النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -6

2- استعجال العذاب:

على أرض مكة تعالت أصوات طوابير الانحراف وأخذوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانهالت سياطهم وعصيهم على ظهور الضعفاء من الذين آمنوا. وتقدم سادة خيام الانحراف ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بالعذاب إن كان من الصادقين. آخذين في ذلك بسنة آبائهم في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين. كانوا يستعجلون أي عذاب. سواء أكان عذاب في الدنيا أم عذاب الآخرة. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(1).

قال المفسرون: أي امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما. وإنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر. لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب الروح بما فيه من الذلة والإهانة(2) لقد استعجل طابور الانحراف العذاب أي عذاب كان.

يقول تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ / يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(3).

قال المفسرون: إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وقال تعالى في استعجالهم للعذاب: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾(4) واستعجالهم للعذاب يدل على كمال جهلهم وفساد فهمهم. لأن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا. واستعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم. لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.

والمراد بالأجل المسمى في الآية هو الذي قضاه الله تعالى لبني آدم. حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(5) وقال: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾(6) وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الأجل المسمى. هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة. كما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾(7). ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال وإنظار(8). قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾(9).

وأمام استعجالهم للعذاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أجاب به أنبياء الله أقوامهم حين طالبوهم بالعذاب قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾(10) وقال: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ / قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(11) وقال: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ / قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ / أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ / ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ / وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾(12).

قال المفسرون: سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود.

وهو القضاء بينهم في الدنيا. والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ...﴾ الآية. وقول البعض إن السؤال عن عذاب يوم القيامة. أو أن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه(13).

فقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك. أو يأتي بما أوعدنا به إنه يقضي بيننا وبينك. فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك. فيصفوا لكم الجو. ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرنا؟

فهل عجل لكم ذلك؟ وذلك إن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء. كما تدل على استعجالهم الآيات التالية في السورة. وهذا نظير قولهم: ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (14). لقن سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم في الحواب ببيان. إنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها. ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن يملكه من ضر ونفع. فالأمر لله سبحانه جميعا. واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل. ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا. بالإعراض عن تعيين الوقت والإقبال عن ذكر ضرورة الوقوع. أما الأول: فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وأمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو.

وأما الثاني: أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك. بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة. وهي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه. فهو آتيهم لا محالة. وإذا آتاهم لم يخبط في وقوعه موقعة ولا ساعة. وهو قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم فإذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.

فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه. ظهر لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها. ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها. ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغي والثواب والعقاب نصيبها. وهي مما اعتنى بها التدبير الإلهي. نظير الفرد من الإنسان.

ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ. ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية. وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح وعاد قوم هود. وثمود قوم صالح. وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم. فهؤلاء أمم منقرضة. سكنت أجراسهم.

وخمدت أنفاسهم. ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك. ولم يعذبوا إلا بعدما جاءتهم رسلهم بالبينات. ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم. فمنهم من آمن ومنهم من كذب به وهم الأكثرون.

فهذا يدلهم على أن هذه الأمة. -وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم- سيقضي الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد. وعلى الباحث المتدبر. أن يتنبه لأن الله سبحانه وإن بدأ في وعيده بالمشركين. غير أنه تعالى هدد في آياته المجرمين فتعلق الوعيد بهم.

ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم. فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم. أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة. فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب. مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى. وقد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾(15).

وربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا. فذكر أن الأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاؤوا. فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن. ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة؟! ولا يبقى على هذا للملة والشريعة. إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. تعالى عما يقولون علوا كبيرا. فهذا كله من العراض عن ذكر الله وهجر كتابه. وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

أما قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ فإنهم لما استعجلوا آية العذاب قال تعالى ملقنا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا﴾ ليلا ﴿أَوْ نَهَارًا﴾ فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ﴾ من العذاب ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ أي ماذا تستعجلون منه. وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا آتاكم. ثم وبخهم على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه. وهو حين نزول العذاب فقال تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ العذاب ﴿آمَنْتُم بِهِ﴾ أي بالقرآن أو بالدين أو بالله. "الآية" أي أتؤمنون به في هذا ­﴿آلآنَ﴾ والوقت ﴿وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره وبالإستهزاء به..

وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ الخ. فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكهم إياهم.

والآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة. ولا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي تحملونها(16).

لقد استعجلوا العذاب ولله في خلقه شؤون يقول تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ / أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ / ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ / مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾(17) إن العذاب قادم. أما كيف ومتى فهذا في علم الله ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ / أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ / فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(18) ­﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ / رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(19) اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين. اللهم باعد بيننا وبين القوم الظالمين وصلى الله على نبيك وآله وسلم. لقد استعجلوا العذاب كما أخبر الله تعالى في كتابه في آيات نزلت بمكة واستعجلوه أيضا في آيات نزلت بالمدينة وسيكون لنا حديث آخر مع استعجال العذاب في موضعه بإذن الله تعالى.

