حقيقة التذلل للوالدين
إن هذه الآية تتوجه إلى كل مولود على وجه الأرض، لأن كل إنسان يولد لا بد وأن يكون له والد .. والقرآن في آيات معبرة قد بين حقوق الوالدين، بشكل لم يخطر على بال أحد، تبدأ الآية: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ .. انتقلت الآية فجأة من آيات التوحيد، إلى أمر أخلاقي .. فلم تنتقل إلى فرع من فروع الدين، كالصلاة والصوم والحج مثلا، وإنما انتقلت من فرع من أصول الدين مباشرة إلى أمر أخلاقي لا يأتي في البال أبداً.. ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾.. إن هذه الآية تعبر عن أصل ديني وهو الوحدانية .. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ .. من دون أن يفصل بينهما أي فاصل.
وكلمة ﴿قَضَى﴾ تعبير بليغ يدل على الأمر بشدة، مثال على ذلك: أحياناً قد يطلب الملك أو الأمير من الرعية أمر معيناً، ولكن في الحروب وعند اشتداد الأزمات، يطلب الأمر بشدة، فيقول: قضينا عليكم بكذا وكذا.. ﴿قَضَى رَبُّكَ﴾.. أي أمر أمراً فصلاً، فهو حكم جازم، لا مجال للتراجع فيه أبداً .. فاستخدم كلمة قضى تعبيراً لعبادته أولاً، ولطاعة الوالدين ثانياً، فهي عبارة محركة للحوافز.
فالإسلام مبني على التوحيد .. أما الفسق الفكري والعملي، فأساسه عدم التوحيد، أي الشرك .. فالإنسان الكافر، هو إنسان لا يقبل فكرة الوحدانية .. وأما الإنسان الفاسق هو من لا يقبل فكرة التوحيد .. وذلك لأن الفسق يأتي إما من الشيطان، أو من النفس ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ .. فيعني إما من إلـه الهوى، أو من الشيطان .. وتبعية الهوى وتبعية الشيطان، هما خلاف التوحيد .. لأن اتباع الهوى واتباع الشيطان، خلاف أمر الله سبحانه وتعالى، وبذلك يعد الإنسان مشركاً .. فالبعض الذين يبالغون في تصوير الأمور على أنها شرك، فبدل من أن يحاربوا هاتين الصورتين القبيحتين للشرك، ذهبوا إلى بعض الجزيئات الخاطئة .. فهي جزئيات من ناحية، وفهموها فهماً خاطئاً من ناحية أخرى، كتوسيط النبي (ص) وأهله بيته بين الإنسان وبين الله عز وجل .. فإذاً إن منشأ الكفر ومنشأ المعصية، يعود إما إلى إنكار الربوبية، أو إنكار الوحدانية، ولو في مقام العمل .
إن العبادة على قسمين: منها عبادة لغير الله جليَّة، كعبادة هُبل ومناة وغيرها من الأصنام المعروفة .. أما القسم الآخر من العبادة فهي عبادة لغير الله خفية، وهي ما تمارس في الحياة اليومية في كل يوم (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) .. فعند فتح التلفاز، والجلوس أمامه، والاستماع لخبر معين .. فالتلفاز يعتبر صنم، وهذا الصنم إما أن ينقل المستمع إلى الله عز وجل، أو هو صنم .. وهذه الرواية تنطبق على أجهزة الإعلام بشكل واضح جدا، فعلى المرء أن يتذكرها كلما جلس أمام الإعلام (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) .. فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان .
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ﴾ .. جاءت كلمة الإحسان نكرة، وإن الإحسان له عدة صور، وعلى الولد أن يختار الصورة الملائمة للإحسان لوالد ه.. فمثلاً إن كان الوالد في بلد بعيد، فالإحسان أن يرسل إليه المال .. وإن كان مريضاً وبجواره، فالإحسان إليه هو بالذهاب به إلى العلاج .. وإن كان يعاني من أزمة نفسية، فالإحسان إليه أن يرفع عنه الضيق .. وهكذا.
