انحرافات قوم لوط (ع) -1

﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(1)

المؤتفكة وأمطار بلا ماء

إنحراف الماء

مقدمة:

بعد استئصال ثمود ذكر القرآن الكريم قوم لوط. ولوط (عليه السلام) كان في فاتحة دعوة إبراهيم (عليه السلام) .. فهو من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام)، وهاجر معه إلى الأرض المقدسة، ثم بعثه الله تعالى إلى قومه في المكان الذي استقر فيه. ولأن أحداث استئصال قوم لوط تتداخل معها بعض مواقف إبراهيم (عليه السلام). رأينا أن نسلط الأضواء على المسيرة الإبراهيمية الطاهرة فيما يتعلق بمشاركتها لمسيرة لوط (عليه السلام).

قافلة الفطرة:

بعد نوح (عليه السلام) هاجرت القوافل من حول الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح، فنزل عاد إلى الأحقاف ونزل ثمود إلى الحجر كما ذكرنا، وقال المسعودي: "وسار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطع نيل مصر ثم افترقوا فسارت منهم طائفة ميمنة بين المشرق والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج، وسار فريق منهم نحو المغرب وهم أنواع كثيرة .."(2) ونزل طسبم وجديس ابنا لاوز بن أرام إلى اليمامة والبحرين ومعهما أخوهما عمليق بن لاوز بن إرم. ومنهم العماليق. تفرقوا في البلاد ونزل أخوهم أميم بن لاوز أرض فارس.

ونزل ماش بن إرم بن سام بابل على شاطئ الفرات فولد نمرود بن ماش وهو الذي بنى الصرح ببابل. وملك خمسمائة سنة. وهو ملك النبط. وفي زمانه فرق الله الألسن.

فجعل في ولد سام تسعة عشر لسانا، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لسانا، وتشعبت بعد ذلك اللغات وتفرقت الألسن، وتفرق الناس في البلاد، وولد أرفخشد بن سام بن نوح شالخ. فولد شالخ فالخ بن شالخ "الذي قسم الأرض وهو جد إبراهيم (عليه السلام)" وعابر بن شالخ وابنه قحطان بن عابر وابنه يعرب بن قحطان. وقحطان أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم بالعربية لإعرابه عن المعاني وإبانته عنها، ويقطن بن عابر بن شالخ هو أبو جرهم. وجرهم بنو عم يعرب، وكانت جرهم ممن سكن اليمن وتكلموا بالعربية. ثم نزلوا بمكة فكانوا بها(3).

لقد تفرقت القبائل وتعددت الألسن، وتعددت دوائر الشذوذ وخطوط الانحراف عن الصراط المستقيم، فكان إبراهيم (عليه السلام) رحمة من الله للبشرية جمعاء، بعثه الله في هذا الاتساع الذي يموج بالفتن، ليكون أبا للمسلمين وليواجه الانحراف ويبطل عقائد التعدد وربوبية النجوم والنار ويدعو إلى عبادة الله الواحد.

وإذا كان نوح (عليه السلام) يعتبر أبا للبشرية بعد الطوفان، فإن إبراهيم (عليه السلام) هو أبو الأنبياء وإليه تنتهي أنسابهم. وإذا كان نوح قد نجاه الله من الغرق لتبدأ البشرية صفحة جديدة، فإن الله سبحانه نجا إبراهيم من الحريق إيذانا بمنطلق جديد للدعوة إلى الله في عالم البشر الفسيح -لقد كان نوح (عليه السلام) بداية وكان إبراهيم (عليه السلام) بداية- والبداية هنا لا تختلف عن البداية هناك، لأن كلا منهما من الصراط المستقيم وعليه يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ﴾(4) إنها البداية .. النبوة والكتاب، فالله تعالى يخبر أنه منذ بعث نوحا (عليه السلام) لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته.

وكذلك إبراهيم (عليه السلام) لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته(5) كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ والبداية عند إبراهيم (عليه السلام) لا تخرج إلا من البداية عند نوح (عليه السلام) يقول تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ / إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ / ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ / وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾(6) والشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم.

وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر(7) (وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه. وقيل: على منهاجه وسنته(8).

فنوح (عليه السلام) وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي نقب الحجارة وقال من أشد منا قوة؟ وتصدوا للإستكبار الذي تصدى لآيات الله وعقر الناقة فلم تغن عنهم بيوت الحجارة من الله شيئا.

