انحرافات بني إسرائيل -5

ثانيا: اختراق النصارى:

لقد ذكرنا في كتابنا عقيدة المسيح الدجال عن اختراق اليهود للنصرانية الكثير. وسنذكر هنا ما تقتضيه الحاجة. لقد كان المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) هو آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية. ولكن فقهاء الانحراف من شعب إسرائيل لم يؤمنوا به وطالبوه إن كان هو المسيح حقا فليأت إليهم بميراث إبراهيم. ولقد أخبرهم (عليه السلام) بأنه مصدقا لما بين يديه من التوراة، وتصديقه للتوراة التي بين يديه، إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) وهذا التعليم جاء في قول الله تعالى لمريم: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾(1) وفي هذا دليل على أنه لم يكن مصدقا للتوراة التي في زمانه لكونها محرفة.

وما جرى على عيسى (عليه السلام) جرى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). لقد كان مصدقا لما بين يديه من التوراة، ولم يكن مصدقا لما بين يدي عزرا. لأن الذي بين يدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله، ولأن عيسى عليه لم يكن مصدقا بما بين يدي عزرا، بدأ اليهود يغزلون له على مغازل الكيد، ولما أيقن عيسى (عليه السلام) أن دعوته غير ناجحة بين بني إسرائيل كلهم أو جلهم، وأنهم كافرون به لا محالة، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة. مهد لبقاء دعوته ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ﴾(2) لقد أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه.

فيتمحضوا للحق، فتستقر فيهم عدة الدين، وتتمركز فيهم قوته، ثم تنتشر من عند هم دعوته، وعندما استفهم عيسى منهم ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(3) وكان تعالى قد أوحى إليهم أن يؤمنوا بالمسيح يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾(4).

قال المفسرون: المراد بهذا الوحي وحي إلهام(5).

لقد كان وحي الله للحواريين إشارة إلى أن أتباع توراة عزرا لا فائدة فيهم.

وأن الدعوة سيوضع في طريقها جميع أحجار شعب إسرائيل حتى لا تعبر إليهم، ومن أجل ذلك أوحى الله إلى صدر القافلة التي قدر لها أن تواجه أحجار الجموع كي يؤمنوا برسوله. وبدأ المسيح (عليه السلام) يقيم الحجة على شعب إسرائيل.

فلما وجد اليهود أن المسيح يزاحمهم في مدنهم وفي هيكلهم ويتحدث من توراة غير توراتهم التي لا تحمل إلا معالم سماوية باهتة. بد أوا يمارسون سلطانهم الظاهر والخفي من أجل الايقاع به، ومكروا مكرا، وعند الله مكرهم، فأخبر سبحانه عيسى (عليه السلام) بما يمكر اليهود.

قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾(6).

قال المفسرون: المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾(7) وقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾(8) وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول إذا قام من النوم: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا"(9) فالتوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت فقط. بل بعناية الأخذ والحفظ. والمعنى أن الله رفعه في منامه وأبعده من الكفار وصانه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود وأن متبعيه من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين به إلى يوم القيامة.

وبدأ اليهود يعدون العدة للفتك بالمسيح (عليه السلام) كما فتكوا من قبل بزكريا ويحيى (عليهما السلام) ولكن الله تعالى نجا المسيح ابن مريم من أيديهم، وما وجدوا في بيت المسيح إلا شبيه المسيح. الذي ألقى الله عليه الشبه بعد رفع المسيح إليه، وخرج اليهود يهللون لانتصارهم الكبير يقول تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا / بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(10).

قال المفسرون: ينص على أنه (عليه السلام) لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره.

