النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -9

سادسا: عذاب في بطن الغيب:

في عهد الرسالة الخاتمة عمل طابور النفاق في الخفاء. وتوارى أهل الكفر وراء الجدر في انتظار الوقت المناسب الذي ينقضون فيه على طلائع النهار.

 

وعلى الرغم من ذلك لم يضربهم الله بالطوفان أو بالريح العقيم أو بالصيحة. كما ضرب سبحانه الأمم السابقة من قبل. وذلك لأن القافلة البشرية لها أجل. وهذا الأجل لا ينتهي بانتهاء حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فرسول الله قام بتبليغ الرسالة عن ربه. وهذه الرسالة صالحة لقيادة القافلة البشرية حتى قيام الساعة. ومعنى أن العذاب لم يضرب جحافل الكفر ضربة الاستئصال في حياة الرسول. أن هذا العذاب مدخر في بطن الغيب. وله صورته وموعده ولا يعلمهما إلا الله تعالى. وآيات القرآن الكريم تصرح في أكثر من موضع بهذا العذاب الذي يحمله المستقبل. وذلك لعلم الله تعالى بما ستقترفه الأمة من آثام بعد تبليغ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة.

 

فالأمة التي انحرفت عن كتاب الله واتبعت أبناء الطمس شبرا بشبر وذراعا بذراع لا بد وأن يطول عذاب المنحرفين منهم قبل يوم القيامة ليكون لهم ذل في الدنيا. قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾(1) قال ابن كثير في التفسير: قال الحسن: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر.. وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ثم يردون إلى عذاب عظيم.

 

وذكر أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسر إلى حذيفة بإثني عشر رجلا من المنافقين فقال: ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم. يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره وستة يموتون موتا(2). والعذاب المدخر في بطن الغيب ورد أيضا في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾(3).

 

قال المفسرون: أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت(4) وقيل: أي محالة سيقع بهم الذاب.

 

والدليل على أن عذاب الاستئصال مؤجل أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية من الآيات المدنية أن يصبر ولا يستعجل لهم. قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ (5).

 

قال المفسرون: لا تستعجل لهم حلول العقوبة. كقوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾(6).

 

وقال تعالى لرسوله أيضا في آية مدنية أخرى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾(7).

 

قال المفسرون: إن الله لا يعجل. فإن مقدار ألف سنة عند خلقه. كيوم واحد عنده. فالله تعالى لا يخاف الفوت حتى يعجل لهم بالعذاب.

 

بل هو سبحانه حليم. يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم. ثم يأخذهم فيما قدر لهم من الأجل. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. من هذا يبدو أن المد والإمهال قد فتح بابه بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى الوقت المعلوم وإذا كان طابور الكفر والنفاق قد استعجل العذاب بعد هجرة النبي فإنه قبل الهجرة قد استعجل العذاب ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدعو عليهم بالاستئصال لعلمه من ربه جل وعلا أن لكل أمة أجل. ومن الآيات. المكية التي سجلت عليهم استعجالهم للعذاب قوله تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ / أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾(8).

 

قال المفسرون: أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر. وحينا من الزمان وإن طال. ثم جاءهم أمر الله. أي شئ يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم(9).

 

فهذه الآيات وأيضا الأحاديث الشريفة التي أخبر فيها النبي عن ربه بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما سترتكبه بعض فصائل الأمة من منكرات تقود إلى ملك عضوض وجبرية تنتج غثاء لا قيمة له يتبع سنن الذين من قبله شبرا بشبر وذراعا بذراع ويهرول من ورائهم على امتداد طريق الطمس هرولة الخادم المطيع.

 

فهذا الإخبار بالغيب والذي ورد في أحاديث صحيحة يستقيم مع قول المفسرين بأن العذاب مدخر في بطن الزمان. ولا قيمة للرأي القائل بأن العذاب قد رفع عن هذه الأمة إكراما لها. وهل الذين يهرولون وراء سنن الذين من قبلهم ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه. لهم كرامة عند الله. ما لهم كيف يحكمون؟ هل للذين فرقوا دينهم وركبوا أعناق الأمة باسم الإسلام كرامة عند الله؟ كيف وقد برئ الله ورسوله منهم! إن الذين قالوا برفع العذاب ما أرادوا إلا تأصيل الشذوذ والانحراف. ولقد قطعوا بمقولتهم هذه شوطا كبيرا في عالم تغييب العقل وتوثين الوجدان وفقا لأطروحة الأماني الشيطانية.

