النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -11
2- حصار النجس:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾(1) وكل مستقذر نجس يقال.
رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس. وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس -بكسر النون- ومعسكر الصد عن سبيل الله لا يسبح إلا في بحيرات من الرجس والنجس ولذا حذر القرآن الكريم من الاقتراب منه في مواضع عديدة. لأن الاقتراب فيه هلاك. لأنه الخيام في بحيرات الرجس والدنس يعلوها بريق الزينة. ومن دخلها لن يخرج منها إلا إلى عالم الغثاء والعالة. ويصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بطريقة أصحاب الخيمة التي يسيرون بها في الحياة. ولهذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(2).
قال المفسرون: ونهى عن مودتهم حتى لا يتجاذب الأرواح والنفوس. فإن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية البنية على سعادة أتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية. والولاية في الآية هي، ولاية المحبة. وقوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ وذلك لتقارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم واجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق. واتحادهم على إطفاء نور الله. وتناصرهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق. ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين. أن الإسلام يدعوهم إلى الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى. والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض .. ويرتد بعضه إلى بعض. يتولى اليهود النصارى وبالعكس.
ويتولى بعض اليهود بعضا. وبعض النصارى بعضا. فالمعنى: لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم. لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.! ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم ومنهم. غير سالك سبيل الإيمان وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم والله لا يهدي القوم الظالمين(3).
ونداءات القرآن باجتناب معسكرات الكفر عديدة. ومنها قول الله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾(4).
قال المفسرون. أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا. توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلوهم على عوراتهم. فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شئ. أي ليس من حزب الله في شئ. إلا أن تتقوا منهم تقاة. أو تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم. وترفض قلوبكم ما هم فيه وعليه. ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم (5) وكما حذر القرآن من التعامل مع معسكر الكفر.
حذر أيضا من التعامل مع معسكر النفاق الذي حمل على عاتقه عرقلة دعوة الفطرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أخرج ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس قال: هم المنافقون(6).
وقال المفسرون: أي لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم. وجعل سبحانه البطانة مثلا لخليل الرجل. والبطانة هي ما يلي البدن الثوب. والله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا من الكفار أخلاء وأصفياء لما هم عليه من الغش والخيانة(7) ولما هم عليه من الاستكبار باتخاذهم الدين هزوا ولعبا. قضاء منهم بأن الدين ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شئ. إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(8).
لقد حاصر الإسلام دائرة النجس والرجس. التي حمل أصحابها معاول الهدم التي تحمل شعارات قابيل وجبابرة قوم نوح وعاد وثمود. وانطلقوا ليحاصروا الفطرة بثقافة أهل المؤتفكة وأصحاب الأيكة وزخارف فرعون. لقد حاصر الإسلام تلك الدائرة الواسعة التي تحتوي على دوائر الماضي وفي محاصرته لها تحذير لأتباع الرسالة الخاتمة. حتى لا يكون للناس على الله حجة.
3- إتمام الحجة:
لم يكتف كتاب الله بحصار معسكر الكفر كله وتحذير المؤمنين منه. وإنما قضى الله أن العلم النافع يناله المؤمنون فقط. لذا أعلنت الشريعة الخاتمة أن المعارف الحقيقية تكون في متناول البشر عندما يصلح أخلاقه. وأن السعادة الحقيقية يصل الإنسان إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت. أما غير ذلك من معارف وزخرف فلا تصل بالإنسان إلى طريق الهلاك وما عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون من الإنسانية بعيد. ولما كان معسكر النفاق داخل البيت الإسلامي لا بد له من معارف ينطلق بها إلى عالم الفتنة. وإن معارفه سيستند فيها على كتاب الله بتأويل آياته بحيث ينتسخ دين الله وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾(9).
قال المفسرون الزيغ هو الميل عن الاستقامة. والآية تكشف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه. وأن منهم من هو زائغ القلب يتبع المتشابه إبتغاء الفتنة والتأويل. ومنهم من هو راسخ العلم مستقر التلب يأخذ المحكم ويؤمن بالمتشابه.
والمراد بابتغاء الفتنة في الآية طلب إضلال الناس ومعنى الآية: يريدون بإتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله. وأمر آخر هو أعظم من ذلك. وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن. ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينسخ بذلك دين الله من أصله"(10) لما كان معسكر النفاق سيفرز الذين يتاجرون بالمتشابه. وفيهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"(11) فإن كتاب الله عزل هذا الصنف عن معارفه وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ / فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ / لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾(12) فمس الكتاب لا يقف عند الطهارة من الخبث أو الحدث عند مسك الكتاب باليد. بل ينطلق نحو تعريف أوسع. فإذا كانت الأيدي التي تمسه يجب أن تكون طاهرة فكذلك يجب أن تكون العقول التي تمسه طاهرة. ولأن عقول المنافقين ليس عليها مسحة من طهارة.
فإن الله قضى أن لا يصيبهم علم نافع. ليتخبطوا في عالم المتشابه الذي يقودهم إلى الهلاك ومن ورائهم الذين مضغوا علومهم. وفي قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾.
قال المفسرون: مسه هو العلم به. والمطهرون هم الذين طهر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي وقاذورات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك وأدق وهو تطهير قلوبهم من التعلق بغير الله. وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث(13).
إن داخل البيت الإسلامي فريقان:
فريق دسه معسكر الانحراف والأهواء وفريق أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكتاب الله يقرأه هذا وذاك.
ومس الكتاب عند فريق يقود إلى تأويل الكتاب بحيث لا يكون الإسلام إلا اسما ولا يكون القرآن إلا رسما. بينما يكون عند فريقا آخر مرشدا للبشرية ليس بها نحو أهداف الله.
ولأن الرسالة الخاتمة لها أهداف. فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرن كتاب الله بالعترة الطاهرة وأعلن أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. أما فريق اللاهدف واللاغاية فلقد أخبر النبي بأنهم عند الحوض سيقال لهم سحقا سحقا كما بينا من قبل. ولأن تأويل القرآن ووضعه في غير مواضعه وكذا إدعاء إنسان ما أنه أحق بالتأويل من الذين نص عليهم رسول الله بعد أمرا خطيرا تترتب عليه أمور خطيرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أكثر ما أتخوف على أمتي بعدي رجل يتأول القرآن. فيضعه على غير مواضعه. ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره"(14) لقد حاصر كتاب الله دوائر الرجس والنجس. وحذر من الاقتراب من هذه الدوائر. وأمر كتاب الله بالجماعة. ولا جماعة إلا بإمام مشهود له بالعلم من رسول الله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يقوم بدين الله. إلا من حاطه من جميع جوانبه"(15) وكما أن هناك جماعة يقودها إمامها إلى الجنة ففي البيت الإسلامي أيضا جماعات يقودها أئمتها إلى النار فعن حذيفة قال: سألت رسول الله (ص): هل بعد ذلك الخير من شعر؟ فقال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: صفهم لنا؟ قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها. ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"(16) في هذا الحديث كشف الستار عن أجهزة الصد والفتنة الذين يدعون إلى النار مستخدمين في ذلك رموز الإسلام.
وأمر عليه الصلاة والسلام بالالتزام بالجماعة والإمام ولا إمام إلا بكتاب الله. ولم ينكر على حذيفة قوله: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام" بل قدم الدواء لهذا الداء لعلمه أن هذا واقع لا محالة. فأمر باعتزال الفرق كلها. وأمر بالعض على أصل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء حتى يأتي الموت فيجده على ذلك. لقد قامت الحجة على الماضي والحاضر والمستقبل. ولا إجبار في دين الله في جميع الأحوال.
