النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -1

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(1)

النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) والقافلة البشرية

(الحجة البالغة)

مقدمة:

قبل البعثة المحمدية، كانت القافلة البشرية تعيش أحط أدوارها، فالقرن السادس الميلادي كان قد طفح بعرق الإنحراف ووصف بأنه كان من أشد القرون ظلاما. حيث ادعى الجبابرة في رقع كثيرة من العالم الحق الإلهي وعلى هذا ملأوا العالم ظلماء وخرجوا يبحثون بمخالبهم وأنيابهم عن فريسة من نبي الإنسان ليقتلوه أو يسبوه خلال حروبهم. التي أشعلوها من أجل مزيد من الشهوات والأهواء. قبل البعثة خرج أصحاب بيوت العنكبوت التي ليس لها من آثار البيت إلا اسمه بعد أن وجدوا أن البيت لا يدفع حرا ولا بردا ولا يقي من مكروه! خرجوا ليبحثوا عن بيوت أخرى وكلما انتهوا إلى بيت وجروه كبيوتهم!

وهكذا دارت جحافل الظلام في حلقة مفرغة. من بيت سوء! ومن أولياء ليس لهم من الولاية إلا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا. إلى أولياء لم يتخصصوا إلا في بناء بيوت كبيوت العنكبوت!

كانت الوثنية قد رفعت أعلامها على بلاد الروم واليونان والهند والفرس ومصر وسوريا وغير ذلك من البلاد. وتحت ظل الوثنية أطيح بسنة العدل الإجتماعي، وأنت الفطرة تحت أحمال غليظة، وقام فقهاء الانحراف بتقديم ثقافة تفقد الإنسان رشده وقوة تمييزه بين الخير والشر. فلم يعرف في عالمهم الحسن من القبيح. وكيف يعرف من ألقى مقياس المعرفة الفطرية وراء ظهره وانطلق مسرعا إلى عالم الضلال الذي لا يفلج من سار على طريقه أبدا.

فتحت رايات الوثنية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان الإنسان أرخص شيئا على أرضها. كانوا يدفعون بالرقيق إلى حلبات المصارعة كي يصارع إنسان مثله حتى الموت أو يصارع السباع! وكل هذا من أجل أن يدخلوا السرور على شريف من أشرف القوم بع عناء يوم عمل.

كانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف. والمؤامرات والمجاملات الزائدة والقبائح والعادات السيئة.

كان هم الجميع هو اكتساب المال من أي وجه. فهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الأفراد وهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الشعوب.

أما أوروبا فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية وكانت بعيدة عن قافلة الحضارة التي شيدها الناس من حولهم. كان لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعلم. وكانت أجسامهم قذرة ورؤوسهم مملوءة بالأوهام. وكان الرهبان هناك يبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان؟ ولها روح خالدة أم ليس لها روح خالدة. وأن لها حق الملكية والبيع والشراء أم ليس لها شئ من ذلك.

ويقول روبرت برفلوت: لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر. وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا. وكانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم. لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت .. وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا. فريسة الدمار والفوضى والخراب(2) أما الهند فكانت قبل عصر البعثة المحمدية قد احترفت صنع الآلهة وذكر صاحب كتاب الهندوكية السائدة. بأنهم ألحقوا بالديانة الهندوكية عددا من الآلهة قد بلغ (330 مليون) إله!! وفي ظل هذه الآلهة رتعت عقائد التثليث والتجسد والحلول وجميع معالم الانحراف. وفي بلاد فارس أقيمت للناس المعابد العديدة! وفي بلاد العراق أقيمت المعابد للكواكب والأوثان! أما العرب فقد انغمسوا في الوثنية بأبشبع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكل بيت صنم خاص، وكان في جوف الكعبة وفنائها ثلاثمائة وستون صنما، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر من أي جنس مان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجن والكواكب. وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله! وأن الجن شركاء الله!