 

إن للإسلام شريعة وهذه الشريعة لا تجامل أحدا فمن أخذ بها نجا ومن تركها وراء ظهره ضربه الذل في الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم. أما كرامة من أخذ بذيول فقهاء الدجل وآباء الانحراف فلا وجود لها في الإسلام ولقد أخبر الله تعالى بأن الأخير الذي استمتع بما استمتع به رأس الانحراف الأول وخاصة فيما خاض فيه أصحاب خيام الانحراف والشذوذ. فهذا الأخير لا محالة سينال العقاب كما ناله الأوائل. ومن هذه الآيات قول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ / كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ / أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(10).

 

قال المفسرون: ومعنى الآية والله أعلم. أنتم كالذين من قبلكم. كانت لهم قوة وأموال وأولاد بل أشد وأكثر في ذلك منكم. فاستمتعوا بنصيبهم. وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا. وخضتم كما خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وأولئك هم الخاسرون. وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران. ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم. ثم ذكر سبحانه بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين. فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق وعاد قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية. وثمود قوم صالح عذبهم بالرجفة. وقوم إبراهيم أهلك ملكهم وسلب عنهم النعمة.

 

والمؤتفكات وهي قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها. فهذه الأقوام أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك. ولم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم.

 

لأنه بين لهم الحق والباطل. وميز الرشد من الغي والهدى من الضلال ولكن كان أولئك الأقوام والأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله (11) وقال ابن جرير في تفسير الآية: أخبرهم يا محمد أن يحذروا أن يحل بهم عقوبة الله مثل الذي حل بالذين من قبلهم. وقد سلك المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقهم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلهم وخاضوا كخوض تلك الأمم وذكر ابن جرير عن الربيع قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -في هذه الآية- ﴿حَذِّرُكُمُ﴾ -الله- أن تحدثوا في الإسلام حدثا.

 

وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة. فقال تعالى في ذلك: ﴿فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ﴾ الآية. وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم. وأن الفتن عائدة كما بدأت وذكر ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لتأخذن كما أخذ الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحد من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه" قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن، ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ -إلى قوله تعالى- فاستمتعتم بخلاقكم الآية(12) وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه قال. ما أشبه الليلة بالبارحة ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه(13).

 

والخلاصة: إن العذاب قادم ولن ينجو منه إلا من سار على الصراط المستقيم. وبني إسرائيل الذين قتلوا الأنبياء لم يضربهم عذاب الاستئصال بعد.

 

ولكن لهم يوم سيصيبهم فيه هذا العذاب. ولن يكونوا وحدهم في هذا اليوم وإنما سيكون معهم الذين اتبعوهم وساروا على طريقتهم وشربوا معهم من أوعية الطمس التي ينبع ماؤها من نهر مخالف لنهر الفطرة. وأبناء الطمس وأتباعهم سينتظموا جميعا في جيش واحد هو جيش المسيح الدجال الذي سيهلكه الله بأيدي طلائع النهار في آخر الزمان.! ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين "قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون"(14).

 

ولقد أجمع المفسرون على أن يوم الفتح في هذه الآية لم يحدث في الماضي وإنما هو في بطن الغيب(15).

 

سابعا: الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة:

ظل معسكر الانحراف يكيد للدعوة بكل قواه. ولم يعرقل كيدهم سير الدعوة. بل ظلت تفيض عليهم بالحجج التي تدعو إلى الإيمان. كانت الدعوة في جميع مراحلها تحمل كلمة الإخلاص وتعلن أن دين الله لا إكراه فيه. فمن رضي بالإسلام دينا فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ومن رفض هذا الدين وأغلق عليه بابه ولم يصد عن سبيل الله فبينه وبين سيوف الإسلام حاجزا. فإن تعدى هذا الحاجز فلا يلومن إلا نفسه. لم تكن الدعوة في أي يوم من أيامها تحمل أحقادا ولقد سجل التاريخ أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا يوم فتح مكة عن أصحاب الجرائم الكبيرة في حق الإسلام والمسلمين ومن هؤلاء أبو سفيان بن حرب الذي قاد العديد من المعارك ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ومنهم زوجته هند بنت عتبة التي شاركت يوم أحد في قتل حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ولم تكتف بقتله وإنما أكلت كبده. ومنهم وحشي قاتل حمزة جاء إلى النبي يطلب الأمان فأجابه لذلك. وروي أنه لم ينظر إلى وجهه.

 

ومنهم كعب بن زهير وكان شاعرا يهجو النبي وعند فتح مكة خرج هاربا منها.

