انحرافات فرعون موسى (ع) -5

7- أيام من العذاب:

لم يستمع القوم إلى ما قاله المؤمن لهم، ورموه بالتهم الباطلة حتى تضيع كلماته ويجلب فرعون لنفسه المنفعة، لقد صبوا عليه الاتهامات لأنه ألقى بحججه على حياة الباطل وسمعته، وعرى أفعالهم المرعبة النكراء التي رسمتها الشياطين المخيفة في مجالسهم ومعايدهم. صبوا عليه الاتهامات بعد أن أخبرهم أنه عند ساعة الموت سيكتشفون الحقيقة، والحقيقة لن تكون أبدا فيما نقلوه لهم عن أوزير ورع وآمون، فهذا الطابور هراء وهباء ضائع في خلاء وليس له دعوة.

 

ولا يحمل إلا بصمات الشياطين، وإذا كانوا يظنون أن الموت يضع حدا لشقائهم بعد أن أضاعوا حياتهم في حمل الأحجار ونقشها خدمة للفرعون، فإن الحقيقة أنه من عند الموت ستبدأ مأساتهم إلى ما لا نهاية. فهناك في أسفل، لن يروا أوزير إله الرحمة. وسيروا مقاما من العذاب في ميزان لا نهائية، عندما قال لهم المؤمن هذا صبوا عليه الاتهامات لأنه لم يدخل السرور والمتعة على عمر الخلود.

 

الخلود الذي يقف على بابه الفرعون ابن آمون رع، وابن حور بن أوزير إله الخصب والموتى(1).

 

لم يستمعوا إلى صوت المؤمن، ولم ينصتوا لموسى (عليه السلام)، فأخذهم الله بالقحوط المتعددة لعلهم يذكرون يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾(2).

 

قال المفسرون: أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع(3) لقد ضربهم الله بالجدب كي يتبينوا أن النيل والشمس لا يملكان لهم من الله شيئا، والنيل والشمس كانا من أهم أرباب الفراعنة، وعندما ضربهم القحط لم يتذكر القوم ولم يتدبروا في آيات الله، ومقابل هذا الجمود ضربهم الله تعالى بما هو أشد كي يفكروا ويتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾(4) لقد أرسل سبحانه عليهم ما يدعوهم للخضوع لله. ولكنهم استكبروا وكانوا قوما مجرمين.

 

يقول المفسرون: قوله تعالى: ﴿آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ﴾ يدل على أنها أرسلت متفرقة لا مجتمعة، منفصلة بعضها عن بعض، وكل آية من هذه الآيات كانت تأتيهم عن أخبار موسى وإنذاره. لقد أرسل الله عليهم آياته. أرسل الطوفان فصب عليهم الماء، وعندما خافوا فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك. ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل وهكذا فعلوا مع كل آية، يخافون فيذهبون إلى موسى، ويعطوه العهد .. فلما يكشف عنهم العذاب يضحكون وينكثون وينقضون عهدهم.

 

يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ / وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ / وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ / فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾(5) والعذاب عندما ضرب، ضرب الجميع في المنازل والقصور. وفي الشوارع وفي الحقول، ولكن القوم في كل مكان لم يكن لديهم أي استعداد فطري للخروج على ما يراه فرعون لهم، كانوا يتعذبون بالجوع والطوفان والجراد والقمل وغير ذلك، وعيونهم على فرعون ليضعوا في عقولهم ما سينطق به، لقد تعذبوا من أجل فرعون، وساروا في طريق العذاب كي ينعموا بما وعدهم الفراعنة وكهان الفراعنة بالخلود الدائم بعد الموت. ذلك الخلود الذي لا يكتمل إلا بطاعة فرعون.

 

وبعد أن كشف الله العذاب عنهم، ذلك العذاب الذي كان دعوة للتوبة، بدأ فرعون في ممارسة سياسة التشكيك في الآيات التي ضربتهم كما بدأ في ممارسة سياسة التحقير من موسى (عليه السلام)، ويخبر الله تعالى عن رد فرعون بعد أن جاءه موسى (عليه السلام) بآيات الله التسع بأنه قال: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا / قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا﴾(6).