واعتقدوا أن هؤلاء لهم مشاركة في تدبير الكون! وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء! فآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم(3) وعلى أرض العرب وبالتحديد في مكة كان العديد من علماء أهل الكتاب يقيمون فيها أو حولها انتظارا لظهور النبي الموصوف عندهم في كتبهم والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم نظرا لدقة الوصف الذي وصفه لهم الأحبار والرهبان الذين أؤتمنوا على ما أخفاه من الكتاب.

وبالجملة كانت القافلة البشرية في حاجة إلى مشعل هداية بعد أن سقطت أطروحات الأصنام في الأوحال العميقة. مشعل هداية يهدي إلى صراط الله المستقيم، وجاء النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن جفت الحكمة وجف العلم من آنية أهل الكتاب.

أولا: وجاء النور الهادي:

1- من صفاته عند أهل الكتاب:

كان (عليه السلام) أميا، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. قال القرطبي في تفسيره: (جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران) "إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك. اجعل كلامي على فيه. فمن عصاه انتقمت منه" فمن إخوة بني إسرائيل؟ فلا محالة أنهم العرب أو الروم.

فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة.

فلم يبق إلا العرب. فهو إذن محمد (عليه السلام). وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب "إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته" فكني عن بني إسرائيل بأخوة إسماعيل.

كما كني عن العرب بأخوة بني إسرائيل في قوله: "إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك" ويدل ذلك أيضا قوله: "اجعل كلامي على فيه" وتلقيناه من فلق فيه(4) واليهود يطلقون على أي أمة غير أمتهم لقب "الأمة الأمية" وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾(5).

فالنبي الأمي ليس من الحي الإسرائيلي. وإما هو من بني إسماعيل. ووصفه بالأمي لا ينطبق إلا عليه. لأن المسيح ابن مريم (عليه السلام) كان قارئا وكاتبا. ففي إنجيل لوقا "وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ" (لوقا 4 / 16) وفي إنجيل "وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب" (يوحنا 8 / 6) وكان (عليه السلام) رسولا إلى بني إسرائيل.

البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل صنف فيها كتب كثيرة.

2- من خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم):

1- اختصه الله بعموم الدعوة للناس كافة قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(6) وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(7).

قال المفسرون: إن في مدلول الآية حجة على التوحيد. وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية، التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم وسيرهم إلى غايات وجودهم، فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم). وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره. دليل على أن الربوبية منحصرة في الله تعالى. فلو كان هناك رب غيره ولجاءهم رسوله. ولم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عمتهم. واحتاجوا معه إلى غيره. ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه. أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا. فمفاد الآية: لا يمكنهم أن يروك شريكا له. والحال أنا لم نرسلك إلا كافة لجميع الناس بشيرا ونذيرا. ولو كان لهم إله غيرنا، لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم عباد لإله آخر. والله أعلم(8).

ونزول القرآن الكريم على رسول الله بلسان عربي، لا ينافي عموم دعوته لعامة البشر، لأن دعوته كانت مرتبة على مراحل، فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم، ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(9).

ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾(10).

ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(11) وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(12) والدليل على عموم الدعوة. إنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا، وبلال وكان حبشيا، وصهيب وكان روميا، وفي الحديث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا سابق العرب. وصهيب سابق الروم. وسلمان سابق الفرس. وبلال سابق الحبشة"(13).

وبعد استقرار الدعوة أخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك في إيران ومصر والحبشة والروم. وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود"(14) وقال: "أنا رسول من أدركت حيا ومن يولد بعد"(15) وقال: "ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار"(16) وقال: "أنا النبي الأمي الصادق الزكي. الويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني .."(17) وقال: "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال"(18) وقال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"(19) وقال: "أنا رحمة مهداة"(20) وقال: "إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ودينكم واحد ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أخمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"(21).

2- ومن خصائصه أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم / وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(22) وآيات القرآن في هذا المقام عديدة. كما جعل الله أتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شرط في حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾(23).

قال المفسرون: إن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به.

