انحرافات فرعون موسى (ع) -3
5- النبي في مواجهة الانحراف:
روي أن موسى (عليه السلام) بعد أن كلمه الله تعالى في الوادي المقدس، توجه سائرا ومعه أهله ومواشيه إلى مصر ودخلها ليلا. ونزل في دار أهله التي فيها أمه وأخوه وبقية أهله وقد كان أخوه هارون قد استقبله وتلقاه عند شاطئ النيل وعلم بإعلام الله له، وعندما نزل في دار أهله كان لملاقاتهم له واجتماعهم به بعد تلك الغيبة الدهشة والسرور العظيم الباهر خصوصا لأمه الطاهرة. وقد أخبرهم بأمره ومجمل ما حل به، وروي أن موسى عندما ذهب إلى فرعون. أتى بابه فاستأذن عليه. فلم يأذن له. فضرب بعصاه الباب فاصطكت الأبواب منفتحة ثم دخل على فرعون فأخبره أنه رسول رب العالمين وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل.
وكان خطاب موسى لفرعون خطاب رفق ولطف ولين مع كمال الصبر في تبليغه(1).
لقد قام موسى (عليه السلام) بإبلاغ الرسالة إلى فرعون في المقام الأول، وفرعون إذا كان يحكم مصر وحده كما هو ظاهر، إلا أنه له أعوان يمهدون له كل طريق للظلم ويرفعون له كل كراسي الاستكبار، وإذا كان فرعون في مرتبة، وهم في مرتبة أخرى. إلا أن الجميع مجموعة عمل واحدة، وحزمة واحدة على طريق الشذوذ والانحراف. ومجموعة عمل الفرعون تتمثل في هامان الكاهن الأكبر وجنوده من الكهان الذين ينتشرون في معابد آمون والمعابد الأخرى الخاضعة لمذهب الدولة، وهامان كان عبدا مملوكا لفرعون ونظرا لإخلاصه إلى فرعون وشدة ملازمته له أصبح مستشاره ونديمه وشريكه في جميع أموره(2). لذا وضعه على رأس المعابد لأن المعابد كانت المصدر الوحيد للدوخة الدينية التي يعيشها الشعب، ومهمة الدوخة الدينية كانت ربط الناس بفرعون. وكانت المعابد تملك أخصب الأراضي ولها تجارتها وصناعتها وجنودها.
باختصار كانت دولة داخل الدولة وعليها يعتمد فرعون(3) أما الشخصية الثانية في مجموعة العمل الفرعونية فهو قارون، وقارون هو الشخص الذي يقف وراء السلطة بالمال. وهو أيضا أهم عيون فرعون على بني إسرائيل، فقارون كان على علم بالكيمياء التي تتعلق بإنتاج الذهب وعلى علم بالتجارة وسائر المكاسب، وبما أنه من بني إسرائيل، جعله فرعون أميرا على بني إسرائيل(4) فالشخصية الكانزة هي نفسها الشخصية المتسلطة. وهذا وذاك يصب في آمال فرعون ويتجه نحو أهدافه.
لهذا توجه موسى (عليه السلام) برسالته إلى مجموعة العمل التي تعمل من أجل التوثين والصد عن سبيل الله. فالرسالة تخاطب فرعون كممثل للجميع لأنه إذا آمن بموسى وما يدعو إليه. آمن الناس كلهم لأنهم جميعا تبع له، ولقد كان موسى (عليه السلام) شديد الرغبة في إيمان فرعون ليس من أجل فرعون، ولكن لأن إيمانه يعني أنه لن يبقى أحد في مصر إلا آمن بالله العلي العظيم. فالأمم من قبل كانت تجادل رسلها. أما في هذه الحالة، فلا قول إلا قول فرعون.
لهذا توجهت الرسالة في مقدمتها الأولى إلى فرعون. ثم إلى باقي أفراد مجموعة العمل كي يقيم الله تعالى عليهم الحجة ليوم يأتي فيه الناس فرادى يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾(5) ويقول تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ..﴾(6).
إنها مجموعة عمل واحدة جمعت بين السلطة والفتوى والمال، وتوجهت لتطحن الفطرة، وتصد عن سبيل الله رب العالمين، وعندما دخل موسى إلى فرعون وأخبره بأنه رسول رب العالمين وطالبه بأن يرسل معه بني إسرائيل، قال له فرعون: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ / وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾(7).
