تفسير سورة العصر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْعَصْرِ (العصر/1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر/2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر/3)﴾

 

 

حديثنا يتناول سورة العصر المباركة التي لا تتجاوز آياتها السطر ونصف السطر، في القرآن ثلاث سور قصيرة، وهي سورة الكوثر، وسورة الأخلاص، وسورة العصر، وهذه لا تتجاوز آيات ثلاثاً، ولكنها سورة يمكن أن يكتب حولها مجلد ضخم، يعتمد ما سوف نبينه من أصول، هذه السورة واحدة من السور التي تبدأ بالقسم. والعصر قسم بالعصر. وهي تبدأ بآية تتألف من كلمتين: الواو و﴿الْعَصْرِ﴾.

 

لقد سبق أن تكلمنا كثيراً على القسم في القرآن، فلا حاجة إلى تكرار ما قلناه، سوى ما يقتصر على موضوعنا هنا، نجد القرآن يقسم أحياناً بالزمان، بأوقات مختلفة من الزمان، بالنهار، وبالليل وبالضحى إلى غير ذلك، قلنا فيما سبق إن لكل من هذه الأزمان حكمته وفلسفته الخاصة التي تكشف عن أهمية ذلك بالنسبة للإنسان، عن قيمة الفجر والضحى والليل والنهار في حياة الإنسان، قلنا إن الآية الأولى تتألف من كلمتين، الواو و﴿الْعَصْرِ﴾ الواو معروفة. والكلام على ﴿الْعَصْرِ﴾ فأي عصر هو المقصود؟ هنالك احتمالان من بين الاحتمالات المذكورة، وأحد هذين الاحتمالين يرد أكثر من الآخر. الاحتمال الأول هو هذه الفترة المعينة من النهار، وهي الربع الأخير من النهار، وهي الفترة التي تقابل الضحى عندما ترتفع الشمس كثيراً في السماء، يطلق على هذه الفترة اسم "الضحى?.ثم إذا أخذنا النصف الثاني من النهار بعد الظهر، وقسمناه إلى قسمين، يسمى القسم الثاني باسم "العصر".

 

والاحتمال الثاني لا يعتبر العصر كجزء من النهار، بل كجزء من التاريخ، كأن نقول (عصر الرسول) وهذا يعني فترة من التاريخ تشمل فترة دورة حياة الرسول، أو باعتبارات مختلفة أخرى، كأن تقوم كل مجموعة بتقسيم التاريخ إلى عصر العبودية، أو عصر الإقطاع، أو عصر الرأسمالية، أو قد يقسم بعضهم الآخر التاريخ إلى عصر حجري، وعصر الحديد، وعصر الذرة، وعصر الفضاء، الخ.

 

والحالة التي نحن بصددها هي عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي أقسم بعصر الرسول، لطالما قلنا إن الزمان من حيث كونه زماناً لا يختلف جزء منه عن جزء آخر. فالزمان امتداد واحد من الأزل إلى الأبد، ولا فرق بين أجزائه، ولكن الاختلاف يأتي من حيث وجهة نظر الإنسان إلى أي جزء من أجزاء الزمان، فالزمان من حيث ارتباطه بالإنسان، ومن حيث ارتباط الإنسان به، يتفاوت في الاختلاف، فثمة عصر هو عصر الإنسانية والتفتح، عصر الإنسان الكامل، فلهذا العصر مثلا، لون من القدسية.

 

فإذا أراد القرآن أن يبين أهمية ذاك العصر، يقسم به، فيقول:أقسم بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد يكون زمان ما، من هذا المنظور، أمّا لزمان آخر، أي إنه يؤثر في خلق زمان آخر، سواء أكان ذاك العصر سيئا أم رديئاً، أي قد يظهر عصر طيب، يكون خلال دورة التاريخ أُمّا، او أرضية للطيبة والخير على امتداد التاريخ.

 

أي إن الإنسان عندما ينظر إلى ذلك العصر، ويمعن النظر فيه، يرى أن كل ما كان في ذلك العصر يلهمه الخير، والطيبة، والسعادة، أو قد يكون على عكس ذلك تماما، أي قد يكون عصرا من العصور المظلمة في التاريخ، عصر ظلام وحلوكة آسنة قذرة، مع ذلك يكون أما لعصور سود سيئة، ﴿وَالْعَصْرِ﴾ قسم بذاك العصر النير، العصر المسخر للبشر، العصر المبارك الكثير الخير الذي بزغ على البشر، أي عصر يبلغ من حيث قدرته على استيلاد البركة شأو تلك السنوات الثلاث والعشرين من عصر الرسول. ذلك العصر الذي قسم به القرآن.