3- الخروج من مكة:

لم يدخر معسكر الانحراف جهدا من أجل الصد عن سبيل الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحث المؤمنين به على الصبر. في مواجهه جحافل الليل المغير تحت قيادة الجبابرة الذين ورثوا من قوم نوح تحقير عباد الله.

ومن عاد الاستكبار بغير الحق. كان معسكر الانحراف يضرب بالسيف وبالحجر وبلسانه. والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يدافع عن نفسه وعن المؤمنين إلا بالكلمة الطيبة وبالوحي. وظلت جحافل الليل تكيد للإسلام. ولكن كيدهم في كل مرة كان يذهب كما تذهب رغوة جوفاء في خلاء واسع عريض. وتحداهم النبي الأعظم كما تحدى هود عليه السلام قومه أن يكيدوا له. لقد سخر منهم ومن قوتهم لأنهم باطل لا يستند إلا على باطل. وعلى أسماعهم تلى قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ / إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ / وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾(20).

قال المفسرون: أي قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي. ثم كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني. إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم. فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس. وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم.

وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة. وأما أربابكم الذين تدعون من دونه. فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم. ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم(21) وأمام هذا التحدي عجز طابور الانحراف في مكة على إحداث أي ضرر في الدعوة أو الداعية رغم محاولاتهم العديدة.

يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(22).

قال المفسرون: أذكر أو ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك. أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك وإما أن يقتلوك وإما أن يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. والترديد في الآية بين الحبس والقتل والإخراج. بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان بينهم شورى. تشاور فيها مع بعضهم بعضا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان يهمهم ويهتمون به من إطفاء نور دعوته(23).

لقد أرادوا أن تخرج هداية الله من بينهم. والله تعالى لا يريد أن تخرج هدايته إلا بعد أن تبلغ حجته عليهم مداها. فكان ما أراد الله ورد الله كيدهم في نحورهم. وبعد أن أقامت الدعوة حجتها عليهم أمر تعالى رسوله بالخروج من مكة مهاجرا هو والذين آمنوا معه .. ليقف الذين مكروا من قبل لإخراج الرسول على أرضية إخراج الرسل. تلك الأرضية التي ينال من يقف عليها عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة. يقول تعالى في الطابور الذي أخرج الرسول ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾(24).

قال المفسرون: المراد بالقرية: أهل القرية. بدليل قوله بعد ذلك: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم. فلقد أخبر سبحانه. أنه أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم(25) وفي الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم وكانوا أشد قوة من هؤلاء.

فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة(26) وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج بعد أن رفض معسكر الانحراف الهدى. فإن تلاميذ هذا المعسكر قاموا بوضوح الإسلام في صورة المعتدي من يومه الأول. لم يتبين التلاميذ أن طلائع النهار قد تركوا وراء ظهورهم الأرض والأموال وتركوا جحافل الليل تمتع بما تريد. ولم يفهم التلاميذ أن الله كان يمكن أن يخزي أعداء دينه ويمكن لرسوله في مكة. ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأن صراطه المستقيم يقوم على أن لا إكراه في الدين. لقد رفضوا الدين وعندما أقيمت عليهم الحجة أخرج الرسول من باب الإخراج وليس من باب الخروج. لم يفهم التلاميذ ذلك لأنهم يسيرون في طريق الطمس وطريق القهقري الذي يتجه إلى الآباء وليس فيه علم يرى. بل أهواء يلوكها ذئاب الطابور الأول ثم تتلقفها كلاب الطابور الأخير.

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى.

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1-  سورة الأنفال / 32.

2-  الميزان: 67 / 9.

3-  سورة العنكبوت / 53-54.

4-  سورة هود / 8.

5-  سورة البقرة / 36.

6-  سورة الأعراف / 34.

7-  سورة الكهف / 58.

8-  الميزان: 141 / 16.

9-  سورة الإسراء / 59.

10-  سورة الجن / 25.

11-  سورة النعام / 134-135.

12-  سورة يونس / 48-53.

13-  الميزان: 72 / 10.

14-  سورة الحجر / 7.

15-  سورة النساء / 123.

16-  الميزان: 75 / 10.

17-  سورة الشعراء / 204-207.

18-  سورة الزخرف / 41-43.

19-  سورة المؤمنون / 93-94.

20-  سورة الأعراف / 195-197.

21-  الميزان: 378 / 8.

22-  سورة الأنفال / 30.

23-  الميزان: 67 / 9.

24-  سورة محمد / 13.

25-  الميزان 232 / 18.

26-  ابن كثير: 175 / 4.