النبي لوط (عليه السلام)

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصراً لإبراهيم. وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى "يقال إنّه كان ابن أخت إبراهيم (ع)".

إن إبراهيم الخليل جاء إلى الشام بعد أن هاجر من العراق و"بابل" ويقال إنّ لوطاً كان يقطن معه إلاّ أنّه بعد فترة توجّه نحو "سدوم" ليدعو إلى التوحيد ويكافح الفساد.

و"سدوم" واحدة من مدن قوم لوط وأحيائهم التي كانت من بلاد الأردن على مقربة من البحر الميّت .. وكانت أرضها خصبة كثيرة الأشجار، إلاّ أنّ هذه الأرض بعد نزول العذاب الإلهي على هؤلاء الظالمين من قوم لوط قلب عاليها سافلها وتهدّمت مدنها وسمّين بالمؤتفكات "أي المقلوبات".

وذهب بعضهم أنّ آثار هذه المدن الخربة غرقت في الماء ويزعمون أنّهم رأوا في زاوية من البحر الميّت أعمدتها وآثارها وخرائبها الأخرى.

في حين أنّ بعضهم يعتقد أنّ مدن لوط لم تغرق بعدُ وما تزال على مقربة من البحر الميّت منطقة مغطّاة بالصخور السود ويحتمل أن تكون هي محلّ مدن قوم لوط!

وقيل إنّ مركز إبراهيم كان في مدينة "حبرون" على فاصلة غير بعيدة من "سدوم" وحين نزل العذاب والصاعقة من السماء أو الزلزلة في الأرض واحترقت "سدوم" كان إبراهيم واقفاً قريباً من حبرون وشاهد دخان تلك المنطقة المتصاعد في الفضاء بأُمّ عينيه!

ومن مجموع هذه الكلمات تتّضح الحدود التقريبية لهذه المدن وإن كانت جزئياتها ما تزال وراء ستار الإبهام باقية.

الانحرافات الأخلاقية

يقول القرآن أوّلاً في بيان قصّة هذا النبي العظيم وقومه: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ﴾(1).

ورود "المرسلين" بصيغة الجمع، إمّا لأنّ دعوة الأنبياء (ع) واحدة، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأيّ نبي قبل لوط واقعاً وحقيقة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾(2).

ولحن كلماته وقلبه المحترق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة "الأخ" لهم، ثمّ أضاف لوط قائلاً: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(3) فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن .. وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة الله إليكم أبداً .. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾(4) فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.

ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادّياً، كلاّ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(4).

ثمّ يتناول بنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية .. وحيث أنّ أهم نقطة في انحرافاتهم .. هي مسألة الانحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركزّ عليها وقال: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(5). فتختارون الذكور من بين الناس لإشباع شهواتكم!!

أي، إنّكم على الرغم ممّا خلق الله لكم من الجنس المخالف "النساء" حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلاّ أنّكم تركتم نعمة الله هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي.

ثمّ أضاف قائلاً: ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾(6).

فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الانحرافي الشنيع أبداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به.

إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم، ويمضي نحو الغذاء المسموم الملوّث المميت .. فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية .. بل هو التجاوز والطغيان!

عندما يكون الطّهر عيباً!

إنّ قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلاً من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنهم نهضوا لمواجهته و﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾(7).

 

إن كلامك يُبلبل أفكارنا، ويسلب اطمئناننا وهدوئنا، فنحن غير مستعدين حتى للإصغاء إلى كلامك .. وإذا واصلت هذا الأسلوب ولم تنته منه، فإنّ أقل ما تجزى به هو الإبعاد والإخراج من هذه الأرض.

إنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا أُناساً طاهرين من حيّهم فهّددوا لوطاً بهذا الأمر أيضاً، وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من الإبعاد والإخراج.

وقد صُرّح في بعض التفاسير أنّهم كانوا يُخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال .. يقول القرآن: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(8).

فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.

أجل .. إنّ الطهارة تعدّ عيباً ونقصاً في المحيط الموبوء، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا -لأنهم يتطهرون- خارج المدينة، وأن يبقى أمثال "زليخا" أحراراً أولي مقام .. كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.

ويحتمل في جملة ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أن قوم لوط لانحرافهم وغرقهم في الفساد، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والاستهزاء .. أي إنهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.

