انحرافات عاد قوم هود (ع) -2

ثانيا: تكبيل القوة:

لما دعاهم هود (عليه السلام) إلى الله تعالى وإلى دينه. وبالغ في وعظهم وإرشادهم. وحذرهم سطوة الجبار العلي القدير وعقوبته في الدنيا والآخرة. فلم ينفع معهم ولم يفد شيئا. حبس الله سبحانه عنهم المطر كي يتنبهوا ويرتدعوا ويرجعوا إلى الطاعة. وإمساك المطر عنهم سيبعد بينهم وبين الترف لأن الترف أصل أصيل في إفساد الفطرة وإفقاد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب، وإمساك المطر يؤدي بالإنسان إلى دائرة التضرع، ليكون التضرع مدخلا إلى التوبة. وروي أن الله تعالى أمسك عنهم المطر ثلاث سنوات حتى جهدوا وأجدبوا وقحطوا.

فأبوا إلا تماديا فيما هم عليه، وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا(1) وعلى امتداد زمن القحط كان هود (عليه السلام) يدعوهم كي يستغفروا الله فيرسل سبحانه السماء عليهم مدرارا ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ / يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ / وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾(2).

لقد دعاهم وقوتهم التي يستندون عليها تئن تحت ضربات القحط. دعاهم إلى عبادة الله وحده وأخبرهم أنه لا يسألهم على ما يدعوهم إليه أجرا حتى يتهموه بأنه يريد بدعوته منفعة تعود إليه أو تضربهم، وهو إنما يبغي ثوابه من الذي فطره، من الله الذي أوجده وأبدعه، ودعاهم إلى تعقل ما يقوله لهم. حتى يتضح لهم أنه ناصح لهم في دعوته، وأنه ما يريد إلا أنه يحملهم على الحق. كما دعاهم إلى طلب المغفرة من الله وأن يتوبوا ويرجعوا إليه بالأعمال الصالحة، حتى يرحمهم بإرسال سحب هاطلة ممطرة يحيي بها الأرض وينبت الزرع والعشب. ويزدهم قوة الإيمان إلى قوة الأبدان، وأخبرهم أن عبادتهم التي اتخذوها من دون الله إحرام منهم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليهم، وفي الآية دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب وهذا في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم﴾ وكذا قولهم في موضع آخر: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(3) كما أن الآية بها إشعار أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمر.

فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن وتجلب النقمة والشقاوة والهلكة(4) كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾(5).

لقد دعاهم هود (عليه السلام) وهم تحت ضربات القحط إلى التعقل، فالكون يخضع لنظام دقيق، وإن الاطعام والأمن بين يدي الذي يملك الجوع والخوف، فمن انحرف عن نظام الاطعام والأمن سقط في دائرة الجوع والخوف والمد والاستدراج فماذا كان رد عاد في عالم القحط والجدب؟ ﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ / إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾(6) لقد ردوا على هود (عليه السلام) فيما قاله لهم.

فلقد طالبهم هود بأمرين هما: أن يتركوا آلهتهم ويعبدوا الله وحده، وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم، فهذه كانت مطالب هود (عليه السلام). أما الرد عليه فجاء إجمالا وتفصيلا.

أما إجمالا فبقولهم: ﴿مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ أي ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه من الرسالة، إن دعوتك لنا خالية من المعجزة. فما هي معجزتك الخارقة للعادة؟ وبما أنه لا توجد معك معجزة. فلا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأما تفصيلا فلقد رفضوا دعوته التي طالبهم فيها برفض الشركاء فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ كما رفضوا دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ووفقا للإجمال والتفصيل فقد آيسوه في كلتا الحالتين،. ثم قالوا له: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾ أي نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون.

لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك. ومن كان هذا شأنه فلا يعبأ بما يقوله في دعوته(7).

لقد طالبوه بالمعجزة، وأخبره أنهم لن يتركوا آلهتهم من قوله، أي بمجرد قوله اتركوهم يتركوهم. وأعلنوه بصراحة أنهم له غير مؤمنين. ثم نظروا إلى حضارتهم وأعمدتهم وأصنامهم وأخبروه أن ما يقوله لهم ما هو إلا نتيجة لما أصاب عقله من جنون وخبل، ومصدر هذا الجنون تطاوله على الآلهة ونهيه عن عبادتها!

هكذا تفكر عاد في عالم القحط. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على عمق الحضيض الذي تهاووا فيه بعد انحرافهم عن الصراط المستقيم، إن الإنسان عندما يفقد الماء يتضرع، ولكن أصحاب الأعمدة والصخور كانت لهم قلوب لا تعاني من فقد الماء. قلوب من حجارة. نبتت وترعرعت في خيام الأخلاق الحديدية.

