قراها الخمس.

وذكر المسعودي: "أن هذه بلاد بين تخوم الشام والحجاز مما يلي الأردن وبلاد فلسطين إلا أن ذلك من خير الشام"(19) فهذا مكان لوط (عليه السلام).

أما مكان إبراهيم (عليه السلام) فكان في قلب الأرض التي بارك الله حولها في فلسطين. فالمسافة كانت تسمح بالتزاور بينهما. والذي نقصده من قرب المسافة أن نضع مكان إبراهيم ومكان لوط على لوحة واحدة، وننظر فيها بإمعان فإبراهيم (عليه السلام) هناك كان قد مسه الكبر، وكانت زوجته عجوزا عقيما. وقضية أن يكون لهما ولد قضية بمقاييس البشر مستحيلة. فالولد من رجل مسه الكبر وامرأة عجوز عقيم لا يأتي إلا بمعجزة خارقة للعادة وبأمر (كن) هذا هو الحال في فلسطين، أما في سدوم فالأمر مختلف، فهناك اتفاق شيطاني للقضاء على النسل. فالغلام والشاب والرجل والكهل.

ردوا على رسالة لوط إليهم بطريقة عملية تستقيم مع طريقة الذين رفضوا البشر الرسول من قوم نوح وعاد وثمود، فالأوائل رفضوا بشرية الرسول لأنهم يمتلكون ما لا يمتلكه الرسول، أما قوم لوط فرفضوا البشرية جمعاء بقطعهم السبيل، وهذا الرفض صورة معدلة من الرفض الشيطاني حين أمر بالسجود لآدم فقال: أنا خير منه! فالصورة الشيطانية لفقه أنا أخير منه ارتدى أكثر من رداء على امتداد المسيرة البشرية وجميع الأردية تصب في هدف واحد هو الصد عن سبيل الله.

إذ إبراهيم (عليه السلام) يقف على أرضية جدباء لا ولد فيها وهو ممتلئ بالرضا، وقوم لوط هناك يقفون على أرضية يمكن أن يكون عليها الخصب والولد ولكنهم أسرفوا وأفسدوا وقالوا لنبيهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. لقد وقفوا في خندق المحاربة لله. ومن حارب الله قصمه الله وقطع دابره. إن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة. وما تسقط من ورقة في هذا الكون الفسيح إلا يعلمها.

لقد انطلق إبراهيم ولوط من العراق إلى الأرض الجديدة رافعين راية التوحيد والفطرة وعلى رقعة واحدة بدأ كل منهما في تنفيذ ما أمره الله تعالى به. إبراهيم في أعلى الشامات يرفع راية التوحيد والفطرة ولوط في أدنى الشامات يرفع نفس الراية وسط فتات آدمي مهلهل زين له الشيطان وغواه واحتنكه وأذله. وبين الرايات جاء حكم الله أن الشيخ الفاني والعجوز العاقر ينجبان الولد. ويبشران بعد الولد بولد. وأن الفتات الآدمي مقطوع دابره والله غني عن العالمين. لا وجود الشباب يغنيه ولا وجود الشيوخ يفقره. فسبحان الذي لا يحتاج إلى حمد الحامدين وشكر الشاكرين. وعندما قضى الله بالولد في أعلى الشامات وبالعذاب في أدناها حملت الملائكة خبر البشرى والعقاب.

1- خبر البشرى:

أنذر لوط (عليه السلام) قومه من بطش الله، فقالوا ائتنا بعذاب الله، ونزلت الملائكة ومعهم ما طلبه القوم، لكنهم قبل أن يصبوه على أهل الفحشاء والمنكر والدنس نزلوا أعلى الشامات بالبشرى على إبراهيم خليل الله. يقول تعالى: ﴿أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ / إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ / فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ / فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ / فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾(20).

قال المفسرون: عندما دخلوا على إبراهيم جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة.

ولم يمنن عليهم أولا فيقول نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء. وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتى سمين فقربه إليهم. لم يضعه وقال اقتربوا. بل وضعه بين أيديهم. ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ على سبيل العرض والتلطف(21).

وإبراهيم (عليه السلام) فعل ما فعل عندما رأى هيئتهم الحسنة عندما مروا عليه وسلموا عليه وهم معتمون. عندئذ قال إبراهيم: لا يخدم هؤلاء إلا أنا نفسي وكان (عليه السلام) صاحب ضيافة. وعندما شوى العجل وقربه إليهم. رأى أيديهم لا تصل إليه. فنكرهم وأوجس منهم خيفة. فلما رأى جبرائيل (عليه السلام) ذلك. حسر العمامة عن وجهه. فعرفه إبراهيم: فقال: أنت هو؟ قال: نعم(22) ثم قالوا له: لا تخف وبشروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنا وسرورا(23).