فأخذوا غير المسيح (عليه السلام) مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه. وقد وردت به روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه .. وقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ أي اختلفوا في عيسى أو في قتله ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي في جهل بالنسبة إلى أمره ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي التخمين أو رجحان ما أخذه بعضهم من أفواه بعض. وقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي ما قتلوه قتل يقين، أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين وقوله. ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ وهذه الآية بحسب السياق. تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه. فقد سلم من قتلهم وصلبهم. وظاهر الآية أيضا. أن الذي ادعوا إصابته بالقتل والصلب، وهو عيسى (عليه السلام)، رفعه الله بشخصه البدني، وحفظه من كيدهم، فعيسى رفع بجسمه وروحه، لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى، فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق، فإن الإضراب الواقع في قوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ وهذه الآية يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف .. وبعد ذلك كله فالآيات التي جاءت بعد ذلك في سورة النساء، لا تخلوا عن إشعار أو دلالة على حياته (عليه السلام) وعدم توفيه بعد(11).

لم يتوف المسيح (عليه السلام) بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف.

وسيظهر آخر الزمان ليدافع عن اسمه أمام مسيح دجال وقف دليلا لأصحاب جميع الانحرافات والشذوذ. ولن يكون أتباع المسيح ابن مريم أولئك الذين قالوا بأن المسيح ابن الله! أو الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة! فجميع هؤلاء سيجدون كراسيهم وطعامهم عند مسيح آخر دجال. إذا ادعى النبوة صدقوه وإذا ادعى الألوهية صدقوه، لأنهم تربوا على ثقافة تقول بأن لله ولد أو بأن لله جسد على هيئة الإنسان. فهؤلاء لن يشعروا بالغربة وهم مع المسيح لأنه امتدادا لانحرافهم.

والدجال سيدعي كل هذا. سيطالب بميراث بني إسرائيل. فيصطف خلفه بني إسرائيل وخدام وكلاب بني إسرائيل. ثم يجري الله على يديه بعض الفتن.

فيشفي الأكمه والأبرص فيتذكر النصارى معجزات المسيح ويهرولون إليه، ثم يدعي الألوهية، ليذوق الذين رفضوا البشر الرسول والذين جحدوا بآيات الله الذل على أيدي الدجال أذل خلق الله.

وبعد رفع المسيح، وبعد أن ظن اليهود أنهم قتلوه، بدأوا يتفرغون لأتباعه، الذين كانوا قد تفرقوا على رؤوس الجبال انتظارا لعودة المسيح (عليه السلام)، وكان (عليه السلام) قد أخبر أتباعه بأن اليهود لن يصلوا إليه، وأنه سيعود إليهم عندما يشاء الله. على هذا كانوا يحسبون أن العودة قريبا، فتفرقوا في الجبال انتظارا لهذه العودة(12).

لم يكن اليهود يشعرون بالراحة وبينهم أتباع المسيح. ومن أجل هذا بد أوا يعدون العدة لإخراجهم. ولكن ليس من القدس وما حولها فحسب وإنما من الدين أيضا. وهذه المهمة قام بها واحد من اليهود المتعصبين لفكرة أرض الميعاد(13) وكان يدعي "شاؤول" ويعرف في المسيحية باسم "بولس" فبولس قام بتفصيل دين لا يكون خطرا على اليهود في أي منزل من منازل البشرية نزل.

وبعد فترة من رفع المسيح. تقدم بولس مخترقا جدار المسيحية وقدم نفسه على أنه قد قابل المسيح. وأنه تلميذه الأمين. وفي بداية الأمر كان أتباع المسيح يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ أما في نهاية الأمر فقد وضع بو لس الدين الجديد الذي قال عنه الدكتور جوستاف لوبون: إن بولس أسس باسم يسوع دينا. لا يفقهه يسوع لو كان حيا. ولو قيل للحواريين الإثني عشر أن الله تجسد في يسوع.

ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين(14). لقد وضع بولس إنحراف التثليث الذي عكف عليه فقهاء عجل أبيس في مصر القديمة. وفقا لأسطورة إيزيس وأوزير.

وضعه داخل جدار المسيحية ولم يكتف بهذا. بل صاغ الدين الجديد على أساس أن يكون تابعا لليهود وساهرا على مصالحهم بصورة من الصور. وعلى أن لا ينال النصارى مقابل اتباعهم لليهود شرف الانتساب إليهم في الدم أو الميراث الموعود. وفي هذا يقول توينبي: النجاح الذي يدعو للدهشة أن بولس انتزع مسيحية لا يهودية من الدين اليهودي. بحيث كان باستطاعة غير اليهودي أن يتقبلها بحرية من غير أن يلتزم بالشريعة اليهودية. ومما يدعو للإعجاب بشكل مساو للدهشة أن المسيحية ذات الصبغة اليهودية السابقة الذكر، نجحت في النهاية في أن تضم إليها سكان الإمبراطورية الرومانية باستثناء اليهود"(15).