وليس هذا غريباً أن يتبدل إحساس الإنسان -نتيجة تطبعه بعمل قبيح- فيتغير سلوكه ونظرته .. فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة، إذ ورد أن رجلاً كان يدبغ الجلود المتعفنة دائماً، وتطبعت "شامّته" برائحة الجلود "العفنة" فمرّ ذات يوم في سوق العطارين، فاضطرب حاله وأُغمي عليه، لأنّ العطور لا تناسب "شامّته" فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لإنقاذه من الموت .. فهذا مثال حسيّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.

ثلاثون عاماً من المحاولة

إن لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلاّ أنّه لم يؤمن به إلاّ أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم.

إلاّ أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ﴾(9).

إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم .. فافعلوا ما شئتم .. فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالاعتراض والنقد!.

إن جماعة كانوا مثل النبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها .. رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر الأمر.

والذي يسترعي النظر أن لوطاً يقول: إنّي لعملكم من القالين. أي إنّني لا أعاديكم بأشخاصكم، بل أعادي أعمالكم المخزية، فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا محبّ لكم وغير قال لكم.

وأخيراً لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه، فبدّل الفساد مجتمعهم كلّه إلى مستنقع عفن .. وتمّت الحجة عليهم بمقدار كافٍ، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية .. فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة، وأن ينجّي من معه ممن استجاب دعوته، لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم، فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾(10).

وهذه هي عاقبة المنحرفين

لقد أستجيب دعاءُ لوط أخيراً، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم (ع) لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب، هي بشارتهم لإبراهيم (ع) بالولد: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ﴾(11).

توضيح ذلك .. إنّ إبراهيم بعد ما أبعد إلى الشام .. واصل دعوة الناس إلى الله ومواجهته لكلّ أنواع الشرك وعبادة الأصنام .. وقد عاصر إبراهيم الخليل "لوط" أحد الأنبياء العظام ويحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالّين، فسافر إلى بعض مناطق الشام "أي مدن سدوم" فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورّطهم في الانحراف الجنسي واللواط، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلاّ أنّهم مرّوا بإبراهيم قبل هلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهمّ، ولم يكن هدفهم الوحيد البشري بتولّد إسحاق، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمّة "البشارة". أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم "مأمورية" مهمّة.

القرآن الكريم يذكر أوّلاً قصّة مرورهم بإبراهيم (ع) فيقول: ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾(12).

والتعبير بـ هذه القرية" يدل على أن مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم (ع). والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع "إبراهيم" هذا النبأ حزن على لوط النبي العظيم و﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾(13).

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلاّ أنّهم أجابوه على الفور، ﴿قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾(14) فلا تحزن عليه، لأننا لا نحرق "الأخر واليابس" معاً، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً .. ثمّ أضافوا ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾.

أسرة مؤمنة فقط

ويستفاد من القرآن جيداً أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة، وقد نجاها الله من ذلك الحين أيضاً .. كما نقرأ ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(15) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين والمسلمين .. غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان -كل ذلك- دعاها إلى الانفصال!.

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة، ولا يبعد أن يكون هذا الإنحراف متأثراً بسبب محيطها .. وكانت بداية الأمر مؤمنة موحدة، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوط (ع) في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث، ما عدا لوطاً وأهله، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا، وتوجهوا إلى ديار لوط (ع) وقومه.

لوط يضيق ذرعاً بالضيوف

يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلاً .. أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾(16). إنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجئ بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّنة بالإنحراف الجنسي من جهة أخرى، كل ذلك أوجب له الهم .. ومرت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه ﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾.

وعلى كل حال، فإنّ لوطاً لم يجد بدّاً من أن يأتي بضيوفه إلى البيت ويقوم بواجب الضيافة ولكنّه حدّثهم في الطريق -عدة مرّات- أنّ هذه المدينة منحرفون وأشرار ليكونوا على حذر منهم.

إنّ الله سبحانه أمر ملائكته أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرّات، ومعنى ذلك أنّه حتى في تنفيذ حكم الله بالنسبة لقوم ظالمين لابدّ من تحقق موازين عادلة في المحاكمة، وقد سمع رسل الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرّات أثناء الطريق.

إنّ لوطاً أخرّ ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إلى أضيافه. ولكن ما عسى أن يفعل الإنسان إذا كان عدوه داخل بيته، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إلى بيتها، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلاً، ثمّ بإشعال النّار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في "الشِباك"(17).

