انحرافات قوم نوح (ع) -2

ثانيا: الصد عن سبيل الله:

1- رفض بشرية الرسول:

لقد دعاهم نوح (عليه السلام) ليلا ونهارا، والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، دعاهم من غير فتور ولا توان، لكن القوم تثبتوا بخط الانحراف، وأجابوا دعوة نوح بالفرار والتمرد والتأبي، كان يدعوهم ليغفر لهم الله وفي هذا دليل على أنه كان ناصحا لهم في دعوته ولم يرد لهم إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم، لكنهم صدوا المرشد إلى الصراط المستقيم. بوضع أصابعهم في آذانهم حتى لا يستمعوا إلى دعوته. وغطوا بثيابهم رؤوسهم ووجوههم لئلا يروه.

وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوته استكبارا عجيبا.

ولم يواجه نوح (عليه السلام) استكبارهم هذا بالصمت بل توجه بدعوته إليهم سرا وعلانية. سالكا في دعوته كل مذهب يمكن. وسائرا في كل مسير مرجو. ولقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم حجج نوح (عليه السلام) التي واجه بها قومه، عندما خرج كفارهم للصد عن سبيل الله، فبعد أن أخبر نوح قومه أنه لهم نذير مبين، وأمرهم بعبادة الله وحده، وخوفهم من عذاب يوم أليم.

وخرج إليه أشراف القوم الذين يعتبرون أنفسهم ميزانا لكل ما يدور على أرضهم. وصدوا عن سبيل الله. وفقا لبنود قانونهم الذي خرجوا به عن سنة العدل الاجتماعي وبمقتضاه قاموا بانتقاص وتحقير كل من هو دونهم، يقول تعالى: ﴿َقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(1).

لم يتجاوز الرد عيونهم ﴿مَا نَرَاكَ﴾ و﴿َمَا نَرَى﴾ لقد كان لكفار قوم نوح السبق في تدوين فقه النظر الأعمى ما نراك وما نرى، وهذا الفقه الذي وضعت بذرته الأولى على أرضية قوم نوح. أثمر فيما بعد وقامت على ثماره قاعدة عريضة عمودها الفقري ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ وهذه القاعدة تعهدها فرعون وألقى بها إلى المستقبل لتأخذ الأشكال والوجوه التي تلائم كل عصر من العصور، لقد بدأ كفار قوم نوح بمصادرة النبوة في قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ وهذه المصادرة تبتغي في المقام الأول قطع شعاع الهدى عن الناس ليظلوا تحت شعاع الاغواء والتزيين الذي يشرف عليه الشيطان الرجيم.

ورفض قوم نوح إطاعة النبي البشر هو من جنس رفض الشيطان السجود لآدم، لأن الله تعالى هو الذي أمر بالطاعة للرسول وهو الذي أمر بالسجود لآدم، فرفض الطاعة هو من حقيبة رفض السجود وصاحب حقيبة رفض السجود يطرح الرفض على أوليائه وفقا للزمان والمكان بمعنى أنه ينتقص ويحقر بما يتلاءم مع كل عصر.

فقوم نوح قالوا لرسولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ ومن تحت أقدامهم أخذ كفار البشر هذه المقولة وألقوا بها أمام كل رسول من عند الله، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(2).

لقد طرح الشيطان على عقول أتباعه شبكة الحركة ضد أسباب الكون وجزئياته. كي تعيش البشرية في الضنك وتحت العذاب وهو ما فعل ذلك إلا أنه كاره للبشر وعدوله. ولكن الأغبياء على امتداد المسيرة البشرية لم يتدبروا ذلك، لأنهم وضعوا على عقولهم وعلى عيونهم شباك من زخرف الحياة. صنعت داخل مصانع الاغواء والتزيين الشيطانية.

ورفض قوم نوح الرسول البشر، يقابله أن يكون الرسول إليهم ملك من الملائكة. وهذا ضد سنة الخلق لأن الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل على ملائكة يقول تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً﴾(3) ولأن الشيطان يعلم أن معيشة الملائكة بين الناس لا تستقيم مع حركة الكون. دق ضرورة وجودهم في عقول أتباعه حتى بقطع الطريق على دعوة الرسل (عليهم السلام)، فوقف أتباعه على امتداد التاريخ يقولون بأنهم يسيطرون على المجتمع، ولهم الكلمة العليا فيه، والذين يدعون أنهم رسلا من الله لا يملكون الصلاحيات التي تؤهلهم لذلك له لأنهم أولا يماثلونهم في البشرية ولأنهم ثانيا لا يملكون ما يمتلكوه هم. وثالثا أنهم لا يستطيعون قهرهم على عبادة الله. وعلى هذا فإذا كان لا بد من رسول.