والخلاصة. وضع بولس اللبنة التي عليها يقوم صرح الدفاع عن شعب الله المختار. وفي هذا يقول الكردنال دانيلوا: "إن المسيحيين المخلصين، يعتبرون بولس خائنا. وتصفه وثائق مسيحية بالعدو. وتتهمه بالتواطؤ التكتيكي(16) ويقول موريس بوكاي." إن بولس كان أكثر وجوه المسيحية موضعا للنقاش. وإذا كان قد اعتبر خائنا لفكر المسيح فذلك لأنه كون مسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح من حوله لنشر تعاليمه. ولم يكن بولس قد عرف المسيح في حياته(17) وباختصار شديد. إذا كان عزرا قد قاد القافلة في اتجاه الانحراف المظلم. فإن بولس لمد لحق به. لأن عزرا جدا من أجداده.

وأرض المعاد هدفا من أهدافه. ويخطئ من يظن أن بولس قد أضاف للإنسانية بعدا كريما. بل صنع أوثانا جديدة وزين أوثانا قديمة وفي هذا يقول وول ديورانت: "إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها(18) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله(19) وقصارى القول: إن المسيحية كانت آخر شئ عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم(20).

وهكذا شق الذين كفروا من أهل الكتاب طريقهم الذي بدأه عزرا وأنهاه بولس الذي لم ير المسيح ولم يسمع منه. وعلى الرغم من هذا كان يقول: "أنا أيضا عندي روح الله الروح يفحص كل شئ وحتى أعماق الله"(21) وكان يقول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس. إذ صار لعنة لأجلنا. لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة"(22) هذا ما قاله بولس في حق نفسه وهذا ما قاله في حق المسيح. فأما هو فعنده روح الله وأما المسيح فلقد صار لعنة!!. وظل الحي اليهودي يموج في بعضه. حتى جاء يوم النجاة. ذلك اليوم الذي إذا رفضوه ضربهم عذاب الطمس.

ثالثا: ما قيل عذاب الطمس:

في الحي اليهودي ذاق اليهود العذاب على أيدي الغزاة الأجانب. وذاق النصارى العذاب على أيدي بعضهم بعضا. وفي هذا الظلام جاءهم الهدى يحمل رايته محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فبين لهم ما التبس عليهم وما اختلفوا فيه. وقص على بني إسرائيل قصصهم التي لا يعرفها غيرهم. وقص على النصارى أحداث ليلة رفع الله تعالى فيها المسيح وكان أتباع المسيح يعرفونها ولكن عندما طال الأمد قام اليهود بوضع رداء الفتنة على الأحداث ووجهوها في صالحهم. لقد قص القرآن على الأسماع. الحقيقة التي يفوز من آمن بها ورد قولهم الذي يقول أن لله ولد. فقال تعالى: ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(23).

قال المفسرون: في الآية حجة على نفي التعدد.

فمعنى ربوبية الإله. في شطر من الكون ونوع من أنواعه، هو تفويض التدبير فيه إليه. بحيث يستقل في أمره. من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه. فإذا كان هناك أرباب فلازم ذلك. أن يستقل كل إله بما يرجع إليه من نوع التدبير. وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم. كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوانات والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها. وكل منها عن كل منها. وفيه ساد السماوات والأرض وما فيهن. وبما أن النظام الجاري في العالم يسير على صراط واحد فإن ذلك يعني أن المدبر واحد قوله: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بيانه.

أن التدابير الجارية في الكون مختلفة. منها التدابير العرضية. كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر. والتدبيرين الجاريين في الماء والنار. ومنها التدابير الطولية. التي تنقسم إلى تدبير عام كلي. وتدبير خاص جزئي محكوم، كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه. وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء. وكتدبير العالم المادي برمته. وتدبير نوع من الأنواع المادية.

فبعض التدبير، وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا، بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه. كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم، لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص، ولازم ذلك أن يكون، الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير. عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو. دونه. واستعلاء الآلهة يؤدي إلى فساد الكون. وبما أن النظام الكوني يسير على صراط مستقيم ملتئم الأجزاء متصل التدبير، فإن هذا يعني أن المدبر واحد لا إله إلا هو.

لقد تحدث الرسول الأعظم وتلى آيات ربه وأخبرهم بأنه لو قدر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، ونتيجة ذلك عدم انتظام الوجود. والوجود من أمامهم يرى منتظم متسق مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال، وأخبرهم أن تعدد الآلهة يكون من نتيجته أن يقوم كل منهم بقهر الآخر ويعلو بعضهم على بعض.

أخبرهم بهذا وبأكثر من هذا كما في كتاب الله، ولكن رياح السلف كانت تعصف داخل الجماجم الفارغة التي لم تقدم حقيقة واحدة تثبت صدق ادعائها.

واكتفوا بركوب دواب الأهواء التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل واتجهوا بدوابهم وراء سلف ضل وأضل. ولله عليهم الحجة البالغة. وكما نهاهم القرآن أن يقولوا بأن لله ولد، نهاهم بأن لا يقولوا أن الله ثالث ثلاثة، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾(24).

قال المفسرون: إنه خطاب للنصارى، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب، وهو وصف مشترك إشعارا بأن تسميتهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه. ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق. وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ أي المبارك "عيسى ابن مريم" تصريح بالاسم واسم الأم. ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير. وليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة "كن" التي ألقيت إلى مريم البتول. لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب. قال تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(25) فكل شئ كلمة له تعالى. غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية. والذي اختص لأجله عيسى (عليه السلام) بوقوع اسم الكلمة. هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ والروح من الأمر. قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾(26) ولما كان عيسى (عليه السلام). كلمة "كن" التكوينية وهي أمر فهو روح.

فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان بالله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا. حال كون الانتهاء. أو حال كون الإيمان بالله ورسله. ونفي الثلاثة خيرا لكم.

﴿سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ فإن الولد كيفما فرض، هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته فتكونا منه. وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى. وهو القيوم لكل شئ وحده. فلا يماثله شئ من هذه الأشياء فلا ولد له(27).

لقد جاءهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهدى وتلى عليهم قول ربه: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ / لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(28).

قال المفسرون: هذا كالبيان، لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح (عليه السلام). عن تعلق الكفر بهم. إذ أشركوا بالله. ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا. إن الله هو المسيح ابن مريم .. ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح (عليه السلام) نفسه، فإن قوله (عليه السلام): ﴿اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ يدل على أنه عبد مربوب مثلهم.

وقوله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته، فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.

وفي قوله (عليه السلام): ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث الفداء. وأنه (عليه السلام) باختياره الصلب، فدى بنفسه عنهم، فهم مغفور لهم! مرفوع عنهم التكاليف الإلهية! ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا! وقوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ أي أحد الثلاثة: الأب والإبن والروح. أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة. وهذا لازم قولهم أن الأب إله. ولابن إله والروح إله. وهو ثلاثة! وهو وحد! يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان. فهناك أمور ثلاثة هي: زيد وابن عمرو والإنسان. هناك أمر واحد هو المنعوت بهذه النعوت. وقد غفلوا عن هذه الكثرة إن كانت حقيقة غير اعتبارية. أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة. وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقة. فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية. في زيد المنعوت بحسب الحقيقة. مما يستنكف العقل عن تعقله. ولذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة، من مذاهب الأسلاف، التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية.

ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه، سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.

وقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فالمعنى: ليس في الوجود شئ من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا، لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات لا خارجا ولا فرضا، إن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى، لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة. أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى إحدى الذات لا ينقسم لا في الخارج ولا في وهم ولا في عقل. فليس الله سبحانه. بحيث يتجزأ في ذاته إلى شئ وشئ قط. ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر. كيف؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج. فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالواحدة العددية. التي لسائر كيف؟ وهذه الواحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده، فكيف يتصف بما هو من صنعه؟(29).

وقوله: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالمعنى: ولما كان القول بالتثليث ليس في وسع عقول العامة أن تتعقله، فأغلب النصارى، يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه. ولا أن يطمعوا في تعلقه. وبما أنه ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا.

كان هناك من النصارى من لا يقول بالتثليث. ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله. كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها وعلى ما يضبطه التاريخ فقوله: ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ أي لئن لم ينته النصارى عما يقولون -نسبه قول بعض الجماعة إلى جميعهم- ليمسن الذين كفروا منهم -وهم القائلون بالتثليث منهم- عذاب أليم. ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تخصيص على التوبة والاستغفار. وتذكير بمغفرة الله ورحمته. أو إنكار. أو توبيخ.

لقد توجهت آيات القرآن إلى الكتاب تدعوهم إلى الإيمان قبل أن يطمس الله وجوههم ويسيروا وقد ختم الله على قلوبهم نحو الدجال. لا ينفعهم إيمان إذا جاء بأس الله. ولا يأذن الله لناصر ينصرهم بالهداية. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾(30).

قال المفسرون: وأنتم تشهدون. الشهادة هي الحضور والعلم عن حس. دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله: إنكارهم كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النبي الموعود الذي بشربه في التوراة والإنجيل. مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه(31).

وقال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ / يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(32).

قال المفسرون: كانوا يخفون آيات النبوة وبشارتها. وكانوا يخفون حكم الرجم. وأما عفوه عن كثير، فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب. ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين. كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة. لا يصح استنادها إليه تعالى. كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك. وما لا يجوز العقل نسبة إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات. وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس. ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد. وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد وثنية وقوله: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ المراد بالنور والكتاب المبين القرآن. وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كتابه. ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد عده الله تعالى نورا في قوله: ﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾(33).

وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ قيد فيه تعالى قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ﴾ بقوله: ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه. ومعنى الآية والله أعلم: يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه. من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة. وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة. فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله. وقد قال تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾(34) وقال: ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(35) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والإنخراط في سلك الظالمين. وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته، وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(36) فالآية أعني قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ تجري مجري قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾(37).

وقوله: ﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ معنى إخراجهم بإذنه: إخراجهم بعلمه .. لقد دعاهم الرسول الأكرم إلى النور والمغفرة قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ / وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾(38).

قال المفسرون: المراد بالتقوى بعد الإيمان. التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار. وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار.

وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ﴾ المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى (عليهما السلام). دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داوود وغيره وقوله: ﴿لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ المراد بالأكل التنعم مطلقا. والمراد من فوقهم هو السماء ومن تحت أرجلهم هو الأرض.

والآية من الدليل على أن الإيمان والعمل الصالح له تأثير في صلاح النظام الكوني.

من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني. فلو صلح النوع الإنساني، صلح نظام الدنيا، من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم. لقد عرض عليهم القرآن الإيمان بالرسول (صلى عليه وآله وسلم). كي يركبوا طريق الهداية. ثم عرض عليهم أن يقيموا التوراة والإنجيل اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى (عليهما السلام). ففي حالة ظهورهما سيقطعون أقرب الطرق للإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيؤمنون به عن طريق كتبهم. لأنه موصوف فيها. وكان اليهود والنصارى ينشرون بينهم وفي العالم خبر نبوته كما قال تعالى: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(39).

قال المفسرون: أي قبل مجئ النبي بالقرآن كانوا بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ويقولون أنه سيبعث نبي أخر الزمان. نقتلكم معه قتل عاد وإرم(40) فلما جاءهم عرفوا أنه هو انطباق ما كان عندهم من أوصاف عليه كفروا(41).

وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض"(42) أي لو صدق برسالتي وما جئت به عشرة من علماء اليهود ورؤسائهم الذين يقتدى بهم، لقادوا سائرهم إلى الدخول في الإسلام.

