الإنفاق الحقيقي في التصور القرآني
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ / الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(1).
يؤسس القرآن الكريم إلى مفهومٍ للإنفاق يقوم على النزعة الإنسانية الإيمانية بحيث يصل الإنسان إلى مرتبة من السخاء يشعر فيها بعمق المسؤولية الإنسانية، ولقد ضرب القرآن الكريم مثالاً راقيًا لهذا المستوى عندما تكلم عن بذل أهل البيت (عليهم السلام) لطعامهم تصدقًا على من هم محتاجون إليه وتقربًا إلى الله، ولم يكن الإنفاق من سائر ما عندهم بل كان بما هو ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ..﴾(2).
هذا المثال الرائع والراقي سيق ليعلم الإنسان كيف يجب أن يكون الإنفاق، فالإنفاق في التصور الإسلامي يجب أن يكون مرتكزًا على نوعية المال المنفق ويجب أن يصل إلى من يستحقه .. وبالتجول في أجواء الآيات الكريمة نجد أن المفهوم القرآني يركز على ضرورة أن يختار الناس أفضل ما عندهم سواء كان تحصيله بالجهد والعمل أم كان بالصنع والإعداد أم كان مما تجود به الأرض من زرع وثمار ولم يُنفَق فيه جهد .. المهم أن العطاء يجب أن يكون من طيب النوعية ومصدره طيبًا كذلك وهذا هو جوهر الحالة الإنسانية في البذل والعطاء بحيث يقاسم الإنسان أخاه الإنسان ما عنده من خير.
وعلى الإنسان أن لا يتجه إلى الشيء الرديء أو الخبيث ليمنحه الآخرين تخلصًا منه ومتسترًا بالإنفاق والعطاء، وعليه أن يضع نفسه موضع الحاجة هل كان سيقبل الرديء والفاسد أو الذي لا صلاحية له ليسد به حاجته.
والآيات السابقة تصور حال نموذجٍ من الناس أنهم يحاولون اختيار ما ينفقون على هذا الأساس، ولكن الله تعالى شأنه أراد أن يبيِّنَ لهؤلاء بأن مثل هذا السلوك ليس من الإيمان في شيء وإنه لا يمثل روح العطاء المنفتحة على القيم الإسلامية، بل إنَّه يمثل أسلوبًا للتخلص مما لا حاجة فيه مغلفًا بغلاف الإنفاق، وذلك لعبةٌ على القيم وخداعٌ للنفس.
ما هو مصدر هذا الخداع؟
هذا هو محور الآية الكريمة.
وخصوصًا في لحظات الضعف، لذلك ينادي الجليل جل شأنه يا أيها الإنسان لا تستمع لنداء الشيطان ووسوسته وصراخه، فهو مندسٌّ في أعماق النفس ليوحي إليها بعدم الإنفاق ويخوفها الفقر والحاجة لو أنها أنفقت وبذلت وأنَّها ستعيش الحرمان، ولماذا تنفق لماذا لا يقوم بذلك غيرها، لماذا، لماذا .. وسلسلة من التساؤلات التي تعمل بشكل مثبطات للعزيمة فتخلق حالة من التراجع في النفس، وما نتيجة سيطرة هذه الحالة؟
إن النتيجة الطبيعية لسيادة هذا الشعور وسيطرة هذه الحالة هي انتشار وتوسع دائرة الحرمان في المجتمع عن طريق:
1- تلويث النفس والبعد عن الحالة الإنسانية.
2- معاناة قسم من أفراد المجتمع نتيجة الحاجة والحرمان.
3- انتشار الجريمة والفساد المترتب على الفقر والحرمان.
4- ضعف عام في حركة المجتمع، فالإنفاق يحرك الدورة الاقتصادية في المجتمع وينشط مفاصله فيعم الخير على الجميع وحبس الإنفاق هو تعطيل لقوة اقتصادية تسبب ضعف الاقتصاد وضعف في الوضع الاجتماعي.
والله تعالى بدعوته عباده للإنفاق إنما يدعو إلى الخير وصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة ففي الدنيا يعيش الخير والرخاء ويعم السلم الاجتماعي وتتزكى النفوس وتتعمق العلاقات وفي الآخرة الفوز بالمغفرة والرضوان والنجاة من النار.
إن الله هو الغني الحميد وهو ليس بحاجة إلى ما ينفقه العبد فهو مصدر كل خير وعطاء وهو المتفضل على عباده وعلى الإنسان أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وإن كان مؤمنًا موقنًا وأن يعطي من غناه شيئًا لمن هو في حاجة، ولكن الشيطان يندس في أعماق النفس الإنسانية فيوسوس للإنسان وخصوصًا في لحظات الضعف.
1- سورة البقرة / 267-268.
2- سورة الإنسان / 8.