وأخيرا عفا عنه النبي. وغير هؤلاء الكثير. وروي أن الرسول (صلى عليه وآله وسلم) قال لقريش يوم فتح مكة: يا معشر قريش إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس لآدم وآدم من تراب. ثم تلا قوله تعالى:!﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(16) ووجه حديثه إلى المكيين وسألهم. ماذا ترون أني فاعل بكم وما تظنون؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك. فقال إني أقول لكم ما قاله أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. اذهبوا فأنتم الطلقاء قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء على الرغم من أنهم لم يدخلوا في الإسلام.

 

ولقد قال لهم هذا ليجعلهم أحرارا في قبول العقيدة. وبعد هذا القول اطمأن المكيون على مصيرهم. فمنهم من أسلم وأخلص في إسلامه. ومنهم من وجد أن حياته لن تكون إلا بمهادنة الدعوة التي أقامت حجتها بالكلمة والسلاح. وجاء في شرح النهج عن. الواقدي. أن العباس بن عبد المطلب قال لأبي سفيان عند دخول النبي إلى مكة: "إذهب فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله".

 

فخرج أبو سفيان مسرعا حتى دخل من كداء وهو ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. حتى انتهى إلى زوجته هند بنت عتبة.

 

فقالت: ما وراءك يا أبا سفيان؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد. وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن. فقالت: قبحك الله من رسول قوم. وجعلت تقول.

 

ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم. وأبو سفيان يقول: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم. فإني رأيت من الرجال والكراع والسلاح ما ليس لأحد به طاقة. إن محمدا في عشرة آلاف مقاتل أسلموا تسلموا. وجاء في رواية المبرد في الكامل: أن هند أمسكت رأسه وقالت لهم اقتلوه. وذكر البعض أن كبار المنافقين كانوا وقتئذ في دار أبي سفيان. وقول النبي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. كان ليعرفهم.

 

والخلاصة: فتحت طلائع النهار مكة ولم تسل فيها دما على الرغم من أنهار الدماء التي تسببت فيها قريش بعد هجرة النبي وكان فتح مكة مثلا في الرحمة والعفو والترفع عن الحقد والانتقام. مثلا شاخصا أمام العالم كله وأمام الأجيال في كل عصر وزمان وكان هذا العفو وهذه الرحمة دليلا على خسة النفاق وأهله.

 

ودعوة إلى طابور النفاق الذي دخل الإسلام خوفا أو طمعا. كي يصححوا نفوسهم بوضعها على الطريق الصحيح بعد أن شاهدوا وعلموا أن الإسلام لا يزرع خوفا وإنما يزرع حرية. وفي مجال هذه الحرية يختار الإنسان عقيدته على أن يمارسها بشروط الإسلام. لأن الإسلام دين الفطرة. ولا يسمح بثقافة تسير في طرقاته تبشر بغير ثقافة الفطرة. كان العفو والترفع عن الحقد والانتقام يوم فتح مكة دعوة إلى طابور النفاق كي يتعامل مع الدنيا على اعتبار أنها قنطرة إلى الآخرة. وعلى هذا لا بد لمن يأكل أن يأكل بشرف ولمن يأخذ أن يأخذ بشرف. ولكن طابور النفاق في مجمله لم يتذوق هذه المعاني السامية وأضمر في أعماقه جوعا وحقدا وانتقاما. ومارس عمليات الحفر لينتج في النهاية حفرا عديدة إذا وضعت بذرة في إحداها لا تنبت إلا مسخا وغثاء. وفي جميع الحالات النتيجة لصالح مراقب بني إسرائيل على طريق الطمس الذي يؤدي إلى نبي اليهود المنتظر والذي يسميه الإسلام بالمسيح الدجال. ويرى الباحث في السيرة النبوية أن طابور النفاق بعد فتح مكة نشطت خطواته. ويبدو هذا في أحداث غزوة حنين وغزوة تبوك والمسجد الضرار وكلها بعد فتح مكة.

 

ثامنا: من تعاليم النجاة:

على امتداد بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). كان الوحي يرشد إلى صراط الله ويقيم الحجة على عباد الله. ويوم فتح مكة هدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنيان دين الشرك وكسر الأصنام ليجعل بذلك العقل والوجدان في حرية تامة كي يختارا العقيدة التي ترتضيها الفطرة. وأمام الفطرة وضعت الشرائع التي تبث الأمن والأمان وتعلن يأس الكفار من النيل من هذا الدين. وتدعو الفطرة أن لا موجب للخشية بعد يأس هؤلاء. وأن عليها أن تخشى الله الذي بيده مصير الأمور قال تعالى:! ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾(17).

 

قال المفسرون: أي بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار مصون من الخطر المتوجه من قبلهم. وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم. وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة. ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي. ويومئذ يسلبهم الله نعمته وبغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس الجوع والخوف. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية من قوله:! فلا تخشوهم واخشون، فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم. ثم يرجع القهقري بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل، على أصول القضايا وأعراقها.