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا﴾.. إن كان الوالد في عمر الشباب، فهو يكد من أجل توفير الأموال الوفيرة لأولاده .. والأبناء هم يحتاجون والدهم، وهو لا يحتاجهم .. فاحترام هذا الأب لا يحتاج إلى معاناة .. ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ .. وأما إن امتد به العمر ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ .. حتى إذا بلغ أرذل العمر، ترى الولد ينسحب عن والده، في وقت يكون فيه هذا الوالد بأمس الحاجة إلى رعاية أولاده.
﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ ذكر القرآن الكريم أقل الصور، وهي أن تقول أف وأن تتبرم .. ولهذا نرى البعض يخدم أبويه خدمة جيدة، ولكن في قرار نفسه، يتمنى موتهما، وان يتحول عما هو عليه .. فهذا خلاف قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ فحالة التأفف قد لا تظهر، ولكن قد تكون في باطنه يقولها عشرات المرات من الأف .. يكون في ظاهره صامتاً بقوله، وأما في أعماقه يتأفف من خدمة والديه والدٌ كانت أم والدة.
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ .. فالذل خلاف طبيعة المؤمن، فإن الله أوكل المؤمن إلى نفسه، ولم يسمح له أن يذل نفسه، فهذه هي طبيعة الدين.. ولكن عندما يصل الأمر للوالدين، فيجب أن يقول: نعم، هذه الذلة مطلوبة.
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾
يقول المفسرون: بأن هذا الحال هو أشبه بالفرخ ، فعندما تأتي أم الطير تلاحظ أن الفرخ يعيش حالة من التواضع والذلة، طمعاً بما في فم الأم من الطعام .. فالفرخ يخفض جناحه في حالة استعطاف .. على الشاب الكبير إن كان ذو منصب، أو قد يكون عالماً في الدين، إن رأى والده، أن يكون كالفرخ بين يدي الأم، وأن يتظاهر بمظهر الحاجة .. كما يتظاهر الفرخ بمظهر الذل والعجز والإستكانة .. فيجب على الولد أن يمثّل أمام الوالدين هذا التمثيل: واخفض لهما جناح الذل، ليس من الضعف، أو الإستكانة، أو الهزيمة النفسية .. بل يكون التذلل لهما رحمة بهما، وتقرباً الى الله بهما.
﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ .. لا الخدمة المادية فحسب! .. إنما الخدمة المعنوية كالدعاء لهما، فكثيراً من الأولاد يدعون لأربعين شخصاً من المؤمنين في دعائه، ولكنه ينسى والده .. والقرآن يقول: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، وكما ذكر سابقا بأن هذه الآية جاءت بعد التوحيد لله .. فلماذا عطف الإحسان للوالدين على التوحيد؟ .. وذلك لأن الأب يقوم بدور الله في الأسرة .. فالله هو الرزاق المربي، ولكن في مقام العمل، فإن هذا الأب المسكين، هو الرزاق الذي يكد صباحاً ومساءً، ليأتي بلقمة العيش، فكأنه يؤدي دور الله في عباده، والله عز وجل يقدر هذا الدور .. وهذه الأم التى حملت تسعة أشهر، والله عز وجل أراد أن يخلق مخلوقاً جعل الآلام على هذه الأم، وتصيبها آلام المخاض، فكأنها تقوم بمسؤولية تعود إلى الله عز وجل .. فالله أراد أن يخلق نسمة فجعل هذه الأم ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾.
وعليه، فكأن للوالدين حق على الله عز وجل، في إيجاد وتربية هذا الولد، ولهذا كان الأمر عظيماً ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾.. فهناك مجال للتعويض إن كان الإنسان مقصراً في ماضيه.. فإن كان الإنسان صادقاً في التعويض، ورجع عن الإساءة للإصلاح، فإن الله تعالى يغفر للتائبين.