فماذا كان موقع البشرى على الشيخ الذي مسه الكبر وزوجته العجوز العقيم؟ فأما إبراهيم (عليه السلام) فقد قال: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ / قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ / قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾(24).

قال المفسرون: تلقى إبراهيم (عليه السلام) البشرى وهو شيخ كبير هرم. لا عقب له من زوجه ولذا تعجب من قولهم. واستفهمهم.

كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه عجوز عقيم. والمعنى: إني لأتعجب من بشارتكم إياي. والحال أني شيخ هرم فنى شبابي وفقدت قوى بدني. والعادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه(25) وأمام تعجب إبراهيم قالوا: ﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أي أن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه. فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله.

فقال إبراهيم: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ أي أن القنوط من رحمة الله ما يختص بالضالين. ولست أنا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد(26).

أما موقع البشرى على زوجة الخليل. فإنها عندما سمعت ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾(27) لقد وجدت نفسها أمام مفاجأة. فما لبثت أن قالت بكلمات ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ ﴿أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ﴾ ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ ثم أجملت ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ومورد التعجب أنها لما سمعت بشارة الملائكة. تمثل لها الحال. كيف يولد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر ولا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب.

ولقد أنكرت الملائكة تعجبها وقالوا: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾ أضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب واستغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شئ عليها فهو سبحانه الخالق لكل شئ. ثم نبهوها بقولهم: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) وذلك لأن الله أنزل رحمته وبركاته عليهم أهل البيت. فليس من البعيد أن يكون من ذلك  تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك ﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ فهو تعالى مصدر كل فعل محمود ومنشأ كل كرم وجود، يفيض من رحمته وبركاته على من يشاء من عباده(28).

إن مولودا في أعلى الشامات أفضل عند الله من ملايين الملايين في أماكن أخرى. فالحق لا يغلب بالكثرة ولا يغلب لقلة، وطاهر واحد من صلب خليل الله خير من الدنيا وما فيها، وإنجاب الولد من والدين بالغين في الكبر صفعة على وجوه الأغبياء الذين لا يتدبرون في آيات الله ويدورون عكس دوران الوجود الذي لا يدور إلا على محور الفطرة.

2- خبر العذاب:

لما ذهب عن إبراهيم (عليه السلام) ما اعتراه من الخيفة بعد أن تبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا ولا يضمرون له شرا. وبعد أن جاءته البشرى بأن الله سيرزقه وزوجه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. وبعد أن بدل الملائكة خوف إبراهيم أمنا وسرورا قال إبراهيم للملائكة: ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ / قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ / لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ / مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾(29).

قال المفسرون: والمعنى (قال) إبراهيم (عليه السلام) ﴿مَا خَطْبُكُمْ﴾ والشأن الخطير الذي لكم ﴿أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ من الملائكة ﴿قَالُوا﴾ أي الملائكة لإبراهيم ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه. ومستقبل الكلام يعينهم من هم. وذلك عندما استثنوا في موضع آخر وقالوا: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ أي لوط وخاصته فظهر بذلك أن القوم قومه.

وإذا كان الملائكة هنا لم يسموا القوم، فإنهم في موضع آخر لم يسموا القرية التي يسكنها القوم صونا للسان عن التصريح باسمها تنفرا منه، فقالوا لإبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾(30).

قال المفسرون: والإتيان بلفظ الإشارة القريبة -هذه القرية- فيه دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها. وهي الأرض المقدسة. وبعد أن أخبر الملائكة إبراهيم (عليه السلام) بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين وأنهم مهلكوا أهل هذه القرية لأن أهلها كانوا ظالمين. أخبروه بالقوة التدميرية التي سيصبونها على رؤوس الظالمين فقالوا: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ طينا متحجرا سماه الله سجيلا (مسومة) معلمة (عند ربك للمسرفين) تختص بهم لإهلاكهم(31).

عندما سمع إبراهيم هذا الهول كان يعلم أن الله تعالى لا يعذب لوطا وهو نبي مرسل. وإن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته. فالله سبحانه ينجي عباده المخلصين عند ضربات الكون للظالمين من كل اتجاه. كما كان يعلم أن الظالم المفسد في الأرض يعرض نفسه لعقوبة الله. فإذا جاءته فلا يلومن إلا نفسه. لكنه (عليه السلام) عندما سمع من الملائكة ما سمع قال: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾(32).