فيجب أن يكون ملكا من الملائكة يفوقهم في كل شئ وتكون له اليد العليا عليهم .. وبالجملة طالبوا بمن يقهرهم على عبادة الله. وهذا الطلب في حد ذاته ضد سنة الله في خلقه. إذ لا إجبار في دين الله منذ خلق الله آدم (عليه السلام)، حتى يرث الله الأرض .. إن دين الله لا إجبار فيه لأن الله غني عن العالمين.

لقد قالوا لنوح (عليه السلام): ما نراك إلا بشر مثلنا، أي أنك مثلنا في البشرية. ولو كنت رسولا إلينا لم تكن كذلك ولم يقف الكفار عند هذا الحد، بل وجهوا إلى نوح (عليه السلام) سيل من الجرائم من بينها التآمر عليهم كما اتهموه عليه السلام بأن به جنة يقول تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ / إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾(4).

قال المفسرون: السباق يدل على أن الملأ كانوا يخاطبون عامة الناس لصرف وجوههم عنه وإغرائهم عليه وتحريضهم على إيذائه وإسكاته. وقولهم: ﴿قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ محصله .. أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي والاتصال بالغيب .. كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم، إذ لا تنقصون منه في شئ من البشرية ولوازمها. وبما أنه يدعي ما ليس فيكم فهو كاذب، وكيف يمكن أن يكون هناك كمالا في وسع البشر أن يناله. ثم لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ وعلى هذا فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم، ويترأس فيكم، ويؤيد هذا أنه يدعوكم إلى اتباعه وطاعته. وقولهم: ﴿وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً﴾ محصله: أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية .. لاختار لذلك الملائكة الذين هم مقربون عنده والروابط بيننا وبينه فأرسلهم إلينا .. لا بشر ممن لا نسبة بينه وبينه.

وقولهم: ﴿مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ محصله: أنه لو كانت دعوته حقة، لاتفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانية، وآباؤنا كانوا أفضل منا وأعقل، ولم ينقل عنهم ما يناظر هذه الدعوة، وعلى هذا فليست هذه الدعوة إلا بدعة وأحدوثة كاذبة وقولهم: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ الجنة إما مصدر، أي به جنون، أو مفرد الجن، أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله العقل السليم. ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا وانتظروا به إلى حين ما. لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه(5) وكما رموه بالجنة رموه أيضا بالضلالة ليصرفوا عنه وجوه الناس ويغرونهم عليه ويمدون في ضلالهم قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ / قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ / أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ / أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(6).

قال المفسرون: الملأ هم أشراف القوم وخواصهم. سموا به لأنهم يملأون القلوب هيبة والعيون جمالا وزينة. ولقد رموا نوحا (عليه السلام) بالضلال المبين. لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم. وتوجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة والإنذار.

فعندما فعل نوح ذلك واقتحم عالمهم بدعوته تعجبوا من ذلك وأكدوا لعامتهم ضلالته. ولقد رد عليهم بقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾ أجابهم بنفي الضلال عن نفسه. وأنه رسول من الله سبحانه. وذكره بوصفه "رب العالمين" ليجمع له سبحانه الربوبية كلها. قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشئ من شؤونها وأبوابها كربوبية البحر وربوبية البر وربوبية الأرض وغير ذلك. ثم أخبرهم (عليه السلام) بأوصاف نفسه. فبين أنه يبلغهم رسالات ربه. وهذا شأن الرسالة ومقتضاها القريب الضروري. ثم ذكر أنه ينصح لهم ليقربهم من طاعة ربهم.

ويبعدهم عن الاستكبار والاستنكاف عن عبوديته. وأنه يعلم من الله ما لا يعلمون. كوقائع يوم القيامة من الثواب والعقاب وغير ذلك. وما يستتبع الطاعة والمعصية من رضاه تعالى. وسخطه ووجوه نعمه ونقمه(7) ثم قال لهم: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ﴾ لقد أنكر تعجبهم من دعواه الرسالة، ودعوته إياهم إلى الدين الحق، وقال. لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم. رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم لينذركم. ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به(8).

ورغم هذا البيان كان الشيطان قد استحوذ على عقول كفار القوم، فلقد ظلوا يروجون لثقافة رفض البشر الرسول، تلك الثقافة التي وضع الشيطان أصولها يوم رفض السجود لآدم.

