أصحاب الفيل

ذكر المفسرون والمؤرخون هذه القصة بأساليب مختلفة واختلفوا في سنة وقوعها. لكن أصل القصة متوافرة(1).

(ذو نواس) ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم(2).

بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى.

ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلي النجاشي(حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن. وكان (أبرهة) أيضاً من قواد ذلك الجيش. اندحر(ذون نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن، وبعد مدة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه. بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن (أبرهة) أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاء له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.

كنيسة لا نظير لها

و(أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لان يحجوا إليها بدل الكعبة، وينقل مكانة الكعبة إلى ارض اليمن. أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن، فأحس العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنها من آثار إبراهيم الجليل (ع).

تذكر بعض الروايات أن مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة وقيل إنهم لوثوها بالقاذورات، ليعتبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

لم العجلة يا أبرهة؟

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملاً، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهز جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة. عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب. بعث أبرهة قاصداً إلى مكة وقال له: ابحث عن كبير القوم وقل له إن أبرهة مللك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم.

أنا رب الإبل

جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت رب يحميه.

ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته، حتى قام من مكانه احتراماً وجلس على الأرض واجلس عبد المطلب إلى جواره لأنه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكة ثم قال لمترجمه اسألهما حاجتك؟ قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردها علي.

فاندهش أبرهة وقال لمترجمه: قل له إنه احتل مكاناً في قلبي حين رأيته، والآن قد سقط من عيني. أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر وهي شرفك وشرف أجدادك، وأنا قدمت لهدمها؟! قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه؟!

عاد عبد المطلب إلى مكة، وأخبر أهلها أن يلجئوا إلى الجبال المحيطة بها. وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وأنشد أبياته المعروفة:

لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك ** لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك

جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك ** ولا هم المرء يمنع رحله فامنع عيالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

ثم لاذ عبد المطلب وجمع من قريش بإحدى شعاب مكة وأمر أحد ولده أن يصعد على جبل(أبو قيس) ليرى ما يجري.

عاد الابن مسرعاً إلى أبيه وأخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر (البحر الأحمر) إلى أرض مكة. استبشر عبد المطلب وصاح: (يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده).

من جانب إلى جانب، توجه أبرهة راكباً فيله المسمى (محموداً) مع جيشه الجرار مخترقاً الجبال ومنحدرا إلى مكة، لكن الفيل أبى أن يتقدم، أما حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول، تعجب أبرهة من هذا وتحير.

وفي هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف وهي تحمل حجراً في منقارها وحجرين في رجلها، بحجم الحمصة، وألقوها على جيش أبرهة، فأكلتهم. وقيل: إن الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.

ساد الجيش ذعر عجيب، فهلك منه من هلك، وفر منه من استطاع الفرار، وصوب اليمن، وكانوا يتساقطون في الطريق. (أبرهة) أصيب بحجر، وجرح، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة. وقيل: إن مرض الحصبة والجدري شوهد لأول مرة في أرض العرب في تلك السنة. وقيل: إن أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه واسمه محمود. وقيل بل ثمانية أفيال، وقيل: عشرة، وقيل: اثني عشر.

وفي هذا العام ولد رسول الله (ص) حسب الراوية المشهورة، وقبل إن بين الحادثتين ارتباطا. على أي حال فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل وأصبح مبدأ تاريخ العرب.

المعجزة (للبيت رب يحميه)

القرآن الكريم يذكر هذه القصة الطويلة في عبارات قليلة قصيرة قارعة، وفي غاية الفصاحة والبلاغة، ويركز على نقاط تساعد على تحقيق الأهداف القرآنية المتمثلة في إيقاظ المتعنتين المغرورين وبيان ضعف الإنسان أمام قدرة الجبار المتعال.

هذه الحادثة تبين أن المعجزات والخوارق لا تستلزم -كما ظن بعض- وجود النبي والإمام، بل تظهر في كل ظرف يشاء الله فيه أن تظهر. والهدف منها إظهار عظمة الله سبحانه وحقانية دينه.

هذا العقاب العجيب يختلف عما نزل من عقاب على أمم أخرى مثل طوفان قوم نوح، وزلزال قوم لوط وإمطارهم بالحجارة، وصاعقة قوم ثمود، فهذه سلسلة حوادث طبيعية يتمثل إعجازها في حدوثها في تلك الظروف الخاصة.

