انحرافات بني إسرائيل -1

﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ﴾(1)

الحمار يحمل أسفارا

الطريق إلى المسيح الدجال

مقدمة:

أثناء حكم يوسف (عليه السلام) لمصر. جاء بنو إسرائيل وأقاموا فيها، وسار فيهم يوسف بشريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام)، وأرسى قواعد التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله وحده لا شريك له في نفوسهم، وبعد رحيل يوسف (عليه السلام) هبت عواصف الفراعنة تحمل الوثنية وتطرحها على أرض مصر من جديد(2). ويرى هذا لدى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾(3) وعلى امتداد الثقافة الفرعونية تأثرت الروح الإسرائيلية بالوثنية الفرعونية ومنها عبادة عجل أبيس الذي اعتقدوا أن روح الآلهة تسكنه! وتحت الراية الفرعونية شرب بنو إسرائيل من وعاء المادية حتى أصبحت المادية أصل أصيل داخل نفوسهم. وهذه المادية هي التي جعلتهم يحكمون في الله سبحانه بما يعقلون من أوصاف الماديات، ورغم أن شعب بني إسرائيل أجرى حياته في ظل الفرعونية وفيما بعد على المادة إلا أن عصبيتهم القومية كانت تحتفظ لهم بدين آبائهم بصورة من الصور. وعلى الرغم من أن الكثرة منهم كانوا يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعنون بما وراء الحس، إلا أن عصبيتهم القومية كانت تعتني بما وراء الحس اعتناء تشريفيا من غير أصالة.

وعندما بعث موسى (عليه السلام) لم يؤمن به إلا القلة إيمانا حقيقيا، أما الكثرة فكانوا يؤمنون به إيمانا قوميا عاموده الفقري إنجاز المصالح. وبعد خروج بني إسرائيل من مصر إلى سيناء، بوأهم الله المبوأ الطيب الذي يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من مسكن وهواء وماء. فسيناء صحراء جرداء لا شجر فيها ولا سكن والشمس فيها شديدة، ولكن يطيب لهم المكان، ساق الله إليهم الغمام ليظلهم ويقيهم وهج الشمس، وأرسل لهم سبحانه الرياح تحمل لهم المن والسلوى، وأمر سبحانه موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فلما ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وبالجملة أصبحوا وهم مع رسول الله موسى (عليه السلام) أحرارا يملكون أنفسهم ويعملون بكل حرية وكرامة ويعبدون إله الخلق.

ولكن شعب بني إسرائيل لم يشكر النعمة التي أنعمها الله عليه. فلقد كانت الكثرة إلى الكفر أسبق. والناقضون لعهد الله فيهم أكثر، فبعد أن ملوا من العيش في سيناء، طلب القوم من موسى (عليه السلام) سعة العيش، وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض. فقال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ند خلها حتى يخرجوا منها. فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.

قال المفسرون: توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار.

والحق أن المراد مصر من الأمصار(4) فموسى (عليه السلام) حينما أراد الإنتقال بهم إلى إحدى المدن وإلى مصر من الأمصار من بلاد الشام امتنعوا عليه(5)، وقالوا لا قدرة لنا على مقاومتهم وقتالهم فلما رغبهم بوعظه ونصائحه، وببيان آياته التي أجراها الله على يديه، وعلموا منه الجد في لزوم دخول تلك البلاد، وسكنى تلك الأرض المقدسة ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ / قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(6). لقد طالبهم رسولهم بالقتال، والإنسان ذو الفطرة النقية يحب الاستشهاد تحت قيادة نبي الله ورسوله. ولكن القوم لم يرتفعوا إلى هذا الفهم نظرا لأنهم لا يعنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة، ومن أجل هذا قاموا بأعمال تثبت أنهم أكثر أمم الأرض لجاجا وخصاما وأبعدهم عن الانقياد للحق، لأنهم يتمادون في الجهالة والضلالة ولا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، وعن نقض المواثيق وإن غلظت. والقرآن الكريم سجل لهم العديد من مواقف الكفر والجحود وبأنهم كفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل، وإنما اختلفوا عن علم. وشعب بني إسرائيل لم يعبد كله العجل. ولا كلهم عصوا الأنبياء ولا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم، وإنما نسبت المعاصي إلى الكل رغم أنها صادرة عن البعض، لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، وينسب فعل بعضهم إلى الآخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، وكما رأينا قبل ذلك أن الذي عقر ناقة صالح كان فردا واحدا ولكن الله تعالى نسب عملية العقر إلى ثمود كلها لأنهم قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض.