ويوجب الخضوع والتسلم لكل ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الله الواحد الأحد، الذي يعتمد عليه كل ما شئ في جميع شؤون وجوده ويبغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل. فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين بدين التوحيد وطريق الإسلام، وهذا هو الذين الذي ينسب إليه سفرائه. ويدعو إليه أنبيائه ورسله. وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه.

وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة، كما يختم بصادعه (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنبياء (عليهم السلام)، وقد عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، طريقة الإخلاص على ما أمره الله تعالى حيث قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(24) فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك، فسبيله دعوة وإخلاص، واتباعه واقتفاء أثره، إنما في ذلك صفة من اتبعه.

ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾(25) وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾(26) ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراط المستقيم فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾(27) فتبين بذلك كله أن الإسلام -وهو الشريعة المشرعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة- هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، وهو دين الحب. ومن جميع ما تقدم يظهر معنى الآية ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ فالمراد والله أعلم: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب، الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن. أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب، وعند ذلك تجدون ما تريدون. وهذه هو الحب الذي يبتغيه محب بحبه(28).

3- ومن خصائصه (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم كقول نوح (عليه السلام): "يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين"(29) وقول هود (عليه السلام): "يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين"(30) وغير ذلك، أما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تولى تعالى تنزيهه عما نسبه إليه أعداؤه والرد عليهم فقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾(31) وقال تعالى: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾(32) وقال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى / وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾(33).

4- ومن خصائصه أن كتابه معجز، ومحفوظ، يسره الله تعالى للذكر ليفهمه العامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾(34).

قال المفسرون: والمعنى لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به. فهل من متذكر فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه الدين الحق. والقرآن لا انحراف فيه في جميع الأحوال. ولا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير. ووصف القرآن بالحكيم دليل على عدم وجود نقطة ضعف أو لهو الحديث فيه. جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة فيه تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد.

قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(35).

قال المفسرون: أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(36) وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفة بالقيام كما قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(37) وقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾(38) وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنيا هم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية(39).

والقرآن الكريم لا يجد الباطل طريقا إليه قال تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ / وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ / إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾(40).

قال المفسرون: لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به. إنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله.

والقرآن حق لا سبيل للباطل إليه. فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد ﴿مَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي وما يقدرون على التنزل به، لأنه كتاب سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ أي أن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملأ الأعلى معزولون. حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا(41) والله تعالى تحدى بالقرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثله فقال: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(42) وعندما عجزوا أن يأتوا بمثله تحدى أن يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾(43) وعندما عجزوا تحدى أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾(44).

قال المفسرون: في الآيات ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم. فلا ترى أثرا منهم. والقرآن باق على إعجازة متحد بنفسه كما كان(45).

5- ومن خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله جعل أهل بيته (عليهم السلام) طرفا أصيلا مع القرآن وأنهم والقرآن لن يفترقا حتى يرد عليه الحوض ففي الحديث: "ذ إني تارك فيكم الثقلين أحداهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض"(46) وأن الله تعالى طهر أهله بيته الذين ارتبطوا بالقرآن تطهيرا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(47) كما أجب الله تعالى مودة قرابة رسول الله في قوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(48) وسيأتي الحديث عن أهل البيت فيما بعد مفصلا. وخصائص النبي الأعظم عديدة نكتفي بما أوردناه منها.

3- من صفاته (عليه الصلاة والسلام):

قال الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع(49) وأقصر من المشذب(50) عظيم الهامة".

إلى أن قال: "أزهر اللون واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن وبينهما عرق يدره القضب له نور يعلوه يحسبه من يتأمله أشم"

إلى أن قال: "إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جمعيا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. جل نظره الملاحظة. يبدأ من لقيه بالسلام".

وما أوردناه من الصفات يوجد بتمامه في تفاسير أهل الكتاب.

ثم قال الحسن فقلت له: صف لي منطقه. فقال: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة.. يتكلم بجوامع الكلم فصلا فصلا لا فضول فيه ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين ..".