وقام القوم بإضفاء الزينة على ثقافتهم التي وجهوها من أجل الصد عن سبيل الله. فأضافوا أوراق الانتقاص والتحقير إليها متهمين نوحا (عليه السلام) بالضلالة وأن به جنة، ولقد التقط طابور الشذوذ على امتداد التاريخ الإنساني هذه المقولات وأضافوا إليها. وإذا كان قوم نوح في أول الطريق قد رفضوا البشر الرسول لأنه لا نسب بينه وبين الملائكة. فإن طابور الانحراف في ختام المسيرة البشرية قد اخترع آلهة وادعى أنه بينها وبين الله نسبا. وعلى هذا الادعاء قامت دول ورفعت رايات كان الشيطان لها دليلا.

إن الشذوذ في أول الطريق يبدو ضئيلا، ثم يتسع شيئا فشيئا. وإذا كان شذوذ قوم نوح قد دفن في طين الطوفان. فإن الشيطان ظل يراقب تجربة الشذوذ، ويلقي بآخر مرحلة من التجربة التي اندثر أصحابها على قارعة الطريق الذي يسير عليه المستكبرين الجدد ليلتقطوها. وهكذا. والله غالب على أمره.

2- تحقير أتباع الرسول:

وفقا لفقه (ما نراك وما نرى) الذي وضع قواعده كفار قوم نوح في بداية المسيرة البشرية، وبعد أن قالوا لنوح (عليه السلام): ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ انتقلوا إلى أتباعه الذين آمنوا برسالته وقالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(9).

قال المفسرون: الرذل أي الخسيس الحقير من كل شئ(10) لقد قالوا له ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك، لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك، ولهذا قالوا. ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾(11) لقد نظروا إلى أتباع نوح (عليه السلام). بمنظار الطبقة المملوءة الجيوب المنتفخة الأفخاخ والبطون.

ثم قالوا بعد أن فرغوا من تحقير أتباع نوح: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي أن دعوتكم لنا ونحن عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال والبنين والقوة. إنما تستقيم لو كان لكم شئ من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب، حتى يوجب ذلك خضوعا منا لكم.

ونحن لا نرى شيئا من ذلك عندكم، ودعوتكم هذه مع حالكم هذا، تجعلنا نظن بأنكم كاذبون فيما تقولوه لنا، وأنكم في الحقيقة لا تريدون إلا نيل ما بأيدينا من أموال وثروات. والاستعلاء علينا بالحكم والرئاسة(12).

وهكذا اتهموا نوحا (عليه السلام) بالتآمر عليهم عندما قالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾(13) واتهموه هو وأتباعه بنفس التهمة عندما قالوا: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(14) إن الشذوذ والإنحراف في قانونهم نظام، قاعدة وغيره استثناء، ومن يقترب من القاعدة بماء نظيف فهو خارج عن القانون، لقد اتهموا الدعوة بأنها دعوة الجياع الذين يريدون الاستيلاء على الطعام وزخرف الحياة.

ولوحوا إلى نوح (عليه السلام) بأن يطرد هؤلاء من حوله. نظرا لخطورتهم على المدى البعيد كما يعتقدون يقول تعالى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ / قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ / إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ / وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ / إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾(15).

قال المفسرون: لقد ذكروا له أن متبعيه من العبيد والفقراء والسفلة وأرباب الحرف الدنيئة. فنفى (عليه السلام) علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به(16) وقال وأي شئ يلزمني من أتباع هؤلاء لي، ولو كانوا على أي شئ كانوا عليه، لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل(17).

وقوله: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كأنهم سألوا منه أن يبعدهم فقال: لا شأن لي إلا الإنذار والدعوة. فلست أطرد من أقبل علي وآمن بي(18) فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني سواء كان شريفا أو وضيعا. جليلا أو حقيرا(19) وفي مجمل رده (عليه السلام) كما جاء في سورة هود قال: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ / وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾(20).

قال المفسرون: لقد أطلق المترفين على أتباعه لفظ الأراذل. فغير (عليه السلام) اللفظ إلى الذين آمنوا تعظيما لإيمانهم وارتباطهم بربهم. ورفض أن يطردهم من عنده. وعلل ذلك. بأن الذين آمنوا. لهم يوما يرجعون فيه إلى الله. فيحاسبهم على أعمالهم. فالملأ ينظر إلى أتباعه. على أنهم أراذل ولا يملكون مالا أو جاها، وهذه نظرة قاصرة، فالحياة الدنيا عرض زائل وسراب باطل. ولا تخلو من خصال خمس: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر. وهذه الخصال يتعلق بها أو ببعضها هوى الإنسان، وهي أمور زائلة لا تبقى للإنسان. ولكن تكون النظرة ثاقبة. يجب النظر إلى عمل الإنسان. وهذا العمل سيظهر جليا يوم القيامة.