لقد كان النبي يريد أن يؤمن قادة اليهود. ولكن قادة اليهود انطلقوا في عالم الطمس يتبعهم الظالمون من النصارى. ولن يغني عنهم إيمانهم بأنبياء بني إسرائيل. لأنهم فرقوا بين الله ورسله، فقالت اليهود آمنا بموسى، ثم كفروا بعيسى ومحمد. والتوراة التي بأيديهم لا تحمل إلا ملامح باهتة عن موسى.

وقالت النصارى آمنا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد. والأناجيل التي بأيديهم منسوبة إلى تلاميذ يؤرخون لحياة المسيح وما وقع بينه وبين اليهود. وهي أولا لا تتفق فيما بينها في كثير من المعاني. وثانيا فإنها تقول بالتثليث بينا التوراة لا تقول به. وهكذا فرقوا بين الله ورسله وكتبه. وحكم الله حكمه الحق بأنهم كافرون بالله ورسله جميعا. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً / أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا / وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(43) فالكفر بالبعض والإيمان بالبعض. ليس إلا تفرقة بين الله ورسله. ولا سبيل إلى الله إلا الإيمان به وبرسله جميعا. فإن الرسول ليس له من نفسه شئ. ولا له من الأمر من شئ. فالإيمان به إيمان بالله. والكفر به كفر بالله. لقد كانت الرسالة المحمدية هي الباب الأخير الذي بدخوله ينجوا بني إسرائيل من العذاب الذي دق أوتاده سلفهم حول العجل يوما ما. كان الإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو طوق النجاة الذي ينشلهم من بحار الفتن التي أدلى فيها سلفهم كل واحد منهم بدلوه المحمل بالشذوذ والانحراف. ولكن أصحاب الأيدي الخفية أولئك الذين يعملون من قديم من أجل تأصيل الشذوذ عملوا بكل جهد من أجل أن تسير مسيرة الفساد في اتجاه الدجال. ولأن الإسلام لا يكره أحد على اتباعه. تركهم الله في طريقهم. وختم على قلوبهم بعد أن مهدوا لأنفسهم ودخلوا بأقدامهم تحت عذاب الطمس.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- سورة آل عمران / 48.

2- سورة آل عمران / 52.

3- سورة آل عمران / 52.

4- سورة المائدة / 111.

5- ابن كثير ج2 / ص115.

6- سورة آل عمران / 55.

7- سورة الأنعام / 60.

8- سورة الزمر / 42.

9- ابن كثير ج1 / ص366.

10- سورة النساء / 157-158.

11- الميزان ج5 / ص133.

12- راجع بحوثنا في المسيح الدجال.

13- كان فريسيا. أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في اليهودية (أعمال الرسل: 7 / 26).

14- حياة الحقائق -جوستاف لوبون- ص187.

15- تاريخ الجنس البشري -توينبي- ج1 / ص377.

16- حقيقة التبشير -أحمد عبد الوهاب- ص59.

17- دراسات في الكتب المقدسة: بوكاي ص101.

18- قصة الحضارة: ديورانت مجلد11 / باب27 / ف2 / ص276.

19- قصة الحضارة: ديورانت مجلد11 / باب28 / ف ه مر / ص320.

20- قصة الحضارة: ديورانت مجلد11 / باب27 / فصل 5 / ص276.

21- كور: 7 / 40.

22- غلاطية: 3 / 13.

23- الميزان ج15 / ص62.

24- سورة النساء / 171.

25- سورة آل عمران / 47.

26- سورة الإسراء / 85.

27- الميزان ج5 / ص150.

28- سورة المائدة / 72-74.

29- الميزان ج6 / ص71

30- سورة آل عمران / 70.

31- الميزان ج3 / ص256.

32- سورة المائدة / 15-16.

33- سورة الأحزاب / 46.

34- سورة الزمر/ 7.

35- سورة التوبة / 96.

36- سورة الجمعة / 5.

37- الأنعام / 82.

38- سورة المائدة / 65-66.

39- سورة البقرة / 89.

40- ابن كثير ج1 / ص124.

41- الميزان ج1 / ص222.

42- رواه محمد وأبو داود -الفتح الرباني- ج1 / ص102.

43- سورة النساء / 150-152.