أهل المدينة نحو بيت لوط

﴿وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾(18) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!

إن تعبير ﴿أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾ ليوحي إلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوط (ع) كانوا جمعاً كبيراً، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها، وخصوصاً قوله ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات، وإذا ما ابتلي به إنسان (والعياذ بالله) فإنّه سوف يحاول كتمه وإخفاءه، حيث أن الإتيان به مدعاة للتحقير والإزدراء من قبل الآخرين.. أمّا قوم لوط، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنئ الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم اغتم غمّاً شديداً لأجل ضيوفه، لأنه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب إلى ذلك الوقت ولهذا ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ﴾(19).

أي .. إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تصدقون بالنبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة. أيِّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإنسانية، فإنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم!

ثمّ أضاف قائلاً: ﴿وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ﴾(20) أمام ضيفي.

ولكنّهم من الوقاحة والإصرار على الإنحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطاً ويحاسبونه، وكأنّه ارتكب جرماً في استضافته لهؤلاء القوم ﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(21)، باستضافتهم! فلماذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة، وكانت مدينتهم على طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لا ينزل عندهم أحد من القوافل المارة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطاً كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفاً عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحداً مستقبلاً.

لو أنّ لي بكم قوّة

وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إن كنتم تريدون إشباع غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الإنحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج) ﴿قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾(22).

ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطاً الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم: إنني مستعد إلى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الإنحراف.

وليس نجافِ أنّ لوطاً ما كان ليزوج بناته من أولئك المشركين الضالين، ولكنّه أراد أن يقول لهم: تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.

لكنّ الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الإنحراف الغرور والعناد .. التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوط (ع)، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم، ولكنّ أنّى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إلى الضيوف.

ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطاً بكل وقاحة وعدم حياء و﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾(23).

وهنا وجد لوط هذا النبي العظيم نفسه محاصراً في هذه المحادثة المريرة فنادى و﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾(24) أو سند من العشيرة والأتباع والمعاهدين الأقوياء حتى أتغلب عليكم ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾.

 

لا تقلق يا لوط!

وأخيراً حين شاهد الملائكة ﴿رُسُلُ اللّهِ﴾(25) الأضياف ما عليه لوط من العذاب النفس كشفوا "ستاراً" عن أسرار عملهم و﴿قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ﴾(24).

نقرأ في سورة القمر ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾(25)، وهذه الآية تدل على أن هؤلاء الجماعة الذين أرادوا السوء بأضياف لوط، فقدوا بصرهم بإذن الله، فلم يستطيعوا الهجوم عليهم. ونقرأ في بعض الرّوايات -أيضاً- أنّ أحد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعاً.

وعلى كل حال، فاطلاع لوط (ع) على حال أضيافه ومأموريتهم نزل كالماء البارد على قلبه المحترق وأحسّ بلحظة واحدة أن نقلاً كبيراً من الغمّ والحسيرة قد أُزيل عن قلبه، وأشرقت عيناه بالسرور والبهجة، وعلم أنّ مرحلة الغم والحيرة أشرفت على الانتهاء، ودنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

ثمّ أمر الأضياف لوطاً -مباشرة- أن يرحل هو وأهله من هذه البلدة وقالوا: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ﴾(26).

ولكن كونوا على حذر ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ إلى الوراء ﴿إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ لتخلّفها عن أمر الله وعصيانهم مع العُصَاة الظَلَمة.

أليس الصبح بقريب

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله -أي الملائكة- للوط (ع) إنّ العذاب سينزل قومه صباحاً. ومع أوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾(27).

إنّ الملائكة حين وعدوا لوطاً بنزول العذاب صباحاً، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه ممّا ساءه، وجرح قلبه وملأه همّاً وغمّاً أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الإسراع، ولكن الملائكة طمأنوه وسرّوا عنه بقولهم: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾.

وأخيراً دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النبي (ع)، وكما يقول القرآن الكريم ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ﴾(28).

إنّ هذا المطر كان متتابعاً سريعاً إلى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون "منضودة".

ولا تتصوروا أنّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط، بل ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(29).

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم، لعبوا بمصير أُمتهم كما هزئوا بالإيمان والأخلاق الإنسانية، وكلّما نصحهم نبيّهم بإخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدّاً أنهم أرادوا الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.

هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شيء يجب أن تنقلب مدينتهم عليهم، ولا يكفي أن يغدو عليها سافلها، بل ليُمطروا بوابلٍ من الأحجار تدمّر كل شيء من "معالم الحياة" هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت ركام الأحجار الصغيرة.