 

قال المفسرون: ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا(7) وفرعون بعد هذه الآيات ازداد عنادا وكفرا واتهم موسى (عليه السلام) بأنه مسحور أي اختل عقله، فقال له موسى: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات والأرض، أنزلها بصائر تبصر بها لتمييز الحق من الباطل. وإني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك وجحودك، وإنما أخذ موسى الظن دون اليقين لأن الحكم لله(8).

 

إنها سياسة التشكيك في الآيات سياسة تصف موسى مرة بأنه ساحر، ومرة بأنه مسحور، ومرة بأنه مجنون ومع سياسة التشكيك هذه سارت سياسة التحقيرمعها جنبا بجنب.

 

فكان فرعون ينادي في قومه: انظروا أنا من طبقة أعلى من طبقة البشر. أعلى بكثير من طبقة موسى، وها هي الأنهار وها هم الجنود والكهنة الجميع على أرض مصر مسخر لخدمتي، كما سخروا لخدمة آبائي من قبل الذين تشهد متون الأهرامات بأنهم كانوا آلهة أبناء آلهة (9) فكيف يأتي موسى وهو الذي لا يمتلك شيئا ولا يرجى منه شئ. وليس له أن يكون حمالا عندنا كيف يأتي ويفرض نفسه دليلا علينا.

 

يقول تعالى عن الفقه الفرعوني في سياسة التشهير بعد جحود القوم بآيات الله: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ / أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ / فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ / فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾(10).

 

قال المفسرون: جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها، قائلا: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك. وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء لا ملك لهم ولا سلطان، كما أن موسى الذي يريد أن يكون عليكم ﴿لَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ أي أن لسانه فيه ثقل وفرعون في هذا كاذب، لأن الله تعالى رفع عن موسى هذا الثقل لقوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾(11) بعد قوله (عليه السلام): ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي / يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾(12) وفرعون عندما يطرح على قومه ما هو ليس بموجود دليل على أنه كان يعلم أن عقول قومه في سلة مهملاته.

 

ثم قال فرعون ما قاله قبله كفار قوم نوح وكفار عاد وثمود. ولكن على طريقة فرعون، فقال: لو كان موسى رسولا.

 

لألقي إليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة يخدمونه ويشهدون بتصديقه، وكانت المعابد الفرعونية تعج حينئذ بالعديد من الكهان السحرة. الذين يوهمون الناس بأن داخل المعابد ملائكة تعمل في خدمة الفرعون، وعلى هذا شب القوم .. وعندما قال فرعون هذا لقومه وافقوه ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ أي استخف عقولهم وأحلامهم، ودعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له(13) والمقولة الفرعونية التي تطالب بالملائكة لتكون في خدمة الرسول. رفعها من بعده كفار قريش فقالوا: ﴿لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾(14) وكم كان في قريش من فرعون.

 

وبعد أن شقت سياسة التشكيك والتحقير طريقها. وبعد أن توغل فرعون في عقول قومه. بدأ فرعون يلوح بسياسة الإرهاب، وبدأ القوم يعلنون أن الرجم بالحجر سيكون مصير موسى. وعندما علم موسى (عليه السلام) بذلك قال: ﴿.. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ / وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾(15).

 

قال المفسرون: معناه: أني التجأت إلى الله تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، فالظاهر أنه أشار إلى ما أمنه ربه من قبل المجئ إلى القوم كما في قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى / قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾(16) وبعد أن التجأ موسى إلى حصن الله الحصين، قال لهم: إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني. لا لي ولا علي، ولا تتعرضوا إلي بخير أو شر (17).

 

وأمام سياسة التشكيك والتحقير والإرهاب توجه موسى بالدعاء: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾(18).