وإبراهيم (عليه السلام) وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي انطلق من قلوب أشد قسوة من الحجارة. وتصدوا للإستكبار الذي عقر كل فضيلة من وراء جدر النفس التي استولى الشيطان على ملكاتها. وتصدوا للفتات الآدمي الذي اتخذ إلهه هواه. وإذا كان هنالك وفي عصر نوح وذريته من أنبياء الله فتات رفض بشرية الرسول فإن في عصر إبراهيم وذريته من أنبياء الله. يوجد أيضا هذا الفتات، وهذا الرفض انتهى آخر الأمر إلى اتخاذ الأهواء آلهة. فألوهية الهوى ابن طبيعي لعقيدة رفض الرسول البشر، فالذين رفضوا الرسول البشر لأنهم يماثلونه في البشرية ويملكون من زخرف الحياة ما لا يملكه، ساقهم الشيطان إلى دائرة الأنانية والطمع ثم إلى دائرة حب الذات فدائرة عبادة الذات والهوى. لقد أمسكوا بذيل الدنس الذي رفض السجود لآدم بحجة أفضليته لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين. والفتات الآدمي بدأ بمقدمة تقول بأنه أفضل من الأنبياء وانتهى بنتيجة من جنس العمل هي عبادة الذات والهوى، فإبراهيم (عليه السلام) وذريته من أنبياء الله جاؤوا ليحطموا هذه الأوثان الآدمية آخر الزمان بعد أن حطموا حجارتها أول الزمان.

وإبراهيم (عليه السلام) هو الثاني من أولي العزم وأصحاب الشرائع العامة.

ويقول فيه تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(9).

كان (عليه السلام) على دين لم يكن عليه أحد غيره، كان أمة وحده، عاش في طفولته في معزل عن مجتمع قومه، ثم خرج إليهم فوجدهم يعبدون الأصنام. فلم يرض منهم ذلك، وبدأ (عليه السلام) يحاج أباه في عبادته الأصنام، ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى طرده وأوعده أن يرجحه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء، ولم يكتف برفض الأصنام في حدود البيت، وإنما كان يحاج القوم في أمر الأصنام كما جاء في سورة الأنبياء والشعراء والصافات. ويحاج أقواما آخرين منهم، يعبدون الشمس والقمر والكواكب.

وشاع خبر إبراهيم في الانحراف عن الأصنام والآلهة، حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد، واعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم، فدخل بيت الأصنام. وانطلق على آلهتهم ضربا باليمين. حتى جعلهم جذاذا، إلا كبير لهم لعلهم يرجعون إليه، فلما عاد القوم وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب ذلك، قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الناس يقال له إبراهيم، فأحضروه إلى مجمعهم، وأتوا به على مشهد من الناس وبدأوا يسألوه .. فقالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وقد كان أبقى كبير الأصنام ولم يجذه ووضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام، وهو (عليه السلام) قال ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك، لأنهم يعلمون أنه جماد، لكنه قال ما قال حتى يعترفوا بصريح القول بأن آلهتهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور، ولذلك لما سمعوا قوله، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على، رؤوسهم. لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. قال: أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون؟ أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون؟

وأقام الحجة الدامغة انطلق أصحاب الأدمغة الفارغة. فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم! فبنوا له بنيانا. وأسعروا فيه النار، ثم ألقوه فيها، فجعلها الله بردا عليه وسلاما، وأبطل كيدهم. كما جاء في سورة الأنبياء والصافات، وقد تصدى (عليه السلام) خلال هذه الأيام لملك البلاد وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا! فحاج الملك إبراهيم في ربه. فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، فغالطه الملك وقال: أنا أحي وأميت! أحضر من يستحق القتل وأطلق سراحه. فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر كما جاء في سورة البقرة. ولما أنجاه الله من النار أخذ (عليه السلام) يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد. فآمن له فئة قليلة. وقد سمى الله تعالى منهم لوطا. ومنهم زوجته التي هاجر بها. ثم تبرأ (عليه السلام) هو ومن معه من المؤمنين من قومهم. وتبرأ هو من آزر الذي كان يدعوه أبا. ولم يكن بوالده الحقيقي. بل كان عمه(10).

وهاجر (عليه السلام) ومن معه وعلى رأسهم لوط إلى الأرض المقدسة. ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين(11) يقول تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾(12).

وأثنى الله تعالى على إبراهيم في كتابه أجمل ثناء، وكرر ذكر اسمه في نيف وستين موضعا من كتابه. ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾(13) ﴿كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا(14) ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾(15) وآتاه الله العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾(16) ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ / وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ / فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ / فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ / فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ / إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ / وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ / وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ / الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ / وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ / وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ / وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ / وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ،ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ / أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ / أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين﴾(17) ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(18) ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾(19) ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾(20) فهذه بعض من المنح التي منحها الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام). الذي رفع لواء الفطرة في عالم أقام دوائر للشذوذ في كل مكان ووضع حول هذه الدوائر عساكره وخيوله للصد عن سبيل الله، وبينما كان إبراهيم والذين معه يرفعون راية الفطرة كان هناك في مكان آخر قوم يعملون من أجل هدم الفطرة بتعطيلهم للنسل، وذلك عندما ارتكبوا جريمة لم يسبقهم فيها أحد من العالمين!.