قال المفسرون: مراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة والمعنى: أنت الذي ربيناك وأنت وليد، ولبثت فينا من عمرك سنين عديدة، نعرفك باسمك ونعتك، ولم ننس شيئا من أحوالك، فمن أين لك هذه الرسالة وأنت من نعرفك ولا نجهل أصلك؟ ثم تطرق إلى قتله (عليه السلام) للقبطي، فقال: ولقد فعلت فعلتك وأفسدت في الأرض بقتل النفس، فكفرت بنعمتي وأنت من عبيدي العبرانيين، فمن أين جاءتك الرسالة؟ وكيف تكون رسولا وأنت هذا الذي نعرفك ونعرف فعلتك(8) فأجاب موسى (عليه السلام): ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ / فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ / وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(9).
قال المفسرون: الآيات الثلاث: جواب موسى (عليه السلام) عما اعترض به فرعون، وبالنظر إلى جوابه (عليه السلام) وما اعترض به فرعون.
نتبين أنه (عليه السلام) حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه:
أحدهما: استغراب رسالته واستبعادها، وهو الذي يعلم حاله وقد أشار إليه بقوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ..﴾.
والثاني: استقباح فعلته ورميه بالإفساد والجرم بقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾.
والثالث: المن عليه. بأنه من عبيده ويستفاد ذلك من قوله: ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ وبدأ (عليه السلام) يجيب، فغير الترتيب في الجواب، فأجاب أولا عن اعتراضه الثاني. وهو القتل لأن فرعون يعلق عليه آمال وينسج من أجله كيد.
ثم أجاب عن الاعتراض الأول ثم عن الثالث. فقوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ جواب عن اعتراضه بقتل القبطي. والمراد: أني فعلتها حينئذ.
والحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه، والحق الذي يجب أن يتبع هناك، فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني. ولم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل. ويؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة، تحوجني إلى خروجي من مصر وفراري إلى مدين والتغرب عن الوطن سنين.
ثم بين (عليه السلام) أن فراره من مصر كان لخوفه منهم، حيث أصبح الملأ لا شاغل لهم إلا الفتك به، كما أخبر الله في سورة القصص: ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ..﴾.
ثم أجاب (عليه السلام) عن اعتراض فرعون الأول، وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه فقال: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فبين أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله، إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا، يمكن أن يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، وليس الأمر كذلك، بل هي أمر وهبي، لا تأثير للأسباب العادية فيها، وقد جعله الله من المرسلين، كما وهب له الحكم بغير اكتساب.
أما اعتراض فرعون الثالث. حيث قام فيه بتقريع موسى على اعتباره من عبيده فكان جوابه: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي أن هذا الذي تعده نعمة، وتقرعني بكفرانها، سلطة ظلم وتغلب، إذ عبدت بني إسرائيل، والتعبيد ظلما وتغلبا، ليس من النعمة في شئ(10).
1- الحجج الدامغة:
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(11).
قال المفسرون: لما كلم فرعون موسى (عليه السلام) في معنى رسالته قادحا فيها، فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه، أخذ يكلمه في خصوص مرسله فاستوضحه: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟
فجاءته الإجابة: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾(12) وكانت هذه صفعة للعقيدة المصرية القديمة. فالقوم كانوا يعتبرون (أوزير) إلها للموتى وأيضا للخصب، و(رع) إلها في السماء! وكل مذهب وكل فرقة قامت بتقسيم آلهتها في السماء والأرض وما بينهما.
لهذا كانت إجابة موسى، كفأس إبراهيم (عليه السلام) التي أطاحت برقاب الأوثان في معامل الانحراف، لقد سأل فرعون عن رب العالمين، فوضع موسى ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ مكان العالمين ثم قال: ﴿إن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ أي أن رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات والأرض وما بينهما. إذا نظروا إليها وشاهدوا وحدة التدبير الذي فيها.
وأمام هذه الصفعة التي أطاحت بعقائد الفراعنة التي سهروا من أجلها قرونا طويلة نظر فرعون إلى من حوله ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾(13)؟
قال المفسرون: أي ألا تصغون إلى ما يقوله موسى؟ والاستفهام للتعجب، يريد أن يصغوا إليه فيتعجبوا من قوله .. وعندما لفت فرعون أنظار مجموعة عمله إلى ما يقوله موسى، جاءه الجواب مرة ثانية من موسى: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾(14) والفراعنة على امتداد تاريخهم لم يتفقوا على معبود واحد. فطبقة منهم عبدت قديما الإله (حور) في بداية الأسرات، ثم انعقدت العبادة للإله (رع) منذ أواسط الدولة القديمة، ثم انتقلت الرئاسة للإله (آمون) في الدولة الوسطى. ثم (آمون رع) في بداية الدولة الحديثة التي كان من أهم رموزها فرعون موسى(15) لهذا جاء جواب موسى (عليه السلام)، جوابا ناسفا للبداية والنهاية معا.