وهل إنّ الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعاً لا. فكل جماعة منحرفة وأمّة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير، فتارة تكون تحت وابل الأحجار، وأخرى تحت ضربات القنابل المحرقة، وحيناً تحت ضغط الاختلافات الاجتماعية القاتلة، وأخيراً فإنَّ لكلٍّ شكلاً من العذاب وصورة معينة.

لِمَ كان العذاب صباحاً؟

لِمَ لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!

ترى هل كان ذلك لأنّ الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا إلى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم، فحينئذٍ فكر أُولئك بما حدث! وإنّ الله أمهلهم إلى الصباح لعلّهم ينتبهون ويتوبون؟

أو أنّ الله لم يرد الإغارة عليهم في الليل، ولذلك فقد أمر الملائكة أن ينتظروا حتى يحين الصباح؟! ما ذكرناه آنفاً احتمالات تستحق المطالعة.

لِمَ قلب الله عاليها سافلها؟

إن العذاب ينبغي أن يتناسب مع الإثم، وحيث أنّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الإنحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها أيضاً، وحيث كانوا دائماً يتقاذفون بكلمات البذيئة فيما بينهم، فإنّ الله أمطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم أيضاً.

وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة، أن جرّ الأفراد إلى مثل الإنحراف الجنسي له أسباب وعلل مختلفة، حتى من ضمنها أحياناً طريقة التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع أبنائهما، أو الغفلة عنهم وعدم ومراقبة من معهم من بني جنسهم، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معاً في بيت واحد، كل ذلك له أثره الفاعل في هذا التلوّث والإنحراف.

نحن نقرأ في أحوال قوم لوط أنّ سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب أنّهم كانوا قوماً بخلاء، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين، كانوا يوحون إليهم بداية الأمر أنّهم يريدون أن يعتدوا عليهم جنسياً ليفرّ منهم الضيوف والمسافرون، ولكنّ هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفاً عندهم ونما عندهم الإنحراف الجنسي وبلغ عملهم حدّاً أنّهم تلوّثوا بالآثام من قرنهم إلى قدمهم.

أخلاق قوم لوط

ونقرأ في الرّوايات أعمالاً سيئة كانت عند قوم لوط سوى الإنحراف الجنسي المشار إليه، ومن هذه الأعمال ما يلي: .. قيل كانت مجالسهم، تشتمل على أنواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على مرّ بهم، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات.

وواضح أنّ الإنحراف في مثل هذه البيئة وأعمال السوء تأخذ أبعاداً جديدة كل يوم، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة -أساساً- تبلغ الحال درجةً لا يُرى عندها أي عمل في نظر تلك البيئة سيئاً أو منكراً.

ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون نفس ذلك السبيل وقد تصل أعمال هؤلاء المخزية إلى درجة ننسى عندها أعمال قوم لوط.

امرأة لوط مَثَلٌ للكافرين

القرآن الكريم يقول: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾(30).

إنّ زوجة نوح كانت تدعى "والهة" وزوجة لوط "والعة" بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة).

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله، والخيانة هنا لا تعني الإنحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرّسول (ص): "ما بغت امرأة نبي قطّ".

كانت خيانة زوجة لوط أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (ع).


1- سورة الشعراء / 160.

2- سورة الشعراء / 161.

3- سورة الشعراء / 162.

4- سورة الشعراء / 163.

5- سورة الشعراء / 164.

6- سورة الشعراء / 165.

7- سورة الشعراء / 166.

8- سورة الشعراء / 167.

9- سورة النمل / 56.

10- سورة الشعراء / 168.

11- سورة هود / 71.

12- سورة العنكبوت / 31.

13- سورة العنكبوت / 32.

14- سورة العنكبوت / 32.

15- سورة الذاريات / 36.

16- سورة هود / 77.

17- الميزان ج10 / ص362.

18- سورة الحجر/ 67.

19- سورة الحجر/ 68.

20- سورة الحجر/ 69.

21- سورة الحجر/ 70.

22- سورة الحجر/ 71.

23- سورة الأنعام / 124.

24- سورة هود / 81.

25- سورة القمر / 37.

26- سورة هود / 81.

27- سورة هود / 81.

28- سورة هود / 82.

29- سورة هود / 83.

30- سورة التحريم / 10.