1- النبي والانحراف:

1- لوط (عليه السلام):

كان لوط (عليه السلام) من كلدان في أرض بابل، ومن السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام)، آمن به وقال: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾(21) فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين، ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾(22) يقول المسعودي: "وأرسل لوطا إلى المدائن الخمس. وهي: سدوم. دعمورا. وادمونا. وصاعورا. وصابورا"(23) ومدينة سدوم وما والاها من المدائن سماها الله في كتابه بالمؤتفكات ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(24) وكانوا يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط وهم أول من شاع فيهم ذلك ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾(25) فأرسل الله لوطا إليهم، فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء والرجوع إلى طريق الفطرة، وأنذرهم وخوفهم فلم يزدهم إلا عتوا.

ولوط (عليه السلام) هو ابن هاران بن تارح بن أخي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، كما ذكر أنه ابن خالته أيضا. وقد ذكر لوط في ثلاث عشر سورة من القرآن الكريم. هي: الأنعام، الأعراف، هود، الحجر، الأنبياء، الحج، الشعراء، النمل، العنكبوت، الصافات، ق، القمر، التحريم. والقرآن في ذكره تارة يفصل وأخرى يوجز في بيان الأحوال، ولقد أثنى تعالى على نبيه لوط ثناء جميلا فقال تعالى: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ / وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(26).

2- الدعوة:

كان قوم لوط أهل لهو ولغو وفساد ودجل وباطل. فلقد خلعوا جلباب الحياء فكانوا لا يخجلون من فعل القبيح الذي تأباه البهائم وتنفر منه جميع النفوس البشرية من سابق ولاحق، وكانوا لا يستحي بعضهم من بعض أن يأتي بأفظع المنكرات، فيجتمع كبيرهم وصغيرهم والأب والابن والسيد والعبد منهم على نكاح الرجل الغريب واللواط به، ولو في محضر نسائهم وبناتهم. ويتعاقبون الآخر بعد من سبقه .. ولقد بعث فيهم لوط (عليه السلام) بعد أن اهتدى بهدى إبراهيم وتبعه في هجرته ثم افترقا ليعملا بما فرضه الله تعالى عليهما من نشر الفضائل ونصح الناس وإرشادهم وتبليغهم التكاليف، وكان لوط (عليه السلام) غاية في الكرم واستمساك بالزمام ورعاية بالجار والنزيل، فقد بالغ في جهاد الملحدين ودفع أذاهم، وكان قومه إذا وفد إليهم أحد من الناس وثبوا إليه ليفضحوه ويسلبوا ماله.

فكان (عليه السلام) يحجز بينهم ويدافعهم ويمنعهم عنه. ويحذر الوافد سوء معاملتهم حتى لقي منهم ما لقي من التهديد والأذى ولم يكن له فيهم من ناصر، وكان من أشد الناس إليه أذى: زوجته، فكانت هي عينا لقومها على زوجها، فكانت كافرة، ولم تؤمن بالله ولا برسوله، فلذلك أهلكها الله تعالى معهم وأصابها ما أصابهم(27).

وفي هذا الانحراف الساقط ووسط هذا الشذوذ الذي يحيط به الدنس والعار من كل اتجاه، أطلق لوط (عليه السلام) صيحاته محذرا، ولكن بجاحة الشهوة لا سمع لها ولا بصر ولا فؤاد، لقد دار القوم ضد حركة الكون وخرجوا على كل ما فيه. لقد خلق الله الذكر والأنثى. وجهز كل صنف من الصنفين بأعضاء وأدوات ومن يتأمل في صنع الله، وإلقائه تعالى غريزة الشهوة في كل منهما والجمع بينهما بالنكاح. يعلم أن الحكمة من وراء ذلك هي التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين، فالرجل مخلوق للمرأة لا لرجل مثله، والمرأة مخلوقة للرجل لا لامرأة مثلها، والنظرة الإنسانية تهدي إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال. وازدواج النساء بالرجال دون النساء، ولكن القوم أقاموا جدرا داخل نفوسهم فلم يتدبروا.