لقد أجاب أنه ليس في الوجود إلا رب واحد للإنسانية وهو رب العالمين الذي أرسلني إليكم، وأمام حجج التحطيم التي يقذف بها موسى (عليه السلام) بدأ فرعون يحرك أنيابه ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾(16).
قال المفسرون: سمى فرعون موسى رسولا تهكما واستهزاء، وأضافه إلى من حوله، ترفعا من أن يكون رسولا إليه، وقد رماه بالجنون مستندا إلى قوله (عليه السلام): ﴿رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ﴾.
وعندما اتهم فرعون موسى (عليه السلام) بالجنون، قذف موسى إليه بحجة قاصمة، أطاحت بعقيدة (أوزير) رب الموتى وبعقيدة (رع) أما عقيدة رب الموتى فكان المصريون القدماء يقيمون معظم أبواب مقابرهم في اتجاه الغرب ظنا منهم أن هذا الاتجاه منه يدخل الإله ويمنح الخلود للميت! وأما عقيدة (رع) فكانوا يعتقدون بأن (رع) هو رب الأرباب ويعني قرص الشمس، فالشمس عندما تشرق في الصباح تخرج من عند الإله (خبر) وعند الظهيرة تكتمل باسم الإله (رع) وعند النهاية تذهب باسم الإله (آتوم)! باختصار كان للشمس وشروقها وغروبها فقه طويل كل اتجاه فيه له إله، وهذا الإله له صنم على الأرض تحل الروح فيه ويتقرب إليه الناس ويدعي الفراعنة أنهم أبناؤه، فقام موسى (عليه السلام) بنسف هذه الإعتقادات من أصولها، فقال لفرعون وهو يحدثه عن رب العالمين: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾(17).
وقوله: ﴿ِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فيه تعريض لفرعون. مقابل استهزائه له عندما قال لمن حوله: ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ ثم عندما رماه بالجنون، فقوله ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إشارة إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل والتفقه.
إن ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ تقرير لما جاء في الجواب الأول ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وأنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير. وفي ذلك تعريف لرب العالمين. بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين.
وعندما أفحم موسى (عليه السلام) فرعون، لم يجد الطاغية إلا أسلوب السلطة والقهر ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾(18).
قال المفسرون: والمعنى: لو دمت على ما تقول لأجعلنك في زمرة الذين في سجني. على ما تعلم من سوء حالهم وشدة عذابهم.
ونسف عقيدة القوم وردت أيضا في سورة طه. فلقد سأل فرعون عن القرون الأولى. حيث آباؤه الأولين فكان جواب موسى (عليه السلام) ناسفا لجملة عقائدهم ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى / قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى / قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى / قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى / الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى / كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى / مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(19).
لقد كان فرعون يعيش في وهم أن دماء الآلهة تجري في عروقه، وبما أنه ابن للإله! فهو يباشر جميع سلطات هذا الإله! بمعنى أنه الصورة الظاهرة للإله الخفي الذي يعبده حزبه! ومن المعروف أن إله الفرعون الحاكم تكون له الهيمنة على جميع آلهة مصر، وعلى هذا فهو عندما يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ يسري حكمه على أتباع مذهبه، وعلى أتباع بقية المذاهب لانعقاد الهيمنة لممثل الإله الذي يحكم، وتحت رداء الحاكم كان يوجد أرباب أخرى متعددة في الأقاليم، فهذا رب للفيضان وهذا رب للحكمة وآخر للخضرة والنماء، وكل هذه الأرباب يقرها فرعون لأن ما يقدم إليها من قرابين ونذور يعود عليه بالنفع قبل غيره.
وعندما أخبره موسى وهارون بأنهما رسولا رب العالمين. قال: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا﴾ ظنا منه أنهما يعبدان ربا من أرباب القوم أو ربا من أرباب الممالك المجاورة. فإذا كانا يعبدان ربا من أرباب مصر، فلفرعون الهيمنة على جميع الأرباب فيها. والشعب يعلم بأن طريقته هي الطريقة المثلى ولن يترك لموسى أدنى فرصة لأن يذره وآلهته. وإذا كانا يعبدان ربا من أرباب الممالك المجاورة كان القتل أو السجن أو الطرد من نصيبهما، ولكن إجابة موسى (عليه السلام) جاءت على غير ما يتوقع فرعون ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ لقد سأل: من ربكما؟
فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين، ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا، ولكن الإجابة جاءت بما هو أبلغ من ذاك فقيل: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ أي بأنه رب كل شئ، لا رب غيره، فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها، يستلزم ملكه لوجودها وملك تدبير أمرها، وعندما سأله فرعون عن القرون الأولى أجاب بأنها معلومة لله محفوظة عنده في كتاب. لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال، ثم بدأ (عليه السلام) في نسف أرباب النماء والفيضان والنيل وغير ذلك فقال: إن ربه هو الذي ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾ أي أن الله تعالى أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية في الآخرة. وجعل للإنسان فيها سبلا، ليتنبه بذلك، أن بينه وبين غايته، وهي التقرب لله سبحانه سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية، وأنزل من السماء ماء وهو ماء الأمطار ومنه مياه عيون الأرض وأنهارها وبحارها، فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصناما متقاربة من نبات يهديكم إلى مالكها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى.
ثم تطرق إلى قضية رئيسية أخرى. ألا وهي قضية البعث فقال إن ربه هو الذي بدأ خلق الإنسان من الأرض ثم يعيده فيها، ثم يخرجه منها للرجوع إليه.
2- الاستكبار والمعجزة:
استمع فرعون، لكنه تمادى في دفعه وصده، ورأى عظيما عليه أن يلبي دعوة موسى ويتبع دينه. ويخلع عبادة الأوثان والربوبية عن نفسه. استمع الطاغوت الأكبر، لكنه لم يتدبر وقام بتحريك مخالبه وأنيابه، بعد أن هدم له موسى قوائم الظلم التي بدأت قديما من القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد هدم له قوائم خور وحتحور وبتاح وأوزير ورع وآمون وعجل أبيس، تلك القوائم التي انطلق بها الكهنة ووضعوها حول الرؤوس ليعيش الشعب في دوخة دينية فتركوا الحياة كلها لفرعون وتفرغوا للنهل من ثقافة القبور. أكلمه في حياة عادلة بعد الموت، ولكن هيهات هيهات. فأي عدل هذا الذي يقف فرعون على بابه، لقد استمع فرعون، فتحركت مخالبه من أجل الدفاع عن دماء الآلهة التي تجري في عروق البشر الذين يحكمون الناس، ومن أجل الدفاع عن تراث عميق ودفين دونه الآباء. ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾(20) هكذا لوح فرعون بالقضبان، ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ / حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ / قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(21).
قال المفسرون: أي أنا حري بأن أقول الحق ولا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل، ثم أخبره أن معه بينة من ربه وحجة قاطعة على صدق ما جاءهم به وأمره أن يطلق بني إسرائيل من أسره وقهره وأن يدعهم ليعبدوا الله ربه وربهم، فقال له فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمعطيك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقا فيما ادعيت(22).
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ / وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾(23).
لقد جاء إليهم بجنس ما عندهم وبجنس ما يحبون. فالقوم كانوا عباقرة في السحر. وروي أن فرعون وهامان هما من أمهر السحرة سحرا، وتغلبا على الناس بالسحر(24)، وكشفت البرديات أن مجلس التاسوع ومن بعده مجلس الثلاثين كان يزاول السحر على أوسع نطاق وكانوا يقتحمون عقول القوم بالأساطير المدعمة بالأمور السحرية لتصبح فيما بعد عقائد يدافع الناس عنها(25) فالعصا معجزة تخضع لها أعناق السحرة، أما اليد البيضاء، فإن القوم كانوا يعتبرون الشمس (رع) رب الأرباب ورب العالمين، وكان لشروقها وغروبها فقه طويل عريض، فجاءت معجزة اليد البيضاء، وقال صاحب الميزان: والأخبار التي وردت فيها أن يده (عليه السلام) كانت تضئ كالشمس الطالعة.
والآيات الكريمة لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين، إلا أن كونها آية معجزة، تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة(26) لقد كانت معجزة اليد البيضاء التي تضئ كالشمس الطالعة آية لغير السحرة وللسحرة في نفس الوقت، آية تضرب عقيدة عبادة الشمس التي تفنن قدماء المصريين في التقرب إليها، فالشمس هي محور الارتكاز (رع) الإله الأكبر الذي نسب الفرعون خفرع نفسه إليه. بعد أن جسدوا لها صنما على الأرض وقالوا إن روح (رع) قد حلت به. والقوم لهم في كل حركة للشمس ربا وهذا الرب له صنم على الأرض. فالشمس تخرج في الصباح باسم الإله (خبر) وتشتد باسم الإله (رع) وتبلغ النهاية باسم الإله (آتوم) وهناك فرق وشيع أطلقوا أسماء أخرى على هذه الحركة، وكل فرعون يأتي من طائفة يدعي أنه ابن للإله الذي تلتف حوله هذه الطائفة ويحكم ويبني المعابد باسمه! وعندما جاء إليهم موسى (عليه السلام) فتح يده أمامهم ليروا ضوءا كثيرا فأشغلهم مثله.
فماذا قال فقهاء الشمس وعباقرة السحر عندما شاهدوا الإعجاز؟ لقد ملأهم الرعب عندما شاهدوا آية العصا، وأخذتهم الدهشة عندما شاهدوا آية اليد البيضاء، لكنهم هدأوا بعد ذلك، ونسبوا ما شاهدوه إلى السحر! يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾(27) كان هذا قرار مجموعة العمل، ثم قام فرعون بإسناد تهمة جديدة إلى موسى لتكون ورقة في يده لتحريك الجماهير ضد موسى ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾(28).
قال المفسرون: اتهم موسى أولا: بالسحر، لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة وحقية دعوته.
وثانيا: بأنه يريد إخراج المصريين من أرض مصر! وهي تهمة سياسية، يريد بها صرف الناس عنه، وإثارة أفكارهم عليه .. بأنه عدوهم يريد أن يطردهم من بيئتهم ووطنهم بمكيدته! ولا حياة لمن لا بيئة له (29).
وما أن ألقى فرعون ببيان اتهام موسى بالسحر وبأنه يريد إخراج المصريين من مصر .. حتى التقط أشراف القوم البيان ورددوه كما أذيع ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ / يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾(30) وبعد أن قال الملأ الذين حول فرعون ما قاله فرعون حرفيا، قال لهم موسى: ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ / قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾(31).
قال المفسرون: المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان واليد البيضاء. ولقد أنكر موسى (عليه السلام) مقالتهم لرميهم الحق بأنه سحر، وقال فرعون وملؤه لموسى: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ وتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا) يريدون سنة قدمائهم وطريقتهم ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ﴾ يعنون الرئاسة والحكومة وانبساط القدرة ونفوذ الإرادة(32) إن زادهم في إناء الآباء، وحرفتهم هي الحكم. يدافعون عن الحكم بطرح أوراق التراث التي في إناء الآباء، وهم يطرحون أوراق التراث من أجل إلهاب مشاعر الجماهير ليدافعوا عن الحكم! فيحافظون بذلك على مصالحهم ويحافظون بذلك على الانحراف والشذوذ، والخاسر الوحيد في هذه القضية هم الجماهير الذين كفنوا الحاضر ليضعوه في توابيت المستقبل! والحياة من حولهم تناديهم أن رب العالمين هو خالق الكون، لكنهم لم يسمعوا نداء الحياة لأنهم لا يرون معالمها، فهم ينظرون بعيون فرعون ويفكرون بعقله .. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ / وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(33).
قال المفسرون: عندما شاهدوا المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة على صدق موسى وهارون، وأيقنوا أنها من عند الله، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة. وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ أي مفتعل مصنوع(34) وأن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين إنهم اتخذوه في وقت من الأوقات(35) هكذا ردوا كل شئ إلى إناء الآباء، على الرغم من مشاهدتهم للدلالة القاطعة التي تدعوهم إلى الحياة الكريمة الشريفة، وعندما قالوا: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ كان جواب موسى مبنيا على التحدي ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾.
قال المفسرون: كأنه يقول: إن ربي -وهو رب العالمين له الخلق والأمر- هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار. وهو الذي أرسلني رسولا بديني التوحيد ووعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ وفي هذا تعريض لفرعون وقومه، وفيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار، فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني(36).