 

﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ سبق أن نوهنا مرارا وقلنا إن من أسس معرفة الإنسان، وأسس معرفة الإنسان التي يصدق بها القرآن، هو أن الإنسان يختلف اختلافا جوهريا وأصيلا عن كل الكائنات الحية وغير الحية، سواء أكانت دنيوية طبيعية أم مما وراء الطبيعة أو فوقها. وهذا الاختلاف هو أن الإنسان كائن يولد في هذه الدنيا بالقوة، لا بالفعل. فما معنى هذا؟ إذا نظرنا إلى الإنسان عند ولادته نجده كائنا كاملا من حيث أجهزته وأعضائه (أي إنه ولد مصنوعا) اذ أنه قبل أن يولد من أمه، يتكامل عنده جهاز البصر، وجهاز السمع، جهاز التنفس، وجهاز الدورة الدموية، ويداه، ورجلاه ويكمل كل هيكله، مثل السيارة التي تخرج من المصنع، إلا أن الإنسان بإنسانيته، لا بكمال أعضائه. إنه إنسان له شخصيته، وهذه الشخصية هي التي تبدأ بالتكون، أي إنها تشرع بالتكامل ابتداء من بدء صناعته. فالإنسان من حيث شخصيته أضعف الحيوانات.

 

قارن بين قطة حديثه الولادة وطفل حديث الولادة، ترى أن القطة متقدمة على الإنسان عمليا، أي من حيث الإدراك والفهم، ومن حيث تمكنها من العناية بنفسها، ولا يصدق هذا على القطة الصغيرة فحسب، وهي أضعف إدراكا من باقي الحيوانات، بل إنه أصدق على وليد البقر والحمار منه على وليد الإنسان ﴿.. وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (النساء/28)﴾ فالطفل عند ولادته يبدأ من الصفر من حيث الشخصية، ثم تأخذ شخصيته بالتخلق شيئا فشيئاً في أحضان أمه وأبيه وفي محيطه الاجتماعي، ويصل تدريجيا إلى مرحلة الرشد والبلوغ الفكري، وإلى مرحلة التمييز والاختيار، ثم يكون هو الذي يختار لنفسه طريقه، وهذا أهم من كل أمر.

 

من هنا نصل إلى أحد الفروق الأساس بين الإنسان وغير الإنسان. إذا ما تعرض المولود الذي يولد مصنوعا كاملا إلى الأذى، يكون ذلك من الخارج، فالحيوان يتعرض إلى الأذى إذا منع عن الطعام، أو اذا أتته ضربة من الخارجي كأن تقطع يده، أو رجله، أو يقتل، فعامل الخسران هنا من الخارج، وهو الذي تسبب في إيصال الضرر إلى الحيوان. إما الإنسان، وفي مرحلة ما قبل التأثر بالعامل الخارجي، وقبل أن تصل إليه آفة من الآفات، تكون خسارته الأولى في كونه لم يكتمل صنعه بعد. إن الإنسان هو المسؤول عن صنع شخصية، أي إنه إنسان بالقوة.

 

إن سنة الطبيعة هي التي صنعت من القطة قطة، ومن الكلب كلبا، أي إنها خلقته بصورة كلب، وكذلك الفأره خلقتها سنة الطبيعة فأرة، وهكذا وردة الشمعدان، وغيرها، إنما الإنسان هو وحده الذي اذا أراد أن يكون مصداقا لنوعه، فعليه أن يصنع نفسه أنسانا بنفسه، فإن لم يصنع، فقد مُني بأفدح الضرر، فما الذي يجعل الإنسان أنسانا؟ بم تكون إنسانية الإنسان؟ بالهيئة؟ إنها مشتركة بين الإنسان والحيوان.