وأقاموا أسوارا عالية من السحب الداكنة السوداء حول الفطرة فلم يسمحوا لشعاع من نور يخرج منها ليهديهم، لقد أقاموا الأصنام بداخلهم وطغت أهواؤهم تحت جلودهم في مستنقع من أبوال الشياطين. وفي هذا المستنقع أصبحت الفاحشة سنة قومية. الخارج عنها خارج عن القانون! وبدأ لوط (عليه السلام) دعوته بالطريقة التي يبدأ بها رسل الله يقول تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(28) لقد كذبوا جميع المرسلين، لأن الذي يكذب واحدا منهم يكون في الحقيقة قد كذبهم جميعا.

ولوط (عليه السلام) عندما دعاهم. دعاهم أولا إلى تقوى الله. وأخبرهم بأنه أمين لا يغشهم. وأن طاعته من طاعة الله. ولأنه الأمين على ما يحمله إليهم من دعوة.

فهو لم يسألهم على ما يدعوهم أجرا وجزاء. حتى لا يتهموه بأنه يطلب نفعا يعود إليه. وهو أيضا لا يدعوهم من غير جزاء مطلوب. فدعوته ليست عبثا. ولكنه إنما يطلب الجزاء من الله رب العالمين.

ثم بدأ (عليه السلام) يبث نداء الفطرة لعل النداء يقرع مسامعهم. فقال: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ / وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾(29) والمعنى: أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع(30). فيكون في معنى قوله في موضع آخر: ﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾(31). ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والذكران جمع ذكر مقابل الأنثى. وإتيانهم كناية عن اللواط، والعالمين جمع عالم وهو الجماعة من الناس. أتأتون الذكران وتتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم؟ إنكم بهذا تكونون خارجين عن الحد الذي خطته لكم الفطرة. عندما قال لهم لوط ذلك، لم يقولوا له ما أنت إلا بشر مثلنا، ولم يسألوه أن يأتيهم بمعجزة تثبت أنه رسول من الله. لم يسألوا شيئا من هذا، لأن عقولهم هناك في مباول الشيطان وأفعالهم ضد البشرية لأنها تؤدي إلى إهمال طريق التناسل.

إن القوم يعبدون الأوثان ويأتون الذكران ولا رد عند من هذا شأنه لذا كان ردهم الوحيد على لوط (عليه السلام) عندما أراد أن يردهم إلى رحاب الفطرة: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ / قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ / رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾(32).

لقد لوح أهل الدنس بالقبضة الحديدية في وجه رسول الله، أخبروه بأنه إذا لم ينته ويكف عن مواعظه ودعوته لهم بترك ما هم عليه، فسيكون من المنفيين من قريتهم. فكان رده (عليه السلام): إني لا أخاف الخروج من قريتكم ولا أكترث به. بل مبغض لعملكم(33) راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة. ثم دعا (عليه السلام) ربه أن ينجيه من أصل عملهم الذي يأتون به بمرأى ومسمع منه.

فهو منزجر منه، أو من وبال عملهم والعذاب الذي سيتبعه لا محالة، ولم يذكر (عليه السلام) إلا نفسه وأهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد(34)!

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- سورة النمل / 56

2- مروج الذهب ج3 / ص2.

3- مروج الذهب: 37، 38 / 1.

4- سورة الحديد / 26.

5- ابن كثير: 5 (4 / 3).

6- سورة الصافات / 79-83.

7- الميزانج 17 / ص147.

8- ابن كثير ج4 / ص12.

9- سورة النحل / 12.

10- الدليل على أن آزر لم يكن والده أن إبراهيم (عليه السلام) تبرأ من آزر في أوائل دعوته كما جاء في سورة التوبة، الآية: 114. ثم استغفر (عليه السلام) لوالديه وهو على كبر في آخر عهده فقال: (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) سورة إبراهيم / 4. وآذر كان عم إبراهيم وليس والده. والعم يطلق عليه لفظ الأب كما في قوله تعالى: (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب وقد أطلق عليه لفظ الأب.

11- الميزان ج7 / ص5.

12- سورة الأنبياء / 71.

13- سورة النساء / 125.

14- سورة مريم / 41.

15- سورة البقرة / 124.

16- سورة النساء / 54.

17- سورة الأنعام / 74-90.

18- سورة الزخرف / 28.

19- سورة الشعراء / 84

20- سورة مريم / 50

21- سورة العنكبوت / 21.

22- سورة الأنبياء / 71.

23- مروج الذهب ج1 / ص42.

24- سورة التوبة / 70.

25- سورة الأعراف / 80

26- سورة الأنبياء / 74-75.

27- كتاب الأنبياء ص158، 174.

28- سورة الشعراء / 160-164.

29- سورة الشعراء / 165-166.

30- الميزان ج15 / ص109.

31- سورة الأعراف / 80.

32- سورة الشعراء / 167-169.

33- البغوي ج6 / ص235، ابن كثير ج3 / ص345.

34- الميزان ج15 / ص310.