تفسير قوله تعالى: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مرة اخرى:

وقد اتضح مما تقدم: أن قوله: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد قوله: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قد جاء في موقعه الطبيعي. فإنه تعالى إنما يرعى الإنسان ويربيه بصورة متوازنة، لا يهمل جهة فيه على حساب أخرى. فيرزقه حيث يحتاج إلى الرزق، ويشفيه حيث يحتاج إلى الشفاء، ويعمل قدرته في موضع القدرة ورحمته في موضع الرحمة والعلم والحكمة، وإلخ .. كل في موقعه.

وهذه هي أفضل رعاية، وأمثل تربية.يصل الإنسان من باب الرحمة إلى الربوبية، ومن الربوبية إلى صفات الألوهية.

وإنما دخلنا إلى الربوبية من باب الرحمة، لأن الرحمة -كما قلنا سابقاً- إنما هي نتيجة ملاحظة نقص أو ضعف، أو عجز لدى الآخرين، يدفع إلى التحرك باتجاه رفع هذا النقص، أو العجز أو الضعف. وهذا بالذات هو مورد التربية، التي هي الانتقال التدريجي لنا من حالة نقص أو ضعف أو عجز إلى حالة كمال وقوة أعلى منها وأتم.ويكون ذلك بدافع من رحمة وعطف نشأ عن مشاهدة ذلك الضعف والعجز.

فيصبح قوله تعالى: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، نتيجة طبيعية لقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ. أليست المرأة تهتم -عادة- بتربية طفلها، وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه، وتتحمل الأذى الكثير والكبير في سبيل ذلك؟

إن ذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب الشرعي أو القانوني الملح. بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه.

إذن، فمجرد الشعور بالنقص لدى الآخرين لا يكفي للتحريك باتجاه رفعه، إذ قد يلتذ البعض برؤية آلام الآخرين. بل لا بد من الانفعال الإيجابي تجاهه، وهو ما نسميه بالرحمة.

النقص حقيقي وأساسي:

فتشير كلمة ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إلى أن هذا النقص ليس بعد تحقق أصل الكمال، ليكون نقصاً لما هو زائد عن حد الكمال، كان ينبغي أن يضاف إليه. وإنما هو حاجة وضعف ونقص عن حد الكمال نفسه. وإلا، فلو كان الكمال حاصلاً، والنقص والضعف إنما هو في عدم نيل الزائد عنه فلا يبقى هذا المورد مصداقاً ومحلاً للرحمانية الشاملة، ولا للرحيمية الثابتة والراسخة والدائمة.

ثبات واستمرار الرحمة:

ولا بد من هذا الدوام والاستمرار للرحيمية بالنسبة لهذا الإنسان، لأن كل شيء إذا وصل إلى درجة كماله؛ فإنه قد يبقى ثابتاً عليها، إلا الإنسان، فإنه دائماً في معرض النقص بسبب أنه يملك غرائز وشهوات وطموحات قد تُزل قدمه، وتجره إلى المخاطر بل المهالك. فهو بحاجة إلى استمرار هذه الرعاية، ودوام إفاضة الألطاف عليه، حتى وهو في أقصى حالات كماله.

دوافع التربية والرعاية:

ثم إن هناك رعاية وتربية من موقع الأنانية الشخصية للمربي، حيث يرى أن ثمة نقصاً يعود إليه. وذلك مثل تربية الأولاد، فإنها قد تكون أحياناً بسبب أنانيتنا المهيمنة على مشاعرنا. ولكن رعاية الله سبحانه لنا، هي محض التفضل، ومحض الرحمة، ومحض الخير.

فاتضح من جميع ما تقدم أن ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ كانت هنا هي النهاية، كما كانت ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ هي البداية في آية ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وما أحوجنا لهذا الأمر، وما أشد غفلتنا عنه.