قال المفسرون: كان يريد بقوله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾ أن يصرف الله العذاب عن أهل القرية كرامة للوط. نظرا لأن فيها القاصر والعاجز والطفل الصغير الذي لا جناية له. ولا جناح عليه. وكان قوله هذا نتيجة لرقة قلبه وصفاء طوياته (عليه السلام). فلم يملك نفسه أن بادر بالاستشفاع والجدال. فأجابته الملائكة: ﴿قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾(33) ولقد ذهب العديد إلى أن قوله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾ يعني أن يصرف الله العذاب عنهم لأن فيهم لوطا وإهلاك أهل القرية يشمله. وقول مثل هذا لا يستقيم مع أحداث أيام الغضب الإلهي. فالله تعالى بعث الريح على عاد فمزقت أجسادهم وأفئدتهم في الوقت الذي كان فيه هود (عليه السلام) وأتباعه تصل إليهم الريح بما يشيع فيهم الأمن.

والدليل على أن إبراهيم (عليه السلام) كان يجادل في قوم لوط وليس من أجل خوفه على لوط نظرا لأن إهلاك القوم يشمله قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ / إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ / يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾(34) فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه(35).

ويقول المفسرون: قوله تعالى: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام). وبيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا ويستقيموا. وكان كثير التأثر من ضلال الناس وحلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم لا أنه (عليه السلام) كان يكره عذاب الظالمين وينتصر لهم بما هم ظالمون وحاشاه عن ذلك.

وفي قوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ قطع للجدال. حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب. عنهم لن يثمر، فإن القضاء حتم. والعذاب واقع لا محالة. فقولهم: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ أي انصرف عن هذا الجدال ولا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع ولا يتبدل بمبدل ﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم ولا معقب لحكمه(36).

ومن عند المكان الذي تلقى فيه إبراهيم البشرى وسمع خبر العقاب انطلق الملائكة في اتجاه القرية الظالمة التي أرادت أن تسن سنة يعطل بها النسل وتحط ردائها تشيع الفواحش وثقافة الانحطاط. انطلق الملائكة بعد أن وضعوا في ذاكرة المؤمنين معجزة المولود.

والمعجزة لم توضع في الذاكرة الإيمانية بمفردها وإنما وضع بجانبها خبر العقاب. ليكون المشهد مولود هنا واستئصال هناك. مولود هنا يحمل رسالة واستئصال هناك لجموع خفيرة بلا رسالة وبلا هدف يجلدون فطرتهم ويلاحقون الضمير في كل مكان. لقد وضعوا في الذاكرة الإيمانية أن الذين يقطعون السبيل لا يملكون شيئا لأن الذي يجري الماء قادر على أن يجريه في أي مكان وزمان. وإن قاطع السبيل لا يمكن أن يفر من تحت السماء.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- كتاب الأنبياء ص162.

2- سورة النمل / 54-56.

3- الميزان ج5 / ص376، البغوي ج6 / ص594، ابن كثير ج6 / ص694.

4- الميزان ج15 / ص376.

5- الميزان ج15 / ص376.

6- البغوي ج6 / ص294، ابن كثير ج3 / ص368.

7- سورة الأعراف / 80-82.

8- سورة القمر / 36.

9- الميزان ج19 / ص81.

10- البغوي ح8 / ص137.

11- كتاب الأنبياء ص162.

12- ابن كثير ج3 / ص454.

13- سورة العنكبوت / 28-30.

14- الميزان ج15 / ص123، ابن كثير ج6 / ص389، البغوي ج6 / ص389.

15- الميزان ج15 / ص123.

16- ابن كثير ج6 / ص389.

17- البغوي ج6 / ص389.

18- الميزان ج15 / ص124.

19- مروج الذهب ج1 / ص42.

20- سورة الذاريات / 24-28.

21- ابن كثير ج4 / ص235.

22- الميزان ج10 / ص328.

23- الميزان ج15 / ص378.

24- سورة الحجر / 54-56.

25- الميزان ج12 / ص181، ابن كثير ج2 / ص554.

26- الميزان ج12 / ص181، البغوي ج5 / ص22.

27- سورة هود / 72-73.

28- الميزان ج10 / ص325.

29- سورة الذاريات / 31-34.

30- سورة العنكبوت / 31.

31- الميزان ج12 / ص183، ج18 / ص378، البغوي ج8 / ص69.

32- سورة العنكبوت / 32.

33- سورة العنكبوت / 32.

34- سورة هود / 74-76.

35- الميزان ج16 / ص125.

36- الميزان ج10 / ص327.