معجزة هود (عليه السلام):

لقد انتفخ جبابرة عاد وطالبوه بالمعجزة ﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ ثم قالوا بأن أصنامهم قد مسته بسوء ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾ فجاء رد هود (عليه السلام) بما يريدون. جاء بالمعجزة التي تستقيم مع الذي عند قوم عاد. وعاد عندها القوة وتسير على ثقافة ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ لهذا جاءتهم المعجزة التي تقصم ظهر قوتهم: قوة الفرد أو القبيلة أو المرتزقة أو الدولة، والمعجزة جاءت في رد هود (عليه السلام): ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ / مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ / إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(8).

لقد أعلن البراءة من شركائهم. ولا ينفي ذلك كونه برئ منها من أول مرة. وإعلانه البراءة هنا ليضع القوم أمام التحدي وأمام المعجزة. فلقد قالوا بأن الأصنام قد مسته بسوء. فرد عليهم بأنه برئ منها لأنها لو كانت آلهة حقا وتتمتع بعلم وقدرة فيجب عليها أن تقهره وتنتقم منه لنفسها وهو يعلن تبرؤه منها فالتبرء حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوا. وبعد أن حطم (عليه السلام) القاعدة الصنمية للأوثان التي من حجر. انتقل إلى القاعدة الصنمية التي من لحم ودم وعظم. وقدم للجبابرة معجزته التي أذلتهم وهم في أزهى لباس للقوة قال: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ لقد كان في قوله لهم أمر ونهي تعجيزيان لقد طالبهم أن يكيدوا له وفي قوله ﴿جَمِيعًا﴾ إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا، وبهذا التعجيز الشامل يكون قد قدم أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل(9). لقد قال للعتاة الذين يبطشون بطش الجبارين: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ ليشاهدوا وليعلموا أنهم بمضارتهم وثقافتهم وقوتهم لن يقدروا عليه بقتل أو بتنكيل. على الرغم من أنهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم فيها غيرهم من أهل الشدة والبطش. فليفعلوا ولن يستطيعوا أن يضروه. وعندما يضربهم العجز.

فيجب عليهم أن يصدقوه.

ويؤمنوا به وبرسالته التي من عند الله. لأنه لولا أنه نبي من عند الله، صادق فيما يقوله، مصون من عند ربه .. لقدروا عليه بكل ما أرادوا من عذاب أو دفع، وأخبرهم بأن معجزة التحدي للقوة لا تعود إلى كونه أشد منهم قوة ولا إلى أنه ينتمي إلى جنس غير جنس البشر، فهو بشر يخاف ويكره، ولكنه لن يخاف من قوتهم الطاغية، ليس لأنه يحمل معجزة التحدي للقوة، وإنما لأنه توكل على الله ربه وربهم، فهو سبحانه الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه. وهو سبحانه المحيط بهم جميعا والقاهر لهم. وهو سبحانه الذي ينصر الحق ويظهره على الباطل إذا تقابلا.

وأمام معجزة هود (عليه السلام) ارتدت عاد ثوب المذلة، فآلهتهم لم تفعل لهود (عليه السلام) شيئا رغم سهر فقهاء الجبابرة أمامها وطلبهم تدخلها، والجبابرة والعتاة لم يستطيعوا أن يضروا هودا وهم أصحاب شعار ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟ إن دولة تحمل شعارا لا تستطيع العمل بمضمونه هو -وفقا لمقاييس أصحاب القمة- مذلة وهو -وفقا لمقاييس أصحاب القاع- مهانة. ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾(10). وعندما كانت عاد في ثوب المذلة، كان هود (عليه السلام) بين أتباعه في عافية وسلامة لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يناله بشر، وعندما ذاق جبابرة عاد مرارة العجز، انسحبوا من المواجهة، انسحبت الدولة كلها بأوثانها وفقهائها وجبابرتها وجنودها من أمام هود (عليه السلام)، ووقفوا جميعا في خندق من خنادق الصد عن سبيل الله لا يملكون فيه إلا بذاءة اللسان.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- الميزان ج10 / ص306، ابن كثير ج2 / ص225.

2- سورة هود / 50-52.

3- سورة الأحقاف / 24.

4- الميزان ج10 / ص300.

5- سورة الأعراف / 96.

6- سورة هود / 53-54.

7- الميزان ج10 / ص301.

8- سورة هود / 54-56.

9- الميزان ج10 / ص302.

10- سورة فصلت / 15.