والخلاصة: عرض موسى (عليه السلام) معجزاته، ولكن مجموعة العمل رفضت الهدى، ووفقا لهذا رفض القوم ما رآه فرعون غير صالح لهم، واتبعوا أمر الطاغية، وما أمر فرعون برشيد، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ (37) لقد تكاتفوا حول عقيدة الشمس التي دونها آباء الضلال، في الوقت الذي كان فيه نور أبيض يسطع في يد موسى يدعوهم إلى الهدى، لكنهم تعاموا عنه. لأن مصلحة فرعون ليست في هذا النور.
3- القرار الفرعوني:
بعد أن شاهد فرعون المعجزات. واتهم موسى (عليه السلام) بالسحر وبأنه يعمل من أجل إخراج أهل مصر من مصر! إغراء لمن حوله وحثا لهم على أن يتفقوا معه على دفع موسى بأي وسيلة ممكنة. ولما اتفقوا معه وتبنوا أطروحته.
قال: إذا كان الشأن هذا فماذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به؟ ﴿قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ / يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾(38).
قال المفسرون: أي أخر موسى وأخاه وأمهلهما، ولا تعجل إليهما بسياسة أو سجن ونحوه، حتى تعارض سحرهما بسحر مثله، وابعث في البلاد عدة من شرطتك وجنودك يحشرون كل سحار عليم فيها ويأتوك بهم والتعبير بـ ﴿كُلِّ سَحَّارٍ﴾ إشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر وأكثر عملا.
واعتمد فرعون الخطة، وقالوا لموسى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى / قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾(39).
قال المفسرون: جعل موسى (عليه السلام) الموعد يوم الزينة. وكان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد. ويظهر من اللفظة أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الأسواق.
واشترط موسى أن يحشر الناس ضحى أي وقت انبساط الشمس من النهار، ليكون ما يأتي به ويأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة، وبدأت الأبواق الفرعونية تجوب البلاد لجمع السحرة كي تتم المنازلة الكبرى، وبدأت الجماهير تستعد لمشاهدة معركة من معارك فرعون! ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ / لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾(40).
قال المفسرون: اجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم. وقال قائلهم: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم(41).
وجاء السحرة وطلبوا الأجر من فرعون إن كانوا هم الغالبين، فجعل لهم الأجر وزاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين، وقبل المنازلة توجه موسى (عليه السلام) إلى السحرة وقال: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾(42).
قال المفسرون: قال لهم موسى: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم. إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله. فيهلككم بعقوبة، هلاكا لا بقية له(43).
وبعد أن قال لهم موسى ذلك يقول تعالى: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾(44) ومعناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نجي، وقائل يقول: بل هو ساحر(45) وانتهى أمرهم بأن قالوا: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى / فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾(46) أي: قال السحرة فيما بينهم. تعلمون أن هذا الرجل وأخاه ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس، وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده، فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم(47) ثم أضافوا إلى ذلك أمرا آخر أشد من الخروج من الديار وهو ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية، التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل! وقد اشتد بها عظمهم وثبت عليها لحمهم.
والعامة تقدس السنن القومية، وعلى الأخص ما اعتادت عليه وظنت بأنها سنن ظاهرة سماوية(48) فقالوا: إذا غلب هذان. أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بالرئاسة كان في ذلك الفناء بالمرة لأنهما سيذهبان بسنة قومية تعتمد عليها ملتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم. فلو اختلفوا وتركوا مقابلة موسى، واستعلى هو عليهم كان في ذلك الفناء المحقق، ثم كان الرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم، ثم يتركوا الاختلاف، ويأتوا صفا حتى يستعلوا ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾(49) أي منا ومنه. فالفائز اليوم هو الفالح.
4- التخيل والسحر:
اتفق السحرة على أن يتحدوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم ومدينتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته ووقفت الرعايا على يمينه ويسراه(50) وقال السحرة: ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى / قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى / فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى / قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾(51).
قال المفسرون: خيروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا، فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به، وهو معتمد على ربه واثق بوعده، من غير قلق واضطراب وقد قال ربه فيما قال: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾(52) وقال: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾(53).
وعندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ﴿قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾(54). فإذا بحبالهم وعصيهم يخيل للناس أنها تسعى.
فخاف موسى (عليه السلام) على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه(55) وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه. وقيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه، ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون، وقيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به.
لأنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو ما يقرب منه. وإن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له، وما أتى به آية معجزة ذات حقيقة. وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: ﴿قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾(56).