أما قصة إبادة جيش أبرهة بحجارة من سجيل، ترميها طير أبابيل وليست كالحوادث الطبيعية. تحليق هذه الطيور الصغيرة، واتجاهها نحو ذلك الجيش الخاص ورميه بالحجارة التي تستطيع أن تهشم أجساد جيش ضخم .. كل تلك أمور خارقة للعادة. ولكنها -ما نعلم- ضئيلة جداً أمام قدرة الله تعالى. الله الذي خلق داخل هذه الحجارة قدرة ذرية لو تحررت لولدت انفجاراً هائلاً، لقادر على أن يجعل في هذه الحجارة خاصية تستطيع أن تحول جيش أبرهة عصف مأكول.

لسنا في حاجة لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المعاصرين في تفسير هلاك جيش أبرهة بمكروبات وباء الحصبة والجدري أو أن نقول إن هذه الحجارة كانت ذرات متكافئة أزيلت الفراغات بينها فأصبحت ثقيلة للغاية، وقادرة على أن تخترق الأجساد.

كل هذه تبريرات تستهدف إعطاء صفة طبيعية لهذه الحادثة. ولسنا بحاجة إليها. ولم يخبرنا القرآن بأكثر من ذلك، وليس الأمر بمعتذر أمام قدرة الله سبحانه وتعالى.

أشد الجزاء بأبسط وسيلة

يلاحظ أن هذه القصة تتضمن بيان قدرة الله أمام المستكبرين والطغاة على أفضل وجه .. ولعل العقاب الذي حل بأبرهة وجيشه لا يبلغه عقاب إذ على أثره تهشم جيش وتحول إلى عصف مأكول. ثم إن إبادة هذا الجيش الجرار بكل ما كان يمتلكه من قدرة وشوكة كانت بواسطة أحجار صغيرة وبواسطة طيور صغيرة كالخطاطيف. وفي هذا تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه.

وقد يوكل الله سبحانه أداء هذه المهام الكبرى لموجودات أصغر مثل الميكروبات التي لا ترى بالعين المجردة لتتكاثر وتتناسل في مدة وجيزة وتصيب أمماً قوية بالأوبئة المختلفة كالطاعون وتبيدهم خلال مدة قصيرة.

(سد مأرب) العظيم في اليمن كان وسيلة لعمران كبير ومدينة عظيمة وقوية لقوم سبأ، وحين طغى هؤلاء القوم، جاء أمر إبادتهم عن طريق فأر صحراوي أو عدد من الفئران فثقبت السد واتسع الثقب تدريجياً بالماء وتحطم السد العظيم، واكتسح الماء كل ما بناه القوم واغرق الأفراد أو شردهم إلى كل حدب وصوب متفرقين حيارى، وهذه من مظاهر قدرة الله سبحانه.

من جهة أخرى هذه الحادثة اقترنت بولادة رسول الله(ص) وكانت ممهدة للبعثة المباركة، وإرهاصاً من إرهاصات بزوغ فجر الإسلام.

والقصة من ناحية ثالثة تهديد لكل طغاة العالم، من قريش وغير قريش ليعلموا أنهم لا يستطيعون أبداً أن يقاوموا أمام قدرة الله تعالى فما أجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم ويخضعوا لأمر الله ويستسلموا بالحق والعدل.

ثم هي من جانب رابع تبين أهمية هذا البيت الكبير. الأعداء الذين استهدفوا هدم الكعبة، ونقل مركزية هذا الحرم الإبراهيمي إلى مكان آخر، قد واجهوا من العذاب ما أصبح عبرة للأجيال وما زاد من أهمية هذا المركز المقدس.

ومن جهة خامسة هذه الحادثة تؤكد مشيئة الله سبحانه في جعل هذا الحرم آمناً استجابة لدعوة إبراهيم الخليل (ع).

حادثة تاريخية قطعية

حادثة أصحاب الفيل كانت من الأهمية والشهرة بين العرب بحيث جعلوها مبدأ للتاريخ. والقرآن الكريم بدأ الحديث (ألم تر) مخاطباً نبيه (ص) الذي لم ير هذه الحادثة. وهي دلالة على قطعية وقوع الحادثة.

أضف إلى ذلك أن النبي -حين تلا هذه الآيات على المشركين- لم ينكر عليه أحد، ولو كان أمراً لاعترضوا عليه، ولسجل المؤرخون هذا الاعتراض كما سجلوا سائر الاعتراضات خاص.

المصدر:

قصص القرآن: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي


1- ونحن نذكرها استناداً إلى الروايات المعروفة في (سيرة ابن هشام) و(بلوغ الأرب) و(بحار الأنوار) و(مجمع البيان) بتلخيص.

2- ذكر القرآن قصة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج.