آيـة قصـر الصـلاة

من الايات التي وقعت موضع بحث وجدل من حيث دلالتها على المراد، هل المقصود بيان صلاة الخوف فقط ام يعم صلاة المسافر ايضا فما وجه دلالتها؟

 

ذهب المفسرون إلى تعميم دلالتها استنادا إلى فعل النبي (ع) والائمة وسائر المسلمين، منذ العهد الأول كانوا يقصرون من الصلاة استنادا إلى هذه الاية الكريمة، الواردة -بظاهرها- في صلاة الخوف فقط.

 

قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا / وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾(1).

 

ظاهر العبارة، ان جملة الشرط ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ قيد في الموضوع، يعني القصر في الصلاة عند الضرب في الارض مشروط بوجود الخوف ومن ثم جا شرح صلاة الخوف في الاية التالية لها.

 

والفتنة هنا: الشدة والمحنة والبلا، اي خوف ان يفجعوكم بالقتل والنهب والاسر، كما في قوله تعالى: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾(2)، وقوله: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ﴾(3)، و﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾(4) اي يفجعوك ببلية وشدة ومصيبة.

 

قال الطبرسي: ظاهر الاية يقتضى ان القصر لا يجوز الا عند الخوف لكنا قد علمنا جواز القصر عند الامن ببيان النبي (ع) ويحتمل ان يكون ذكر الخوف في الاية قد خرج مخرج الاعم الاغلب عليهم في اسفارهم، فانهم كانوا يخافون الاعدا في عامتها ومثلها في القرآن كثير(5).

 

قال المحقق الفيض: قيل: كانهم الفوا الاتمام وكان مظنة لان يخطر ببالهم ان عليهم نقصانا في التقصير، فرفع عنهم الجناح لتطيب نفوسهم بالقصر ويطمئنوا اليه(6).

 

وروى أبو جعفر الصدوق باسناده الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم، انهما قالا: قلنا للامام أبي جعفر الباقر(ع): ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي، وكم هي؟

 

فقال (ع): "ان اللّه عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ﴾(7) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا: قلنا: انما قال اللّه (عز وجل): ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟

 

فقال (ع): أوليس قد قال اللّه (عز وجل): ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾(8) الا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض، لان اللّه (عز وجل) ذكره في كتابه وصنعه نبيه (ع)، وكذلك التقصير في السفر شي صنعه رسول اللّه (ع) وذكره اللّه تعالى ذكره في كتابه. قالا: قلنا له: فمن صلى في السفر اربعا ايعيد ام لا؟.

 

قال (ع): ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له، فصلى اربعا اعاد، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلااعادة عليه والصلاة كلها في السفر، الفريضة ركعتان، كل صلاة، الا صلاة المغرب، فانها ثلاث ليس فيها تقصير، تركها رسول اللّه (ع) في السفر والحضر ثلاث ركعات وقد سافر رسول اللّه (ع) إلى ذي خشب(9) وهي مسيرة يوم من المدينة، يكون اليها بريدان: اربعة وعشرون ميلا، فقصر وافطر، فصارت سنة، وقد سمى رسول اللّه (ع) قوما صاموا حين افطر العصاة.

 

قال (ع): فهم العصاة إلى يوم القيامة، وانا لنعرف ابناهم وابنا ابنائهم إلى يومنا هذا"(10).

 

وهذا الحديث -على طوله- مشتمل على فوائد جمة:

 

أولا: عدم منافاة بين وجوب التقصير في السفر، وبين قوله تعالى في الاية الكريمة: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾، نظير نفي الجناح الوارد في السعي بين الصفا والمروة، فانه واجب بلا شك.

 

وانما جا هذا التعبير لدفع توهم الحظر، حيث شعر المسلمون بان التكليف هو التمام، كما في سائر العبادات، لاتختلف سفرا وحضرا، سوى الصوم والصلاة فدفعا لهذا الوهم نزلت الاية الكريمة.

 

ثانيا: ان الاية دلت على مشروعية القصر في السفر، وقد فعله رسول اللّه (ع) وفعله المسلمون، وكذلك الائمة بعده، ولم يتم احد منهم الصلاة في السفر فمقتضى قواعد علم الاصول، عدم جواز الاتمام، لان الصلاة عبادة، وهي توقيفية، ولم يعلم مشروعية التمام في السفر، لا من الايه ولا من فعل الرسول وصحابته الاخيار فمقتضى القاعدة عدم الجواز.

 

لان الشك دائر بين التعيين والتخيير، والشك في التكليف في مقام الامتثال، يقتضي الاخذ بالاحتياط، الذي هو القصر في الصلاة إذ يشك في مشروعية ما زاد على الركعتين، ولا تصح عبادة مع الشك في مشروعيتها.

 

ثالثا: ان الإمام (ع) لم يتعرض للخوف الذي جا شرطا في الاية، فكانه (ع) فهم انه موضوع آخر مستقل موضوع السفر وليس قيدا فيه فالخوف بذاته سبب مجوز للتقصير، كما ان السفر ايضا سبب، ولا ربط لاحدهما بالاخر.

 

فالاية وان كانت ظاهرة في القيد، وان احدهما قيد للاخر، لكن فعل الرسول (ع) واصحابه وسائر الائمة، دلنا على هذا التفصيل، وان كلا منهما موضوع مستقل لجواز القصر، وهكذا فهم الإمام (ع) وفهمه حجة علينا بالاضافة إلى عمل الرسول (ع).

 


1- سورة النساء/ 101-102.

2- سورة يونس / 83.

3- سورة المائدة / 49.

4- سورة الإسراء/ 73.

5- مجمع البيان ج3 / ص101.

6- تفسير الصافي ج1 / ص388-389.

7- سورة النساء/ 101.

8- سورة البقرة / 158.

9- قال ياقوت الحموي: بضم أوله وثانيه، واد على مسيرة ليلة من المدينة معجم البلدان ج2 / ص372.

10- من لا يحضره الفقيه ج1 / ص278-279 / رقم 1266.