وعندما ألقوا حبالهم وعصيهم خيل لموسى من سحرهم أنها تسعى، فلقد اختص سبحانه موسى من بين الناس بأنه ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾(57) أما بقية الناس فلقد ذكرهم الله تعالى في موضع آخر فقال: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾(58) واسترهبوهم أي أخافوهم. وبما أن خوف الناس ليس كخوف موسى. لأن موسى واثق من نصر الله. وهو ما خاف إلا على الناس، لأنه كان يطمع أن يؤمنوا، فإذا تفرقوا قبل أن يلقي بعصاه خسروا.
فكذلك هناك فرق بين موسى والناس في عملية سحروا أعين الناس، هناك فرق بين ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ وهذا خاص بموسى. وبين ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ وهذا خاص بالناس يوم الزينة خارج منهم موسى. والناس عندما اجتمعوا يوم الزينة كان عندهم الاستعداد التام للإيمان بالسحرة. قالوا: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾(59) وهذا الاستعداد له دخل كبير في عملية تلقي الحدث. أما موسى (عليه السلام) فكان له موقف آخر عندما ألقوا حبالهم وعصيهم ﴿فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(60).
قال المفسرون: والحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاؤوا به سحر، والسحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس وأنظارهم، وإذا كان باطلا في نفسه! فإن الله سيبطله، لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق وإحقاقه في التكوين، وإزهاق الباطل وإبطاله، فالدولة للحق وإن كان للباطل جولة أحيانا ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ وقد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد وهذه الحقيقة تستلزم أن السحر وكل باطل غيره لا يدوم في الوجود، إن موسى عند إلقاء السحرة حبالهم، كان على يقين من أن الباطل إلى زوال لكنه كان يريد للناس أن يكونوا تحت مظلة الحق لا تحت مظلة الباطل، وخيفة موسى لم تكن كخوف الناس، وتخيل موسى، لم يكن كسحر عيون الناس، ولعل في هذا كفاية لمن قالوا إن الذي جرى على الناس جرى على موسى (عليه السلام).
المصدر:
الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.
1- كتاب الأنباء ص285.
2- كتاب الأنباء ص286.
3- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف / تحت الطبع.
4- كتاب الأنباء 347.
5- سورة غافر / 23-24.
6- سورة العنكبوت / 39.
7- سورة الشعراء / 18-19.
8- الميزان ج15 / ص261.
9- سورة الشعراء / 20-22.
10- الميزان ج15 / ص261.
11- سورة الشعراء / 23.
12- سورة الشعراء / 24.
13- سورة الشعراء / 25.
14- سورة الشعراء / 26.
15- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف.
16- سورة الشعراء / 27.
17- سورة الشعراء / 28.
18- سورة الشعراء / 29.
19- سورة طه / 49-55.
20- سورة الشعراء / 29.
21- سورة الأعراف / 104-106.
22- ابن كثير ج2 / ص236.
23- سورة الأعراف / 107-108.
24- كتاب الأنباء ص286.
25- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع.
26- الميزان ج8 / ص213.
27- سورة غافر / 23-24.
28- سورة طه / 57.
29- الميزان ج14 / ص172.
30- سورة الشعراء / 34-35.
31- سورة يونس / 77-78.
32- الميزان ج10 / ص109، ابن كثير ج2 / ص426.
33- سورة القصص / 36-37.
34- ابن كثير ج3 / ص389.
35- الميزان ج16 / ص37.
36- الميزان ج16 / ص36.
37- سورة طه / 79.
38- سورة الشعراء / 36-37.
39- سورة طه / 58-59.
40- سورة الشعراء / 39-40.
41- ابن كتير ج3 / ص334.
42- سورة طه / 61.
43- ابن كثير ج3 / ص157.
44- سورة طه / 62.
45- ابن كثير ج3 / ص157.
46- سورة طه / 63-64.
47- ابن كثير ج3 / ص156.
48- الميزان ج14 / ص176.
49- الميزان ج14 / ص176.
50- ابن كثير ج3 / ص157.
51- سورة طه / 65-68.
52- سورة طه / 46.
53- سورة القصص / 35.
54- سورة الشعراء / 44.
55- ابن كثير ج3 / ص158.
56- سورة الأعراف / 116.
57- سورة طه / 66.
58- سورة الأعراف / 116.
59- سورة الشعراء / 40.
60- سورة يونس / 81.