 

لقد وضعت الفطرة أمام الصفحة البيضاء وعلى امتداد الرسالة الخاتمة.

 

ولكن أعداء الحياة أعداء الفطرة عندما يئسوا من إحداث شرخ في جدار الشريعة نظرا لعظمة النص وبلاغته وقوة حجته. حالوا على امتداد التاريخ فصل المسلمين عن الإسلام.

 

فبعيدا عن الإسلام يسهل عليهم نزالهم نظرا لتجريدهم من القوة التي عليها يرتكزون: ولقد ساعدهم في ذلك طابور النفاق في القديم وفي الحديث. فقديما كان يجلس داخل سور الأمة من يحب الدنيا ومن يحب الآخرة. فالذي يحب الدنيا عمل من أجلها. وقاده عمله إلى دائرة كفران النعمة التي عليها يترتب سلب الله لهذه النعمة والذي أحب الآخرة عمل من أجلها وقاده عمله إلى حوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة حيث النعيم وجرعة ماء لا يظمأ بعدها أبدا.

 

وهذا المشهد يصوره ويجسده حديث شريف يقول فيه النبي: "يردن على الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني. فلأقولن: أي رب. أصيحابي أصيحابي. فليقولن لي. إنك لا تدري بما أحدثوا بعدك"(18) وفي حديث رواه البخاري قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا فرطكم على الحوض. ليرفعن إلي رجال منكم. حتى إذا أهويت لأناولهم. اختلجوا دوني. فأقول: أي رب أصحابي. يقول: "لا تدري ما أحدثوا بعدك"(19).

 

وفي رواية عند البخاري: "أنا على حوضي أنتظر من يرد علي. فسيؤخذ بناس من دوني. فأقول: أمتي. فيقول: لا تدري! مشوا على القهقري"(20) وعنده أيضا عن سهل قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أنا فرطكم على الحوض. من ورده شرب منه. ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا. ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني. ثم يحال بيني وبينهم"(21) وفي رواية عند البخاري وابن ماجة. (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي. فيحلون على الحوض. فأقول: أي رب، أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك. إنهم إرتدوا بعدك على أدبارهم القهقري"(22) وفي لسان العرب القهقري: الرجوع إلى الخلف. وتقهقر: تراجع على قفاه.

 

وقال الأزهري في الحديث: "إنهم كانوا يمشون بعدك القهقري" معناه الارتداد عما كانوا عليه (*) باختصار اتبعوا سنن الذين من قبلهم وركبوا معهم طريق الطمس. وأحاديث القهقري التي سار أصحابها في الاتجاه المعاكس للفطرة كأصحابهم من الأمم السابقة الذين ساروا في طريق الطمس. أحاديث عديدة تجدها في كتب التفسير والحديث. ولما كان للنفاق خيمة داخل سور الأمة.

 

وهذه الخيمة تعمل على أهداف الأهواء التي تصب في وعاء بني إسرائيل في نهاية المطاف حدد الإسلام لأتباعه خطوطا لا يستطيع النفاق في حالة عمله منفردا أن يخترقها. ولا يمكن أن يخترقها أيضا في حالة عمله بتوجيهات من معسكر الكفر بجميع أعلامه. ومن هذه الخطوط خط تجنب الرجس وخط تجنب النجس.

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1-  سورة التوبة / 101.

2-  تفسير ابن كثير: 385 / 2.

3-  سورة الزخرف / 41.

4-  ابن كثير: 128 / 4 وتفسير البغوي: 399 / 7.

5-  سورة الأحقاف / 35.

6-  تفسير ابن كثير: 172 / 4.

7-  سورة الحج / 47.

8-  سورة الشعراء، الآيتان: 204-205.

9-  تفسير ابن كثير: 348 / 3.

10-  سورة التوبة / 68-70.

11-  الميزان: 337 / 9.

12-  ابن جرير في تفسيره: 122 / 10.

13-  ابن كثير في تفسيره: 368 / 2.

14-  سورة السجدة / 28-30.

15-  راجع كتابنا المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى.

16-  سورة الحجرات / 130.

17-  سورة المائدة / 3.

18-  رواه مسلم في صحيحه عن أنس: 15 / 15.

19-  رواه البخاري عن عبد الله: (221 / 4 ورواه مسلم: 59 / 5 1.

20-  رواه البخاري عن أسماء: 421 / 2.

21-  البخاري: 421 / 2، الإمام أحمد (الفتح الرباني: 195 / 1).

22-  كنز العمال: 417 / 14.