تفسير سورة الانشراح

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ / وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ / الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ / وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ / فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا / إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا / فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ / وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾(1).

إن سورة الإنشراح المباركة، التي تخاطب شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، تتألف من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: تذكير وامتنان، تذكير بألطاف الله وعناياته بالرسول الكريم نفسه.

والقسم الثاني: نوع من التعلم، أي العناية وبيان علة من العلل.

والقسم الثالث: استنتاج النتيجة.

في سورة (الضحى) التي تأتي قبل سورة الإنشراح ثلاث آيات هي في سياق واحد مع الآيات الأربع لسورة الإنشراح. تلك الآيات الثلاث هي: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى / وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى / وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾(2)، أي تذكر ما تفضل به الله عليك من قبل. ثم تأتي الآيات: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ / وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ / وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾(3).

فكأن آية ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ معطوفة على ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ لذلك فإن بعض المفسرين من الشيعة والسنة، يدعون أن سورة الإنشراح وسورة الضحى سورة واحدة، لا سورتان منفصلتان. بل لقد ورد في بعض الروايات أنه في الصلاة الواجبة تجب قراءة سورة كاملة بعد سورة الفاتحة. أهل السنة لا يشترطون هذا الشرط، ويكتفون بجزء من سورة، حتى وإن كانت آية واحدة. ومن المألوف أن تشاهدوا أئمة صلاة الجماعة في المسجد الحرام أو في مسجد النبي، كثيرا ما يبدأون من منتصف إحدى السور، ويقرأون سبع آيات أو ثماني أو عشراً، وينتهون بها. أما في فقه الشيعة فتجب قراءة سورة كاملة بعد الفاتحة. لذلك يحتاط الفقهاء في قراءة سورة الإنشراح وحدها؛ أو سورة الضحى وحدها. إلاّ أن هذا لا يرتبط بالتفسير ارتباطاً كبيراً.

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، إنني أوكد كلمة الشرح لكي نعرف معنى (شرح الصدر). لقد وردت هذه الكلمة في القرآن في صور مختلفة. من ذلك إن القرآن يقول عن موسى بن عمران إنه عندما بعث وقيل له: إنك رسول الله، إذهب إلى فرعون .. كان أول طلب له من الله أن قال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي / وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي / وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي / يَفْقَهُوا قَوْلِي / وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي / وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي / كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾(4)، ونقرأ في مكان آخر: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(5).

كانت الآية الأولى تتعلق بشخص الرسول، وآية ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ طلب موسى. فموسى يطلب من ربه أن يشرح له صدره. فشرح الصدر لا يختص بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن موسى طلب الشيئ نفسه من الله، واستجاب له الله، فيكون واضحاً أن شرح الصدر ليس مما يقتصر على الأنبياء، فكل من اهتدى إلى الإسلام، وكل من أشرق نور الإسلام على قلبه، يكون قد شرح صدره في الوقع، فما هو شرح الصدر هذا؟

لا بد لنا أولاً أن نعرف معنى الصدر، ومعنى الشرح. كلمة الصدر، من حيث أصلها، تدل على التجويف الصدري، ولكن هل هذا هو المعنى المقصود في آية ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟ أو في آية ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾؟ أو في آية ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(6)؟ فهل يعني هذا إن عملاً مادياً يجري في الصدر؟ من البديهي إن الأمر ليس كذلك، بل هو القلب قد جيئ به هنا من باب الكناية لما يختص به القلب الحقيقي، وهو روح الإنسان نفسه. فالمقصود لا يعني أن الله يشرح قلب الإنسان، بصرف النظر عن معنى كلمة (شرح). إذن، فالصدر، مهما يكن، فالمقصود به شيئ روحي، شيئ معنوي، وليس شيئاً مادياً، جسمانياً.