والذين آمنوا سيعرضون على الله فيحاسبهم، ولا يملك أحد أن يحاسبهم سواه .. ثم قال لهم: ﴿وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي من يمنعه من عذاب الله إن طردهم من عنده، أفلا يتذكرون أن هذا العمل إذا تم يكون ظلما؟ والله تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم منه، والعقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوءه ويشفي به غليل صدر المظلوم والله عزيز ذو انتقام(21).

لكن القوم لا يفقهون قولا، فدستور التحقير الذي وضع الشيطان أصوله جرى في عروقهم مجرى الدم، فهم قادة عالم اللعب واللهو والزينة وهم أساتذة في التفاخر، فإذا جاءهم منهج من غيرهم واتبعه عمالهم كان في ذلك شقاؤهم.

لهذا وقفوا منذ البداية في موقف الصد عن سبيل الله، وتبني الأشراف ثقافة تشربها العامة والغوغاء بسهولة، ثقافة تقول لهم: لا تضيعوا وقتكم أمام دعوة لا طائل من ورائها! ثقافة تحرك لسانها بكلمات عذبة تضمر خدعا معسولة خدع معسولة تلفها أحابيل ماكرة. أحابيل ماكرة ما إن تسمعها آذان الغوغاء حتى تحتضنهما قلوبهم وتدافع عنها سواعدهم، وكفى بالسواعد أن تدافع عن نظام الملأ! ذلك النظام الذي يهدده أراذل إخساء على رأسهم بشر يدعي أنه يوحى إليه. ويطالب القوم باتباعه وطاعته، وهو -أي الرسول- وهم -أي الأراذل- لا يملكون لعبا ولا لهوا ولا زينة.

والخلاصة أن فقه التحقير والانتقاص الذي وضعه الشيطان ورعاه كفار قوم نوح في بداية الطريق. كان بجميع المقاييس كارثة على المسيرة البشرية فيما بعد لأنه كان عمود عتيق على طريق الانحراف والصد عن سبيل الله.

ثالثا: دفع الصد والتحقير:

لقد تقدم نوح (عليه السلام) برسالته التي بعثه الله تعالى بها إلى قومه، وكانت الرسالة في مجملها إنذار: أن لا يعبدوا إلا الله لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم، وعندما تقدم (عليه السلام) برسالته إلى قومه صدوه بردود ثلاثة:

الأول: قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾.

والثاني: قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.

والثالث: قولهم: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ وانتهى القوم إلى حكم قالوا فيه: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ وهو حكم يحتوي في مضمونه أن الدعوة ما سلكت هذا الطريق إلا لهدف واحد. هو السيطرة على المال والثروات والحكم! فماذا كان رد نوح (عليه السلام) على هذه الصدود الثلاث؟ وعلى هذا الحكم الذي ترتب على هذه الصدود؟ لقد كان رد نوح عليه السلام ردا شافيا كافيا، وجاء ذلك في قول الله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ / وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ / وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ / وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(22).

قال المفسرون: لما كانت حجتهم مبنية على الحس ونفي ما وراءه، وقد استنتجوا من حجتهم عدم الدليل على وجوب طاعته واتباعه. أجابهم (عليه السلام): بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته وما يتبعه، ونفي ما حاولوا إثباته.

باتهامه واتهام أتباعه بالكذب، غير أنه (عليه السلام) استعطفهم بقوله: "يا قوم" مرة بعد مرة ليجلبهم إليه. فيقع نصحه موقع القبول منهم. وقد أبدعت الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا.

فقوله: ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ﴾ جواب على قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ وقوله: ﴿يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ..﴾ جواب عما اتهموه به من الكذب ولازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم لأنه يريد أن يتفضل عليهم.

وقوله: ﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ..﴾ جواب عن قولهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ..﴾ وقوله: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ جواب عن قولهم: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾.

1- إثبات الرسالة:

لقد رفضوا الرسول البشر وقالوا: ﴿وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً﴾(23) فكانت حجته (عليه السلام): ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾(24).

قال المفسرون: كان سندهم في نفي الرسالة أنه بشر، لا أثر ظاهر معه يدل، على الرسالة والاتصال بالغيب. فكان عليه أن يظهر ما يفيد صدقه في دعوى الرسالة.

وهي الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول. في دعوى الرسالة. لأن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية. لا طريق إلى العلم بتحققه، إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة، يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، ولذلك أشار (عليه السلام) بقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ﴾ إلى أن معه بينة من الله وآية معجزة تدل على صدقه في دعواه.

وقوله: ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة(25).

أما قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ المراد منه: أن ما عندي من العلم والمعرفة أخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحق. بعد ما ذكرتكم به وبثثته فيكم. وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ المراد إلزامهم الرحمة وهم لها كارهون.

والمعنى -والله أعلم- أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشر مثلكم، وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة. من كتاب وعلم يهديكم إلى الحق، لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم.

أيجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته، وقد أوقفتكم عليه. لكنكم لا تؤمنون به. طغيانا واستكبارا. وليس علي أن أجبركم عليها. إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.

ففي بيانه تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة. وبانت لهم الحقيقة.

فلم يؤمنوا. لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله، وليس إلا الإجبار والإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا .. لا يريدون إلا الإجبار، ولا إجبار في دين الله، والآية من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين، وتدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع، وهي شريعة نوح (عليه السلام)، وهذا الحكم باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ(26).

وقد ظهر مما تقدم أن الآية ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً ..﴾ جواب عن قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ ويظهر بذلك فساد قول البعض إنه جواب عن قولهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أو قول آخرين إنه جواب: ﴿مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أو غير ذلك(27).

لقد أقام نوح (عليه السلام) الحجة عليهم من أول يوم في بعثته. ولكن الذين كفروا لم يكن عندهم استعداد للوقوف في مجرى الرحمة الإلهية، والوقوف في مهب النفحات الربانية، لهذا لم ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله. وما يسمعون من مواعظ نوح. وما تلقنه لهم فطرتهم من الحجة والبينة. لقد نظروا بعيون العناد وفكروا بعقول الاستكبار، ثم طالبوا نوحا أن يثبت لهم أنه مبعوث إليهم. وكيف السبيل إلى ذلك وهم نزلوا بأسماعهم وبأبصارهم وبطونهم المنزلة التي في الأنعام. واستعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام وهو التمتع من لذائذ البطن والفرج. ومنزلة الأنعام التي نزلوا إليها أرفع منهم وأقوم، لأن الأنعام مهتدية بحسب تركيبها وخلقها. غير ضالة لأنها تسير على الطريق الذي خلقت لأجله.

أما هؤلاء فقد قطعوا شوطا طويلا في عالم الضلال والغفلة وألقوا بإنسانيتهم في أسفل سافلين. وكل هذا من أجل حفنة من زخرف الحياة. لونها لهم الشيطان وغواهم بها.

2- الدفاع عن الإنسان:

لقد اتهموا نوحا (عليه السلام) بأنه يريد بدعوته أن يتفضل عليهم ويترأس فيهم وينال هو وأتباعه ما بأيديهم من أموال وثروات، فكان جوابه على هذا: ﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ﴾(28).

قال المفسرون: أي أنه إذ لم يسألهم شيئا من أموالهم، لم يكن لهم أن يتهموه بذلك(29) إنهم أبقوا بقضية الأموال وسط الساحة في حين أنه لا توجد له فيها ورقة، ثم اتهموه مع أتباعه أن دعوته لها أهداف أخرى وأشاروا بطرد أتباعه والكف عن دعوته، وعندما رفض هددوه بالرجم قال: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ / إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ / قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾(30).

وعندما ربط القوم بين الأموال والاتباع جاء رده (عليه السلام) أولا بنفي الأجر ثم بالدفاع عن الأتباع ثم إخبارهم بعد ذلك بأنه لا يملك الخزائن، فهو أولا لم يطمع فيما عندهم من مال، ولا يسألهم على نصحه لهم أجرا، وعلى هذا فالضعفاء الذين يؤمنون به لا يطمعون في مال عنده أخذه من القوم ولا يطمعون في كنوز يخفيها لأنه ليس عنده من هذه الكنوز شيئا .. ﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ / وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ / وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(31).

قال المفسرون: بعد دفاعه عن الذين آمنوا وإظهار أنهم ما آمنوا إلا ابتغاء وجه الله، وأن حسابهم على الله، قام بالرد على قولهم: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ ..﴾ الآية.

قال المفسرون: يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه. وبما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يمتلك خزائن الرحمة الإلهية. فيغني الفقير ويشفي العليل ويحيي الموتى. ويتصرف في السماء والأرض وسائر أجزاء الكون بما شاء وكيف شاء. وأن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون .. وأن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملائكة فيكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة ومبرئ من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق.

فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها، وقد أخطأتم، فلبس للرسول إلا الرسالة. وإني لست أدعي شيئا من ذلك، فلا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وبالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول فقط: إني على بينة من ربي تصدق رسالتي، وآتاني رحمة من عنده(32).

وبعد أن حطم (عليه السلام) الوثنية في أساطيرهم، بدأ في تحطيم ميزانهم الذي أقاموه. بدلا من سنة العدل الاجتماعي، وبه قاموا بتصنيف خلق الله فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ..﴾.

قال المفسرون: هذا الفصل إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه. وبنوا عليه سنة الأشرافية وطريقة السيادة. وهو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين. الأقوياء والضعفاء، أما الأقوياء فهم أولو الطول المعتضدون بالمال والعدة. وأما الضعفاء فهم الباقون. الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني، ولهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء .. مخلوقون لأجلهم، وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع .. إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان. وهو داخل المجتمع يشارك في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كده، والضعيف في المجتمع محروم من الكرامة، مطرود عن حظيرة الشرافة .. فهذا هو الذي كانوا يرونه، وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم وقد رد نوح (عليه السلام) ذلك. وبين خطأهم في معتقدهم بقوله: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ أي أن أعينكم إنما تزدريهم وتستحقرهم، وتستهين أمرهم. لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هذا الأساس في إحراز الخير ونيل الكرامة، بل الأساس في ذلك أمر النفس وتحليها بحلي الفضيلة، ولا طريق لي ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب، فلله وحده ذلك، وليس لي ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير والسعادة(33).

لقد حطم (عليه السلام) بحججه أصنام التحقير والانتقاص. وبين لهم أنه لا يدعي شيئا مما يتوقعونه من رسالته، فليس للرسول إلا الرسالة وقد قدم لهم ما يثبت صدقه في أنه رسول من الله رب العالمين. لكنهم نظروا إلى البينة والرحمة بعيون الاستكبار فعميت عليهم. ثم أخبرهم أن الضعفاء الذين لهم هوان عندهم لم يؤمنوا طمعا في مال عنده. لأنه لا يملك هذا المال بدليل أنه لم يسألهم أموالهم ولم يدع أنه يملك خزائن الرحمة وعلم الغيب، وبين لهم أن الله تعالى هو العليم بما في الصدور. وأن ملاك الكرامة الدينية والرحمة الإلهية زكاء النفس وسلامة القلب، فمن الجائز أن يعلم الله من نفوس هؤلاء الضعفاء خيرا فيؤتيهم خيرا، ولا ينبغي أن يقال لن يؤت الله هؤلاء خيرا، لأن القول بهذا ظلم يدخل صاحبه في زمرة الظالمين.

لقد قال نوح (عليه السلام) هذا وهو يدعوهم إلى التوحيد، كان يخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم على امتداد مئات من السنين. ولكن كفار قومه أصروا على التكذيب وعبادة الأوثان وتحقير الإنسان.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- سورة هود / 27.

2- سورة التغابن / 5-6.

3- سورة الإسراء / 95.

4- سورة المؤمنون / 24-25.

5- الميزان ج15 / ص29.

6- سورة الأعراف / 60-63.

7- الميزان ج8 / ص175.

8- تفسير ابن كثير ج2 / ص223.

9- سورة هود / 27.

10- الميزان ج10 / ص202.

11- تفسير ابن كثير ج2 / ص442.

12- الميزان ج10 / ص204.

13- سورة المؤمنون / 24.

14- سورة هود / 27.

15- سورة الشعراء / 111-115.

16- الميزان ج15 / ص296.

17- ابن كثير ج2 / ص340.

18- الميزان ج15 / ص296.

19- ابن كثير ج3 / ص34.

20- سورة هود / 29-30.

21- الميزان ج10 / ص208.

22- سورة هود / 28-31.

23- سورة المؤمنون / 24.

24- سورة هود / 28.

25- قال تعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ سورة هود / 17، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ سورة النحل / 89، وقال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا﴾ سورة الكهف / 65.

26- الميزان ج10 / ص207.

27- الميزان ج10 / ص207.

28- سورة هود / 29.

29- الميزان ج10 / ص307.

30- سورة الشعراء / 114-116.

31- سورة هود / 29-31.

32- الميزان ج10 / ص209.

33- الميزان ج10 / ص214.