1- بصمات الانحراف على وجه شعب إسرائيل:

لقد فضل الله تعالى بني إسرائيل على العالمين، لأن فيهم أنبياء بني إسرائيل، فوجود النبوة هو العمود الفقري للتفضيل وليس وجود الشعب، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ / وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ / وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ / وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ / ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(7).

قال المفسرون: قوله: ﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فالعالم هو الجماعة من الناس. كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم. ومعنى تفضيلهم على العالمين، تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم. لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة. وأما غيرهم من الناس فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم. ويمكن أن يكون المراد. تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس. سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم. فإن الهداية الإلهية من غير واسطة. نعمة يتقدم بها. تلبس بها على من لم يتلبس.

وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.

فالمجتمع الحاصل من الأنبياء الملتف حولهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي(8).

فالذين حول دائرة النبوة، مهديون إلى صراط مستقيم وفي أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق. أما الذين يسيرون على طريق يفرقون فيه بين رسل الله، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو يفرقون فيه بين أحكام الله وشرائعه، فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، أو يركبون الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني، فهذه الطرق هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه، لأن أصحابها انحرفوا عن دائرة الأنبياء التي هي شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء. فبني إسرائيل فضلهم الله على العالمين لأنهم الأرضية لأنبياء بني إسرائيل. فبدون الأنبياء ما ذكر اسم بني إسرائيل. وبني إسرائيل بدون الدين الحق. لا قيمة لهم ولا وزن.

ولذا نرى أنهم عندما طالبوا موسى بأن يجعل لهم آلهة من دون الله، ردهم (عليه السلام) إلى دائرة التفضيل التي لا تستند إلا على الدين الحق. يقول تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ / إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ / قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ / وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ ..﴾(9).

قال المفسرون: كانت نفوسهم قد تأثرت بالعبادات المصرية. لذلك كانوا يتصورون أن الله سبحانه جسم من الأجسام! وكلما كان موسى (عليه السلام) يقرب لهم الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل.

لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم، فسألوا موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها! فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة. فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه. ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده -كما يقول عبدة الأصنام- فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته. فإنه فضلكم جملي سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق. وإنجائكم من فرعون وعمله.

فكما ترى. دفعهم موسى (عليه السلام) بألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل(10) لقد ردهم (عليه السلام) إليه بصفته رسول الله الذي على يديه شاهدوا المعجزات وبصفته أعلم الناس بدين الله الحق لأن الله فضله على العالمين، وبردهم إليه أد خلهم في دائرة التفضيل. وهم داخل هذه الدائرة ما داموا في ظلال الأنبياء.

فإذا كذبوا الأنبياء أو قتلوهم، فلا مكان لهم على الصراط المستقيم ولو رفعوا آلاف الرايات التي تحمل في ظاهرها رموز الصراط المستقيم، وبني إسرائيل تاجروا بالاسم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم، وذلك بعد أن قفزوا بعيدا خارج دائرة الأنبياء. لقد تمردوا على موسى وهارون (عليهما السلام). يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾(11).

قال المفسرون: أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة(12) ولم يقف الأمر عند موسى، بل تمردوا على جميع أنبياء الشجرة الإسرائيلية، حتى لعنهم داوود وعيسى ابن مريم (عليهم السلام).

يقول تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ / كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾(13).

قال المفسرون: إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات. بأنهم ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم. وذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم واستمرارهم على الاعتداء.

لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف. فحرفوا الكلم عن مواضعه. وكفروا بآيات الله. وقتلوا الأنبياء بغير حق. وقالوا قلوبنا غلف. وبعد هذا يقولون. إن الله فضلهم على العالمين! إن الشذوذ الذي دق قوم نوح أوتاده انتهى آخر الأمر إلى سلة بني إسرائيل! بمعنى أن الانحراف الذي وضعه قوم نوح، ضرب الله أصحابه بالغرق ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم .. أما الانحراف نفسه فإن طرحه على الأجيال في كل زمان، مهمة شيطانية .. فالشيطان يلتقط الانحراف بعد التجربة الإنسانية الأولى. ثم يزينه بما يستقيم مع جيل آخر. وبعد انتهاء الجيل يقوم بتعديل الانحراف بعد التجربة الإنسانية الثانية. ليلقيه على جيل ثالث. وهكذا.

فمن كان له عبرة في السلف وتذكر ضربات الطوفان والرياح والصيحة وغير ذلك .. ابتعد بفطرته النقية عن مصادر الشذوذ الملون والانحراف المغلف بأغلفة براقة! أما الذين تربعت عبادة العجول على عقولهم، فإن في سلالهم تتجمع جميع الانحرافات ابتداء من قابيل قاتل أخيه وانتهاء بآخر انحراف وآخر شذوذ. وبنو إسرائيل استحوذوا على جميع الانحرافات ثم قاموا بنشرها على صفحة العالم للصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على أديان اخترقوها وقاموا بتوجيهها نحو أهدافهم وأيضا على منظمات وجمعيات تحمل لافتات براقة ظاهرها الرحمة والعدل وباطنها العذاب الأليم. ونحن سنوجز هنا انحرافات الأوائل التي استقرت في السلال الإسرائيلية بعد أن قام تلاميذ الشيطان بتحويرها وتهذيبها وتجميلها حتى استقرت في الصورة الأخيرة.

بصمة انحراف قوم نوح:

كما ذكرنا من قبل أن قوم نوح عبدوا الأصنام، ورفضوا بشرية الرسول، وأطاحوا بسنة العدل الاجتماعي فقسموا البشر إلى أقوياء وضعفاء، فالأقوياء هم الأشراف. والضعفاء هم الأراذل، وبنو إسرائيل لم يخرجوا قيد أنملة عن هذا، لقد عبدوا العجل واتبعوا الأهواء، وسنتكلم عن هذا في موضعه، أما رفضهم للرسول البشر .. فلقد رفعوا هذه اللافتة في وجه نبي الله الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾(14).

قال المفسرون: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب. والطائفتين ترجعان إلى أصل واحد. وهو شعب إسرائيل، بعث إليهم موسى وعيسى (عليهما السلام)، ودعوة عيسى انتشرت بعد رفعه في غير بني إسرائيل، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى (عليه السلام)(15). لقد سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوب من الله إلى فلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به(16). وهذا السؤال بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن. لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة، وإنما يلغو ويهذو بما قدمت له أيدي الأهواء. من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس(17).

ولم يطلبوا خطاب السماء فقط. وإنما طالبوا أيضا بآية على الأرض يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾(18).

قال المفسرون: كذب الله تعالى هؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. وأخبر على لسان رسوله. بأنه قد جاءهم رسل من قبل محمد بالحجج والبراهين وبنار تأكل القرابين. فلماذا قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلوهم. أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم. ثم أخبر الله تعالى رسوله بأن لا يوهنه تكذيب هؤلاء له. فله أسوة بمن قبله من الرسل الذين كذبوا مع ما جاؤوا به من البينات.

وبنو إسرائيل الذين يرفعون لافتة التفضيل على العالمين. قالوا لمحمد رسول الله قاله فرعون لموسى (عليه السلام) لقد وصف فرعون آيات موسى بالسحر. وبنو إسرائيل لم يفعلوا أكثر من هذا. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾(19).

قال المفسرون: ملخص دعوة عيسى (عليه السلام) ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم﴾ أشار بهذا إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله: ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ ..﴾ فقوله: ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة. ولا تناقض شريعتها بل تصدقها، ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا. والنسخ بيان انتهاء أمر الحكم وليس بإبطال. ولذا جمع (عليه السلام) بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها في قوله: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾(20) ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾(21).

وقوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته (عليه السلام). وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله: ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه، ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته. هو انفتاح باب الرحمة الإلهية على الناس، فيه سعادة دنياهم وعقباهم، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما .. فماذا فعل بنو إسرائيل في الرسول الذي بعثه الله ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وبين لهم بعض ما يختلفون فيه؟ وماذا كان موقفهم من النبي أحمد (صلى الله عليه وآله) الذي بشر به عيسى والذي يجدونه مكتوبا عند هم في التوراة والإنجيل؟ لقد كان موقفهم من عيسى أنهم كذبوه. وحاصروه. فرفعه الله إليه. أما موقفهم من أحمد (صلى الله عليه وآله) فكان هو نفس موقف فرعون من موسى ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.

أليس في هذا بصمات كفار قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، لقد رفضوا بشرية الرسول بما يستقيم مع أهوائهم. فطالبوا بكتاب من السماء وقربان تأكله النار وعندما شاهدوا المعجزة أمام عيونهم بعد ما شاهدوا معالمها على صفحات كتبهم قالوا: هذا سحر مبين. وبعد أن رفضوا القمة على امتداد عصورهم، بدأوا يرفضون القاعدة وفقا لفقه كفار قوم نوح الذين صنفوا البشرية إلى قسمين.

أشراف وأراذل! فهذا الفقه سار بشذوذه على امتداد المسيرة البشرية، واستقر في النهاية داخل سلة بني إسرائيل، فادعوا أنهم شعب الله المختار! وأنهم أولياء الله وأحباؤه، وباقي البشر بالنسبة لهم مجرد حيوانات آدمية تكد من أجلهم، وتحمل على ظهورها أحجار هيكلهم، ولقد أطاح القرآن الكريم بتصنيفهم للبشر، وتحداهم بأن يتمنوا الموت أمام رسول الله الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(22).

قال المفسرون: ومحصل المعنى. قل لليهود مخاطبا لهم. يا أيها الذين تهودوا، إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس، إن كنتم صادقين في دعواكم. فتمنوا الموت، لأن الولي يحب لقاء وليه، ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة، ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت، وعلى هذا فهو يحب الموت ويتمنى أن يحل به، ليدخل دار الكرامة، ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة. وقد علل سبحانه عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم، وهو كناية عن الظلم والفسوق، ومعنى الآية ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ أي ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم، فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين، يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه، لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة، والآيتان مع معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾(23) إن ادعاء الولاية تطوير لأطروحة الأشراف والأراذل .. تلك الأطروحة التي مرت بتجارب عديدة داخل المعامل الشيطانية حق طالت الكبير والصغير، داخل البيت الواحد والشارع الواحد والقرية الواحدة. لقد رفع الأشراف أعلا مهم، وما زالوا يسخرون من الأراذل الذين يجمعون الألواح والدسر. إن ادعاء بني إسرائيل هذا كان مظلة كبرى قاست البشرية من تحتها جرائم لا حصر لها، وحتما سيأتي الطوفان يوما، وليس كل طوفان من ماء. وليس كل سفينة من ألواح ودسر.

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- سورة البقرة / 88.

2- تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.

3- سورة غافر / 34.

4- ابن كثير ج1 / ص102.

5- كتاب الأنباء ص322.

6- سورة المائدة / 24-25.

7- سورة الأنعام / 83-88.

8- الميزان ج7 / ص243.

9- سورة الأعراف / 138-141.

10- الميزان ج8 / ص235.

11- سورة الصف / 5.

12- ابن كثير ج4 / ص359.

13- سورة المائدة / 78-79.

14- سورة النساء / 153.

15- الميزان ج5 / ص129.

16- ابن كثير ج1 / ص572.

17- الميزان ج5 / ص130.

18- سورة آل عمران / 183-184.

19- سورة الصف / 6.

20- سورة آل عمران / 50.

21- سورة الزخرف / 63.

22- سورة الجمعة / 6-7.

23- سورة البقرة / 94-95.