 

قال المفسرون: دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون، وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء، وهو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك، ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال بعد ذلك: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا﴾ وهو الهلاك(19) وتفصيل دعاء موسى (عليه السلام) جاء في موضع آخر من كتاب الله، عندما أمر الله تعالى موسى وهارون أن يجعلوا بيوت بني إسرائيل في مصر متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي وجهة واحدة، كي يتمكنا من القوم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة.

 

فبعد هذا دعا موسى ربه الدعاء القاصم لفرعون وقومه، يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ / وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ / قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(20).

 

قال المفسرون: وهذه الدعوة كانت من موسى غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجئ منهم شئ، كما دعا نوح (عليه السلام) فقال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا / إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(21) واستجاب الله تعالى لموسى (عليه السلام) فيهم هذه الدعوة(22).

 

وذكر المفسرون أن موسى (عليه السلام) كان يدعو. وكان هارون يؤمن له. فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى (عليه السلام) وحده، وأمرهما الله تعالى بعد أن أجاب دعوتهما أن يستقيما أي أن يثبتا على ما أمرهم الله به وإحياء كلمة الحق ولا يتبعان سبيل الذين لا يعلمون بإجابة ما يقترحونه عليهما عن أهواء أنفسهم ودواعي شهواتهم وفي هذا تلويح إلى أن فرعون وملائه سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية وسيرتهم الجاهلية(23) وتحت مظلة الدعاء وقف موسى وقومه في محراب الإيمان.

 

ووقف فرعون وقومه على طريق الانحراف والشذوذ والصد عن سبيل الله لم يفكروا ما الذي ينتظرهم هناك في نهاية الطريق؟ وهم لم يفكروا لأنهم صادروا العقل وصادروا البصيرة من قديم، والتفوا حول كهنة المعابد ليأخذ القوم نصيبهم من الدخان ويأخذ فرعون نصيبه من الأمتعة التي تحيط به في الدنيا وترتفع به إلى عالم الاستكبار، وعند موته تربط الأمتعة ربطا متينا وتوضع معه في قبره. فلا يستفيد الأحياء منها ولا الأموات.

 

إن عقيدة الشمس تقف بأصحابها عند السراب في نهاية الطريق. ولكن القوم رضوا بها لأن عليها بصمات الآباء، تلك البصمات التي حجبت نفوسهم فلم يتدبروا حقيقة النور الذي جعله الله تعالى في يد موسى (عليه السلام)، وهم لم يتدبروا إلا لأنهم صادروا أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم. صادروها لصالح فرعون وحده. فرعون الذي أوهمتهم عقيدة الشمس بأنه باب الخلود الدائم والنعيم المقيم.

 

لقد وقف فرعون وملأه تحت مظلة الدعاء الذي دعا به موسى، وقف يتباهى بالأنهار والحقول والذهب والجنود، وفي محراب الإيمان جلس موسى (عليه السلام) يبشر المؤمنين، وهو على أرضية اليقين بأن الله تعالى استجاب الدعوة المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإيمان حتى يروا العذاب الأليم.

 

8- يوم الغضب:

بعد أن أوحى الله تعالى لموسى وهارون أن يتخذا لقومهما مساكن من البيوت في مصر، وكانوا قبل ذلك يعيش معظمهم عيشة البدو في أماكن مختلفة.

 

وأمرهم سبحانه أن يجعلوا بيوتهم متقابلة وفي وجهة واحدة ليسهل اتصال بعضهم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع والصلوات.

 

بعد أن أمر سبحانه بذلك، قام موسى وهارون (عليهما السلام) بتنفيذ ما أمر به الله وكان فرعون يظن أن اجتماع القوم على رقعة واحدة من الأرض في صالحه. لأنه يسهل عليه مراقبة المداخل والمخارج ويستطيع الإغارة عليهم في وقت واحد ومن جهة واحدة فيقضي عليهم جميعا، لهذا تركهم فرعون يجتمعون ويشيدون مساكنهم، وبعد أن ظن فرعون أن بني إسرائيل يشيدون لأنفسهم المصيدة التي فيها يهلكون، جاء الوحي الإلهي الذي فيه هلاك فرعون وملئه. يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾(24).