وعن الحسين (عليه السلام) قال: سألت أبي عن مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "كان يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إبطانها(51) إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أجدا أكرم عليه منه. من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وكانوا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا يؤمن فيه الحرم(52). ولا تثنى فلتاته(53) متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.

قال الحسين (عليه السلام) فقلت: كيف كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في جلسائه؟ فقال: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) دائم البشر(54). سهل الحلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب(55) ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عمالا يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمنيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره. ولا يطلب عثراته ولا عوراته. ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه. وإذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم انصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليتهم(56)، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه. حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم(57). ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ(58). ولا يقطع على أحد (*) كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام(59).

قال الحسين: فسألت أبي عن سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير.

فأما التقدير، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم والصبر. فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه. واجتهاده الرأي في صلاح أمته. القيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة(60) وما أوردناه ما هو إلا بعض من صفات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم. وصاحب هذه الخلق العظيم هو الذي قدر الله تعالى أن تكون هداية البشرية على يديه بما أنه خاتم الأنبياء والرسل.

فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يشير إلى قوافل الضلال والانحراف بمصباح الهدى كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، فمن استجاب فقد فاز، ومن أمسك بذيول آباء الضلال والانحراف فقد هلك والله غني عن العالمين.

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى.

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.


1- سورة الأعراف / 158.

2- السيرة النبوية / الندوى: ص 9.

3- السيرة النبوية / الندوى: ص 11.

4- البشارة نبي الإسلام / أحمد حجازي السقا: ص 226 / 1 ط دار البيان.

5- سورة آل عمران / 75.

6- سورة الأعراف / 158.

7- سورة سبأ / 28.

8- الميزان: 377 / 16.

9- سورة الشعراء / 214.

10- سورة الحجر / 94.

11- سورة الأعراف / 158.

12- سورة الأنعام / 19.

13- رواه الحاكم (كنز العمال 644 / 11).

14- رواه ابن سعد (كنز العمال 445 / 11)

15- رواه ابن سعد (كنز العمال 404 / 11).

16- رواه الحاكم (كنز العمال 453 / 11).

17- (رواه ابن سعد (كنز العمال 403 / 11).

18- رواه الطبراني في الأوسط (كنز 425 / 11).

19- رواه ابن سعد والحاكم (كنز 425 / 11).

20- رواه ابن سعد الحاكم (كنز 425 / 11).

21- رواه ابن النجار (كنز 484 / 11).

22- سورة النساء / 13-14.

23- سورة آل عمران / 31

24- سورة يوسف / 108.

25- سورة الجاثية / 18.

26- سورة آل عمران / 20.

27- سورة الأنعام / 153.

28- الميزان: 159 / 3.

29- سورة الأعراف / 61.

30- سورة الأعراف / 67.

31- سورة يس / 69.

32- سورة القلم / 2.

33- سورة النجم / 2-3.

34- سورة القمر / 22.

35- سورة الإسراء / 9.

36- سورة الأنعام / 161.

37- سورة الروم / 30.

38- سورة الروم / 43.

39- الميزان: 47 / 13.

40- سورة الشعراء / 210-212.

41- الميزان: 328 / 15.

42- سورة الإسراء / 88.

43- سورة هود / 13.

44- سورة البقرة / 23.

45- الميزان: 201 / 13.

46- رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 186 / 1).

47- سورة الأحزاب / 33.

48- سورة الشورى / 23.

49- المربوع: الذين بين الطويل والقصير.

50- المشذب: الذي لا كثير لحم على بدنه.

51- أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من القصور.

52- أي لا تعاب عنده حرمات الناس.

53- أي إذا وقعت فيه عثرة من أحد جلسائه بينها لهم ليحذروا من الوقوع فيها ثانيا.

54- البشر: بشاشة الوجه.

55- الصخاب: الشديد الصياح.

56- أي كانوا يتكلمون عنده الواحد بعد الآخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر.

57- أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم. 

58- أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح.

59- حتى يجوز: أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام.

60- الميزان: 306 / 6 وما بعدها.