4- يوم الخميس والرحيل:
على امتداد الرسالة كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث إلى القافلة البشرية. كما تحدث الأنبياء من قبل. فنادى بالعدل مبينا أن الإنسانية لم توجد ليأكل القوي فيها الضعيف. وإنما ليعيش هذا وذاك بإحساس أن كل منهما في حاجة إلى الآخر وأن فوق الجميع قوة الله القادر على كل شئ. وبهذه القوة يرزقون وبها يموتون ويبعثون يوم القيامة. وأنذر الجبابرة مبينا أن فناء الباطل بالحق. وأن الذي يخرج عن معيار التوازن قويا كان أو ضعيفا فإنه يطارد في الكون أمام الأمواج كقوم نوح أو أمام الرياح كقوم عاد أو تحت الصيحة كثمود أو تحت الظلة كأصحاب الأيكة إلى غير ذلك من عذاب الله الغير مردود. وعندما أتم الله رسالته أتى الإنسانية. بآخر أنبيائه (صلى الله عليه وآله وسلم). وعندما سدت جميع المنافذ التي يدخل منها الشيطان وأتباعه ليكون في هذا حجة على من يفتح نافذة للشيطان. تحت جلده أو داخل أسرته أو في مجتمعه الذي يعيش فيه.
جاء وقت رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولقد روي أن دموعه كانت تجري كثيرا في آخر أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم). وذلك لأنه كان يعلم من ربه الأحداث التي ستعصف بالأمة وتنتهي بالظالمين إلى عقاب الله المؤجل. كان يعلم أمورا روي أنه لم يرى بعدها ضاحكا حتى مات. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام حريصا رغم إتمام الحجة أن يحذر مما سيقع ليكون كل تحذير يضاف حجة فوق الحجة... لتعلم الإنسانية بعد ذلك أن الطريق يعج بالفتن وهذه الفتن لم تأت من نفسها. فيحذر كل عضو فيها أن يكون من صناعها وحتى لا يصيبه العذاب. والله لا يظلم الناس والعذاب الذي يراه الناس ما هو إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم.
لقد كان النبي في أيامه الأخيرة يدفع العذاب بغرس التوحيد في النفوس والدعوة إلى الإعتصام بكتاب الله وسنته التي يبلغها عنه من لا يكذب عليه. والروايات عن أيامه الأخيرة (صلى الله عليه وآله وسلم) عديدة. منها روايات تتحدث عن بعث أسامة. حيث وضع النبي كل كبار الصحابة عدا عليا تحت قيادة أسامة بن زيد. وأمرهم بالخروج ولكن بعض الصحابة استصغروا أسامة في قيادة هذه الحملة العسكرية وطعنوا فيه. فقال لهم النبي: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل"(17) قال في فتح الباري(18). كان الطاعن فيه من ينتسب إلى النفاق، وبعد أن قال رسول الله ذلك رفض ما ذهبوا إليه وطالبهم بالخروج.
ومات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن تخرج حملة أسامة. ولم تخرج هذه الحملة إلا في عهد أبي بكر. وروايات الطعن في أسامة واستصغاره رغم تعيين الرسول له. روايات كثيرة ترى في كتب التراجم والسير والحديث.
ومن روايات الأيام الأخيرة ما رواه الإمام أحمد عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتابا لا يضلون بعده. فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها (19) وجاء في صحيح، البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر النبي _صلى الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال: هلم أكتب إليكم كتابا لن تضلوا بعده. قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع. وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت. واختصموا فمنهم من يقول. قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده. ومنهم من يقول ما قاله عمر. فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا عني"(20) وروى الإمام مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟
ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إئتوني بالكتف والدواة -أو اللوح والدواة- أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر(21) وعند البخاري: (فقال إئتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدأ. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر"(22) وزاد البخاري وأحمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)(23).
وفي لسان العرب: يهجر هجرا. إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي. وهجر يهجر هجرا. بالفتح. إذا خلط في كلامه وإذا هذى (24) وقال ابن الأثير في النهاية: الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول (25). وأقر ابن الأثير كما في لسان العرب وفي النهاية بأن القائل هو عمر بن الخطاب. معتذرا بأن أقل ما يقبل في هذا المقام أن يكون قد قال: (أهجر) على سبيل الاستفهام.
ومما رواه الطبراني في هذا الحدث عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتابا لا تضلوا بعده أبدا. فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟
فقلت: إنكن صواحبات يوسف. إذا مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عصرتن أعينكن. وإذا صح ركبتن عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهن فإنهن خير منكم"(26) وخلاصة أحاديث الصحيفة. إن ردود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من حوله. لم تكن تحمل جانب من جوانب الرضا. فعندما قالوا حسبنا كتاب الله. وأكثروا اللغط والاختلاف قال. "قوموا عني" إن الرسول لا يقف على أرضية من اللغط والاختلاف. الرسول جاء ليتكلم وليستمع الناس. والرسول عندما يتكلم لا ينطق عن الهوى لهذا فرض الله تعالى على الناس طاعة النبي في جميع الأحوال. وعندما قالوا: هجر. أو. أهجر.
قال: "دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه" وأيضا ما قاله عن النسوة عندما قالوا: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟ قال: دعوهن فإنهن خير منكم. فجميع هذه الردود لا تحمل معنى من معاني الرضا على سير الأحداث ويؤيد هذا بكاء ابن عباس. يوم الخميس وما يوم الخميس؟ وذهب أكثر من باحث إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصر على كتابة الصحيفة التي لا يضلوا بعدها أبدا. لأن قولهم: "هجر" أو "أهجر " يمكن أن يكون مقدمة يشكك بها البعض فيما سيكتبه الرسول. بمعنى أن الرسول كتب ما كتب وهو في حالة لا تسمح له بذلك. والتشكيك مكتوب ربما يتعدى هذا المكتوب إلى مكتوب آخر تحت هذه الحجة. وقال آخرون: عندما أكثروا اللغط والاختلاف. علم أن الاختلاف واقع من بعده لا محالة كما أخبره ربه. ولذا اكتفى بما أقامه عليهم قبل ذلك من الحجج ورحل النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني (صلى الله عليه وآله وسلم).
رحل النبي الخاتم للمسيرة الشريفة التي تقدمها نوح وتوسطها إبراهيم عليهما السلام. ونشهد أنه قد أدى الأمانة. ونصح الأمة. وجاهد في سبيل الله حق جهاده. ونسأل الله أن يحشرنا تحت لوائه. وأن يسقينا من حوضه جرعة ماء لا نظمأ بعدها أبدا. والمؤمنين أجمعين. إنه سميع مجيب.
المصدر:
1- الانحرافات الكبرى.
2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.
1- سورة التوبة / 28.
2- سورة المائدة / 51.
3- الميزان 373 / 5.
4- سورة آل عمران / 28.
5- ابن جرير: 152 / 3.
6- الدر المنثور / السيوطي: 66 / 2.
7- ابن جرير: 40 / 4، الميزان: 3 / 386.
8- سورة المائدة / 57.
9- سورة آل عمران / 7.
10- الميزان: 23 / 3.
11- رواه ابن عدي (كشف الخفاء: 16 / 1).
12- سورة الواقعة / 77-79.
13- الميزان: 137 / 19.
14- رواه الطبراني في الأوسط (كنز العمال: 200 / 11).
15- رواه أبو نعيم (كنز العمال 84 / 3).
16- مسلم: 20 / 6.
17- رواه البخاري في كتاب الأحكام.
18- فتح البخاري: 180 / 13.
19- رواه أحمد وقال رواه أحمد وفيه ابن بهيقة وفيه خلاف. وقال صاحب الفتح الرباني.
قلت: أي لأنه عن من في هذا الحديث وقالوا إذا عن ابن بهيقة فحديثه ضعيف وإذا قال حدثنا فحديثه صحيح أو حسن (الفتح الرباني: 136 / 21).
20- صحيح البخاري: 271 / 4.
21- صحيح مسلم 76 / 5.
22- البخاري: 202 / 2.
23- البخاري: 202 / 2، أحمد (الفتح: 234 / 21).
24- لسان العرب: 5618 / 55.
25- النهاية: 240 / 4.
26- الطبراني في الأوسط (كنز العمال: 644 / 5).