 

قال المفسرون: أمرهم سبحانه بالسير ليلا، وقوله: ﴿إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ تعليل للأمر، أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون، وفيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا(25)، وكان موسى (عليه السلام) يعلم بوحي من الله الاتجاه الذي يسير فيه بقومه والطرق التي يسلكها.

 

وكان لاقتراب البيوت بعضها من بعض فائدة كبيرة، حيث تم تنفيذ الأوامر بدقة وفي وقت قصير، وما إن تحرك ركب بني إسرائيل خارج المنطقة حتى علم فرعون بهذا التحرك.

 

يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ / إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ / وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ / وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾(26).

 

قال المفسرون: لما علم فرعون بذلك أرسل في ﴿الْمَدَائِنِ﴾ التي تحت سلطانه رجالا ﴿حَاشِرِينَ﴾ يحشرون الناس ويجمعون الجموع. قائلين للناس: إن ﴿هَؤُلَاء﴾ بني إسرائيل لشرذمة قليلون ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ﴾ مجموع متفق فيما نعزم عليه ﴿حَاذِرُونَ﴾ نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا وإن كان ضعيفا قليلا.

 

وبعد أن قال فرعون هذا ونقلت أبواق دعايته بلاغه هرولت الجموع الفرعونية ووقفت صفوفا وراء فرعون، وانطلق الجميع وراء موسى وقومه يقول تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾(27).

 

قال المفسرون: لما كان خروجهم عن مكر إلهي. بسبب داعية الاستعلاء والاستكبار التي فيهم، نسب سبحانه إلى نفسه أنه أخرجهم من قصورهم المشيدة وبيوتهم الرفيعة(28) وبدأ جيش الاستكبار يشق الظلام ليدخل في ظلام.

 

وموسى (عليه السلام) ينطلق بقومه في اتجاه البحر. يقول تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ / فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ / قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(29).

 

قال المفسرون: تقدمت جحافل فرعون التي فيها أهل الحل والعقد والأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ولحقوا ببني إسرائيل ﴿مُّشْرِقِينَ﴾ أي داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ﴾ أي دنا بعضهم من بعض.

 

فرأى كل من الجمعين الآخر ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾ من بني إسرائيل خائفين فزعين ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ سيدركنا جنود فرعون.

 

قال موسى كلا لن يدركونا ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ والمراد بهذه المعية، معية الحفظ والنصرة. وهي التي وعدها له ربه أول ما بعثه وأخاه إلى فرعون ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ أما قوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها(30).

 

وانتهى موسى (عليه السلام) بقومه إلى البحر، ومن خلفهم تجري عربات وخيول فرعون يقودها الصفوة في الدولة، وكل واحد فيهم يريد أن يكون له شرف قتل موسى ليزداد قربا من فرعون، وعند مسافة قدرها الله بين الطرفين، جاء وقت المفاصلة. يقول تعالى: ﴿َأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(31).

 

قال المفسرون: أي كل قطعة منفصلة من الماء ﴿كَالطَّوْدِ﴾ وهو القطعة من الجبل العظيم.

 

وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾(32).

 

قال المفسرون: عندما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق كل فرق كالطود العظيم، أرسل الله تعالى الريح على أرض البحر. فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض. وقوله: ﴿لَّا تَخَافُ دَرَكًا﴾ أي من فرعون ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ أي من البحر(33).

 

وحفظ الله تعالى البحر على حاله وهيئته حتى قطعه موسى ومن معه وخرجوا منه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: ﴿وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾(34).

 

قال المفسرون: أي اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون(35). وجاء فرعون وجنوده. وشاهدوا الطريق اليابس. واندفعوا فيه، لم يسجل القرآن أن فرعون تدبر في الأمر، وأيقن كعسكري أن الذي أمامه مانع طبيعي وليس صناعيا ووجود الطريق اليابس في المانع الطبيعي في لحظة يعني أن هناك معجزة، وهذا في حد ذاته يدعوه كرجل عسكري أن يعيد تقدير الموقف على أساس جديد. لم يسجل القرآن ذلك ليسقط فرعون أمام التاريخ كعسكري وكفرعون وكإنسان، وانطلق فرعون بغيا وراء موسى وقومه يقول تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾(36) فعندما دخل آخرهم الطريق اليابس في البحر.