 

فالإنسان ليس بالصورة الخارجية، ولذلك تجد الفرق أحيانا بين إنسان وإنسان ما بين السماء والأرض، خذ النبي وأبا جهل من حيث الهيئة الخارجية للمقارنة، فهل كان للنبي قلبان ولأبي جهل قلب واحد؟ كلا ليس بينهما من حيث الأعضاء فرق بالمرة. إلا أن موسى من حيث إنه موسى، وفرعون من حيث أنه فرعون، يختلفان. أي إن الفرق بين الشخصية الموسوية والشخصية الفرعونية مثل الفرق بين السماء والأرض. خذ أبا ذر ومعاوية وقارن بينهما. كان كلاهما إذا دخلا مجلسا لم يعرفهما أحد. فهل لو نظر أحد إلى جبين أبي ذر وجد اسمه منقوشا عليه؟ كلا، بل لعل الناس كانوا يخلطون بينهما، ولا يعرفون من منهما هذا ومن منهما ذاك. ولكن كان أبا ذر كأنه من طينة ومعاوية من طينة أخرى، وهذا اختلاف يتصل بالشخصية، وعليه فإن الإنسان هو المسؤول عن نفسه، عن صيرورته إنسانا، وعن بقائه إنسانا.

 

والإنسان يصنع نفسه بعمله، يكون إنسانا بنوع عمله، فثمة أعمال تبعد الإنسان عن الإنسانية، وأخرى تقربه منها، هذه الفكرة يطرحها القرآن قبل أربعة عشر قرنا طرحا كاملا، وقد شرحت ذلك في تفسير سورة المرسلات مفصلا، ولكن القرآن ينظر إلى إنسانية الإنسان من جانبين: جانب الإيمان وجانب العمل. والإيمان هو نفسه ركن وقاعدة. إن فلسفات هذا العصر لا تثمين الإيمان تثمينا ذاتيا ولا تثمينا أصيلا. صحيح إنها تقول بلزوم الفكر الجيد والإيمان الجيد، ولكنها ترجعهما إلى ذهنية الإنسان، وتقول إن قيمة الذهنية تكمن في مقدار حثها الإنسان على العمل، أي إن للتقويم مقدمة. كان هذا هو رأي بعضهم في صدر الإسلام، ومنهم الخوارج.

 

لاشك إن رأي القرآن مختلف، فمعرفة الله في القرآن لازمة بقطع النظر عما ينتج منها من عمل (وهي لا ريب منشأ كل عمل) فلو فرضنا إن معرفة الله منفصلة عن أي عمل، فإنها بحد ذاتها نصف الإنسانية، إن لم نقل كلها، الإيمان بالله، الإيمان بالأول، الإيمان بالمعاد، الإيمان بالآخرة، الإيمان بالوسط (الدنيا)، ترى ما دورها في العمل، وما الموضع الذي ينبغي أن نتخذه في هذه الدنيا؟ إن معرفة هذه الأمور في نظر القرآن تتلخص في القرآن بأن الإيمان والعمل لا يمكن الفصل بينهما. ألا ترى كم يرد في  القرآن.

 

﴿..آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ..(البقرة/25)﴾ إن آيات كهذه تتكرر بحيث إن المرء كلما قرأ ﴿آمَنُواْ﴾ انتظر أن يرى وراءها﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ ليس صحيحا القول بأن على الإنسان أن يكون ذا إيمان قوي ثابت، ولا يهم بعد هذا إن كان يعمل أولا يعمل. ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر/99)﴾ أي ثابر على عبادة الله إلى أن تبلغ مرحلة اليقين في الإيمان، فإذا بلغت هذه المرحلة، يبدأ الشيطان يوسوس لك قائلا: ما لك وللعمل وما نفعه لك؟ وفي إزاء هذه يوجد أناس (كالخوراج في صدر الإسلام) يعتقدون بضرورة العمل، بصرف النظر عن إيمانهم وعدم إيمانهم. ولهذا يقولون إنه إذا وجد في أي مكان من العالم أناس يعملون مثلما يعمل المسلمون، حتى وإن لم يكونوا يعرفون الله، وحتى لو لم يؤمنوا بالمعاد، فإنهم، بعملهم الصالح، يكونون قد وصلوا إلى ما كان الرسول يدعوهم إليه، ووصلوا إلى سعادة الدنيا والآخرة، ولا فرق بينهم وبين المسلمين، فما الإيمان إلا مقدمة! ولكن الإيمان ليس مقدمة البتة. لا الإيمان مقدمة ولا العمل. بل هما ركنا سعادة الإنسان.

 

أما وقد عرفنا إن الإنسان ليس كائناً كامل الصنع، وإن هذا هو أساس خسرانه، فأننا لا بد ان نعرف أيضا إنه إذا أراد إتقان صنعه لأمكنه ذلك بأمرين اثنين: الأول نظري والآخر عملي، الأول من نوع المعرفة، والثاني من الإيمان، الإيمان بالله، بالأنبياء، وبالملائكة، وبالرسل، والكتب، الإيمان باليوم الآخر، وبالامام القائد. وهذه كلها من أصول الدين. فأولاً معرفة هذه الأمور والاعتقاد بها، وإدراكها، وثانياً العمل، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر/2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر/3)﴾.

 

أذن فما هو العمل الصالح، وأي تعبير هذا؟ إن الفقهاء وعلماء الأصول مصطلحات، منها: العناوين الأولية والعناوين الثانوية، أي ما يذكرونه أحيانا بعنوانه الأصلي، مثلا الصلاة، وهو العنوان الذي يطلق على هذا العمل، أو الإحسان إلى الناس، وهو اسم لهذا العمل، ونقول الزكاة اسما لهذا العمل، او الإحسان إلى الناس، وهو اسم لهذا العمل، ونقول الزكاة اسما لهذا العمل، وهكذا الصوم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنفاق والصدق، والصداقة الخ.. ولكن الأعمال، كما تعلمون، تختلف باختلاف أحوال الفرد. فكيف؟ أي إن أمراً ما في لحظة ما يكون واجباً عليك، وفي لحظة أخرى يكون مستحباً، وفي لحظة ثالثة يكون المستحب نفسه مختلفا.

 

مثال: لنفرض إنك مدين إلى دائن، مدين ديناً شرعيا لدائن شرعي يصر على تسدسد دينه، قائلا إنه محتاج ولا بد لك من تسديد المبلغ، فتقول له: إنتظر حتى أقيم الصلاة، ثم أدفع لك المبلغ. فيقول: لا أنتظر. أعطني حقي ثم صلّ. أو لنفرض أنك وقفت تهم بالصلاة. وإذا بمريض في بيتك في حالة حرجة، فماذا تفعل، فيما إذا لم يكن وقت الصلاة قد فات؟ فهل الصلاة في هذين ا لظرفين عمل صالح؟ تكون الصلاة عملا صالحا إذا سددت دينك أولا ثم أقمت الصلاة، أما إذا أخذت تجادله وتقول له: هل أنت أصبحت أكبر من الله؟ إن الله أكبر منك، فهل تريدني أن أؤجل دين الله وأسدد دينك؟ كلا، أريد أن أصلي أولا. هذا خطأ، وإن صلاتك هذه ليست عملا صالحا، لأن وقتها لم يكن قد فات بعد. إذهب وسدد دينك ثم صلّ.

 

كذلك الأمر فيما يتعلق بالمريض. اذ عليك أن توصل المريض إلى الطبيب، ثم تقيم الصلاة. وهذا ما يطلق عليه اسم العنوان الثانوي، وهو يتغير بتغير أحوال الأفراد، أو بتغير الظروف الاجتماعية. إنني الآن قد اتخذت طريقي، سواء أكنت على صواب أم على خطأ، وسواء إذا وبخت أم لا، المقصود هو إنني سواء إذا كنت سليما ي تشخيصي أم لم أكن، على كل حال، فقد مشيت، وتعلمت هذه الكلمات المعدودة من العلوم الدينية، وأنت درست الطب، ولم يعد أمامنا كلينا، ونحن في هذه السن، مجال للعودة إلى البداية، لابدأ أنا بدراسة الطب، وتدرس أنت العلوم الدينية. إن مهنة الطب مهنة ضرورية للمجتمع. ووظيفة الأرشاد الديني أيضا وظيفة لازمة للمجتمع. ولكن ما هو واجبي اليوم؟

 

واجبي هو أداء ما أستطيع أداءه جيدا وما هو واجبك أنت؟ هو أداء ما تستطيع أن تؤدية على خير وجه. ولكن لنفرض أن أحدا درس وتخصص في الاقتصاد، مثلا، ولكنهم يجعلونه وزيراً للصحة، والذي درس الطب يعطونه وزارة الاقتصاد. هذا بالطبع مفيد في إرباك الأمور. إن العمل الصالح هو العمل الذي تستطيع أن تؤديه علي خير وجه، لا أن تعرفه جيدا، بل أن تؤديه جيدا، ولهذا يستعمل القرآن تعابيره الخاصة، مثل العمل الصالح،

 

وهو العمل اللائق، وللياقة بالطبع مفهوم نسبي، متغير، يختلف باختلاف الأزمنة، ويختلف باختلاف الأشخاص، فلنفرض أن عددا من الطلاب يريدون  الذهاب للدرس، فيخضعونهم إلى امتحان التقدير للتعرف على ميولهم واستعداداتهم، فمنهم من يميل إلى الآداب، ومنهم من يريد الرياضيات، وآخر الطبيعيات، والعمل الصالح هو أن يسلك الطالب ذلك المسلك الذي يجد إنه أكثر استعدادا لتقبله من غيره. فإذا قال الذي استعداده للرياضيات إنه يريد دراسة الأدب، فلا يكون هذا عملا صالحا. العمل الصالح هو أن تسير على وفق استعدادك.

 

وعلى ذلك فان آية ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ تبين إن على الإنسان ان يعمل، وإن عمله يجب أن يكون مناسبا، أي يجب أن يزن الظروف التي يعيش فيها، فيختار العمل الذي يكون أصلح للناس والمجتمع، وعليه، فان ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ تبين مسألة العمل، وفي الوقت نفسه تبين الواجب الملقى على عاتق الإنسان. أي ان المؤمنين عمال ويعرفون الواجب أيضا، فهم يدركون واجبهم وما يجب عليهم أن يعملوا في الظروف الآنية التي هم فيها، وكيف يجب أن يعملوا.

 

هكذا يكون الموضوع قد استبان، وهو: يا أيها الإنسان ليس خسرانك أن يصيبك ضرر من الخارج، فهذا يصيبك ويصيب غيرك من الكائنات، ولكن خسرانك يأتي قبل ذلك. إن خسرانك اليوم يكون فيما إذا لم تصطنع نفسك حسبما يقتضيك الإيمان والعمل، ولم تجعل من نفسك إنسانا واقعيا. فهل ينتهي الأمر عند هذا؟ كلا، ثمنه شيء آخر، وهو: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ هنا يقول القرآن: أيها الإنسان إنك لست كائنا فرديا، بل أنت كائن اجتماعي، فلا تظنن أنك قادر على حمل أثقالك بمفردك، أي إنك لن تستطيع أداء عملك الصالح وحدك. فإذا لم تكن الظروف الاجتماعية مواتيه، فإنه لا يقول: يستحيل القيام بعمل. صحيح إن العمل لن يكون سهلا وإن تعب المرء قد يصبح أضعافا مضاعفة، ولكنه لن يكون مستحيلا، كأن يحاول المرء أن يسبح بعكس تيار الماء. فإذا كان ماهراً في السباحة، فإنه يستطيع السباحة، ولكن ما مقدار هذه الاستطاعة؟ فقد يسبح عشرة أمتار، أو عشرين، أو مئة أو ألف متر! ثم تتقطع به الأنفاس، ويتعب.

 

كلا، فلنتعاون مع الآخرين، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (سبأ/46)﴾ أي إنني أنصحكم في جملة واحدة. قوموا في سبيل الله، اثنين اثنين، أو فردا فردا. أي إذا لم يعثر الإنسان على الثاني، فلا ييأس ويظن أن القيام لم يعد ممكنا. والقضية لا تقتصر على الاثنين فقط. كلا إبحث عن أفراد آخرين، وكونوا إثنين، أو ثلاثة، فإن لم يمكن فقم بالأمر منفرداً.

 

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ وتواصوا من الوصية، والوصية في اللغة تعني العهد والإيصاء، وتكون في حياة الرجل أو بعد مماته، فهي الوصية، أمير المؤمنين كثيرا ما يردد في نهج البلاغة "أوصيكم عباد الله..." أي أعهد إليكم أيها الناس، وأنصحكم، ولا يعني إنكم أوصيائي من بعدي، و﴿وَتَوَاصَوْا﴾ من أفعال المشاركة، من باب تفاعل، أي أن يقوم بالفعل طرفان يتبادلان الفعل. ففي العربية إذا قلنا (ضرب)، يكون هناك شخص ضارب، وشخص آخر (أو شيء آخر) مضروب. لكن بقولنا تضارب الرجلان، نعني إن كلا من الرجلين كان ضاربا ومضروبا، أي إن إحداهما ضرب الآخر وبالعكس.

 

و﴿َتَوَاصَوْا﴾ تعني التوصية المتقابلة. فما معنى التوصية المتقابلة؟ معناها  مراقبة الناس، كأن أراقبك دائما وألاحظ أعمالك، وألفت نظرك كلما لا حظت منك غفلة: انتبه! وكذلك تقولها أنت لي ولغيري، وهكذا يتبادل الناس التحذير والتنبيه، إن الأفراد أشبه ما يكونون بالجنود الذين يحاربون في ساحة واحدة؟ فيحسون لو أن أحدا من الأعداء انسل إلى صفوفهم، لأنزلوا به ضربة قاصمة.

 

إذن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ تقول: أيها الإنسان إنك في خسران ما لم تبن نفسك بالإيمان وبالعمل، لا منفردا، بل عليك أن تسعى لبناء الآخرين معك، ويكون كل منكم عونا للآخر، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ تعني إن المؤمنين يملك أحدهم الآخر، ليس للمنفعة المادية، بل كل منهم ظهير للآخر في سبيل الحق، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران/200)﴾ يا اهل الإيمان، جاهدوا وقاوموا، ﴿..وَصَابِرُواْ..﴾ من باب المفاعلة، أي فليكن لكم صبر متقابل، أي عليك أن تحمل صاحبك على الصبر، ويحملك صاحبك عليه، أو أن صبرك ينعكس فيه، وصبره فيك. ولعل هذا هو المقصود من ﴿تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فأنت تحمله على الصبر بقولك وفعلك، وهو كذلك يفعل.

 

﴿.. وَرَابِطُواْ..﴾ حسبما جاء في تفسير الميزان، يعني التواصل بالحق، أي: إيها المؤمنين فلتكن الروابط فيما بينكم متينة مستحكمة، لقد ظهر في هذا الزمان شيء اسمه الحزب، فما معنى الحزب؟ معناه انعقاد عهد مدرك بين الأفراد، ومعونة بعضهم بعضا، وتقسيم الواجبات فيما بينهم. والكلمة من لغة القرآن، ﴿.. أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (المجادلة/22)﴾ لقد ورد في القرآن اسم حزب الله في قبال حزب الشيطان، بالمعنى الواقعي ذاته، أي إبرام العهود، الارتباطات التي نعقدها مع بعض، والمسؤليات التي نقسمها فيما بيننا، حتى لا يكون العقد الذي يعقده بضعه جواسيس ممن يتزيّون بلباس الدين أقوى آصرة بحيث أنهم يدركون أنه لو وجد أحدهم في أقصى قرية من آذربايجان وكانت به حاجة إلى شيء في طهران لأوصلوها إليه، بينما لا نكون على علم بما يجري من حولنا، ولا نعلم شيئان عن أحوال جيراننا. هذا يخالف دستور القرآن الذي يقول ﴿.. وَرَابِطُواْ..﴾.

 

إن هذه المعاني وضعت في هذه السورة، مثل القسم بالعصر، العصر الذي يمكن أن يكون ولودا لعصور أخرى، العصر المشعشع الذي يلد عصورا مماثلة، ويصل إشعاعه إلى أزمنة أخرى، بحيث إن جلستنا هذه التي نتذاكر فيها تكون من بركات ذلك العصر ﴿وَالْعَصْرِ﴾ قسم بذاك العصر المشعشع المليء بالبركات، عصر رسول الله.

 

إن الإنسان ما دام لم يصنع نفسه بالإيمان والعمل الصالح، فإنه في خسران. ومن هنا يكون اختلاف الإنسان عن المخلوقات الأخرى، وهذا موضوع له ذيول كثيرة، كيف يُصنع الإنسان؟ أبالعمل وحده، أم بالإيمان وحده، أم بهما كليهما؟ هل العمل مفهوم مطلق، وهل هو نفسه في كل مكان؟ أم إنه يتبدل لحظة بلحظة؟ إن له قبل خمس دقائق صورة، وبعد خمس دقائق له صورة أخرى.

 

ههنا رجل يقع في حوض ويكاد يغرق، فهنا تحرم عليّ الصلاة. على أن أنقذه فورا. على الإنسان إذن أن يعرف واجبه، وأن يعرف ما هو العمل الصالح. يجب أن يميز بين المهم والأهم من الأمور. نعم، عليه أن يدرك أن الإنسان ليس فردا منفردا، بل كائن اجتماعي، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ عليه أن يعرف أنه لكي يثابر ويستمر، لا بد له من الصبر، ولا بد له من المقاومة، ولا بد له من أن يتحمل الكثير حتى تناله نصرة الله.

 

إنني أوصيكم بالحق دائما أرشدكم، وأنتم كذلك، إنه لمن الخطأ أن ننظر إلى الوعظ على أنه مجرد مهنة من المهن. ولا أعني بهذا أن الحاجة منتفية لها. إنما نحن نريد من ينصحنا ويرشدنا. وهذا لا يتطلب حتما أن يكون هذا الشخص قضى سنوات يدرس العربية، معمما يصعد المنبر، ثم يقول: أعوذ بالله من ا لشيطان الرجيم، ثم يبدأ بالوعظ والأرشاد! ليس الأمر هكذا. علينا جميعا أن نكون وعاظا ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وليرشد بعضكم بعضا إلى الحق.

 

الموضوع الآخر هو صعوبة المسألة وإدامتها، ففي الآية الأولى من سورة الملك المباركة نقرأ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الملك/1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك/2)﴾ يشرح أئمتنا هذه النقطة في القرآن قائلين: انظروا، لم يقل الله (أكثر عملا) بل قال ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. أي أن القرآن يعني بالكيف لا بالكم، فالكيفية بالدرجة الأولى. وهنا يضيف أئمتنا قائلين: البقاء على العمل أصعب من العمل. أي أن إدامة العمل أصعب من العمل نفسه، وذلك لأن المرء قد تنتابه رغبة مفاجئة، ويتشوق للقيام بعمل صالح، وتكون هذه الحالة عابرة، سرعان ما تخبو.

 

لقد طرق سمعي قبل فترة أن شخصا بعيدا عن خط الإسلام قد التقى رجلا صالحا، فاستطاع هذا أن يعود بالرجل إلى طريق الصلاح، وقد سمعنا أيضا أن هذا قد تقدم حثيثا في طريق الخير بحيث أننا رحنا نغبطه. ولكننا ما لبثنا حتى سمعنا بأنه قد رجع القهقهري رجوعا عجيبا، حتى أنني لم أصدق قولهم أنه قد ترك الصلاة.

علينا أن ينبنه بعضنا بعضا إلى عشرات الطريق. أننا نحتاج إلى الصبر، وإلى المقاومة. يقول القرآن إن المؤمنين السعداء لا يفتأون يتواصون: أخي، احذر أن ينفذ صبرك، وأن ينتابك الملل، عليك بالمثابرة، فما زالت في الطريق عثرات كثيرة.

 

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فبالإضافة إلى التوصية بالحق، يوصي القرآن بالصبر على الشدائد: البقاء على العمل أصعب من العمل، قد يخدع الشيطان الإنسان، يخدع نفسه الأمارة، فيثق المرء بنفسه، ويستبعد نكوصه، مع أن أناسا أرفع منا قد انخدعوا بذلك، وضلوا السبيل. وعليه فإن الإيمان والعمل الصالح، كما يقول المفسرون، يتضمنان التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لأنهما جزء من العمل الصالح، ولكن القرآن ينص تخصيصا، قائلا: أيها الإنسان، إنك كائن اجتماعي، فلا تظنن أنك قادر على أن تنهض بحملك وحدك، أو أن تعبر البحر بمفردك، بل عليك أن تضع يدك بيد الآخرين لتنجو، عليك أن تتعاون وأن تتحرك مع غيرك، ولا تنس أن الاستمرار في العمل أصعب من البدء به.

 

إن كلمات أمير المؤمنين عليه السلام عجيبة. يظن المرء، وهو يحارب تحت لواء النبي، أنه منتصر دون ريب، ولكننا إذا لم نمر بالاختبار فردا فردا، واذا لم نصبرن وإذا لم تبرز إرادتنا وقدرتنا على ضبط النفس، فإن الله لا يسبغ علينا نصره، ثم يصف الإمام كيف كانوا يناجزون المشركين، وكيف أنهم كانوا ثابتين ويقاومون مرة لنا ومرة لعدونا، فلما رأى الله منا الصبر أنزل علينا النصر" نقرأ في سورة السجدة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة/24)﴾.