 

انطبق البحر عليهم يقول تعالى: ﴿فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا﴾(37) ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(38) لم ينج أحد لقد غرق الكهنة صناع الآلهة التي من ذهب والتي من طين! وغرق الأمراء الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش أمام كل فرعون. لينالوا بارتعاشهم كل شئ ترجوه من متاع رخيص، وغرق الجنود الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش والصياح، لقد أصبح الجميع فريسة للأمواج وسقط فرعون معهم، والذي كان يتباهى منهم بالتصور أصبح أرخص من أي شئ في الوجود.

 

يقول تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾(39).

 

قال المفسرون: أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد(40).

 

وفي الآية من الاستهزاء بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم(41) وفي موضع آخر يقول تعالى عن فرعون: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾(42).

 

قال المفسرون: النبذ: الطرح للشئ من غير أن يعتد به. والمعنى: فأخذناه وجنوده. وهم ركنه. وطرحناهم في البحر. والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه. وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها. لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، وفي الآية من الإيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ، وهوان أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى(43).

 

لقد غرقوا. ولم يكونوا في حاجة إلى قبر وشاهد يدل عليهم، لقد غرقوا ولم يغن عنهم أوزير الذي نسجه الخيال وقال لهم إنه ينتظر الموتى ليضعهم بين الأبرار، لقد غرقوا وقت شروق الشمس التي طالما سبحوا بحمدها! ودخل الطين في أفواههم القذرة. يقول تعالى في نهايتهم: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾(44).

 

قال المفسرون: بكاء السماء والأرض على شئ فائت، كناية تخيلية عن تأثرهما عن قوته وفقده، فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم، كناية عن هوان أمرهم على الله. وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون(45) وقيل: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها(46).

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- تاريخ الجوع والخوف: المؤلف تحت الطبع.

2- سورة الأعراف / 130.

3- ابن كثير ج2 / ص239.

4- سورة الأعراف / 133.

5- سورة الزخرف / 47-50.

6- سورة الإسراء / 101-102.

7- ابن كثير ج3 / ص67.

8- الميزان ج13 / ص2193.

9- تاريخ الجوع والخوف: للمؤلف تحت الطبع.

10- سورة الزخرف / 51-54.

11- سورة طه / 36.

12- سورة طه / 27-28.

13- الميزان ج18 / ص111، ابن كثير ج4 / ص130.

14- سورة الفرقان / 7.

15- سورة الدخان / 20-21.

16- سورة طه / 45-46.

17- الميزان ج18 / ص139.

18- سورة الدخان / 22.

19- الميزان ج18 / ص140.

20- سورة يونس / 87-89.

21- سورة نوح / 26-27.

22- ابن كثير ج2 / ص429.

23- الميزان ج10 / ص117.

24- سورة الشعراء / 52.

25- الميزان ج15 / ص276.

26- سورة الشعراء / 53-56.

27- سورة الشعراء / 57-58.

28- الميزان ج15 / ص277.

29- سورة الشعراء / 60-62.

30- الميزان ج15 / ص277.

31- سورة الشعراء / 63.

32- سورة طه / 77.

33- ابن كثير ج3 / ص160.

34- سورة الدخان / 24.

35- الميزان ج18 / ص140.

36- سورة طه / 78.

37- سورة الإسراء / 103.

38- سورة الزخرف، / 55.

39- سورة القصص / 40.

40- ابن كثير ج3 / ص390.

41- الميزان ج16 / ص38.

42- سورة الذاريات / 40.

43- الميزان ج18 / ص380.

44- سورة الدخان / 29.

45- الميزان ج18 / ص141.

46- ابن كثير ج4 / ص142.