والآن إلى معنى كلمة (شرح). يرى المفسرون عموماً أن (شرح الصدر) تعني "سعة الصدر". وهذا تعبير وارد في اللغة العربية، وقد ورد في الحديث: "آية الرياسة سعة الصدر"، فمن الواضح إن المقصود بسعة الصدر هو اتساعه وكبره، ولكن من الواضح هنا أيضاً إن القصد ليس القول بأن من كان صدره واسعاً كبير الحجم

يكون متسماً بسعة الصدر، أو إذا كان المرء نحيفاً صغير الجسم يكون محروماً من "آية الرياسة" سعة الصدر تعني كثير التحمل والصبر، فهي كناية عن قدرة المرء على التحمل والصبر. أي إذا أراد شخص أن يصبح رئيساً، كثير التعامل مع الناس، يدير شؤونهم، فعليه أن يكون واسع الصدر، قادراً على التحمل. فالشخص الذي لا يتسع صدره، السريع التأثر والتهيج، الثائر الأعصاب، لا يمكن أن يصبح مديراً ولا رئيساً، يدير جماعة من الناس، مهما يكن نوع هذه الإدارة، خذ مديراً لمدرسة، أو معلماً في الصف يدير التلاميذ، فإذا لم يتسم بسعة الصدر، لم يستطع إدارتهم. والرجل رب الأسرة إذا أراد أن يدير شؤون أسرته الداخلية، يلزمه أن يكون واسع الصدر. وكلما كان مجال إدارة الرجل أوسع، تطلب منه ذلك صدراً أوسع، وحلماً أكبر. وهذا هو على وجه العموم المعنى الذي يفسر به المفسرون هذه الكلمة، إذ يقولون إن الله قد منَّ بها على الرسول الكريم، فهو يذكره بهذه النعمة، نعمة الصبر الوافر، نعمة سعة الصدر، ولكن يبدو أن بين "شرح الصدر" و"سعة الصدر" بعض اختلاف، فحيثما يكون "شرح الصدر" تكون "سعة الصدر". ولكن ما كل "سعة صدر" تشمل.

"شرح الصدر" لم يكن القرآن قاصراً عن قول (ألم نوسع لك صدرك)، ولكنه لم يقل، بل قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ فما معنى الشرح؟ إنه هو هذا المعنى الدارج الآن، فقد يؤلف شخص ما كتاباً شديد التلخيص، بحيث لا يتمكن القارئ من إدراك كل الجزئيات التي يقصدها المؤلف، فينبري شخص آخر لشرح هذا الكتاب، كما لو كان يفتحه ويوسع ما بين معانيه، حتى إنه قد يشرح السطر الواحد في صفحة كاملة. وهذا عمل المتضلعين المتعمقين.

ألّف الخواجه نصير الدين الطوسي كتاباً بعنوان "تجريد الاعتقاد" يبحث في علم الكلام، ويتألف من قسمين: "تجريد المنطق" و"تجريد الاعتقاد"، والمؤلف رجل ضليع في نظريات علماء الكلام من جهة، وضليع كذلك في النظريات الفلسفية من جهة أخرى، وفضلا عن تمكنه من هذين الموضوعين فإن له نظرته الخاصة أيضاً. يتناول المؤلف في كتابه هذا أمهات القضايا الفلسفية وقضايا الكلام، في عبارات مختصرة وجمل موجزة.

ثم جاء بعده تلميذه، العلامة الحلي، الذي لا يقل عنه نبوغاً -وإن كان هذا أقرب إلى الفقه من اقتراب أستاذه إلى الفلسفة والرياضيات والعلوم الأخرى -فشرح كتاب أستاذه تحت عنوان "كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد"، وهو لم يسهب كثيراً في الشرح، إلا أنه ألقى الضوء لأول مرة على مضامين الكتاب، فقد كان العلامة الحلي من العرب، والطوسي من الإيرانيين.

ثم جاء أناس كثيرون بعد ذلك حتى اليوم، بعد أن مضى على تأليف "تجريد الإعتقاد" أكثر من سبعة قرون، وعلى الأخص إلى ما قبل ثلاثة قرون أو أربعة؛ أي قبل مجيئ مير داماد وملاّ صدرا، فحاولوا جمع ما تناثر من أفكار الخواجة الطوسي، وكتبوا له الشروح العديدة، والحواشي على الحواشي بحيث أننا قلما نجد كتاباً في دنيا الإسلام أثير حوله هذا القدر من الكلام. فكلما ظهر عالم أخذ يبحث في هذا الكتاب، ولعل عدد الذين كتبوا له الشروح والتعليقات والحواشي يبلغ المئة. كان هؤلاء يقولون إنه لولا قيام هذا العربي الشيعي "ويقصدون العلامة الحلي" بشرح كتاب "تجريد الاعتقاد"، بعد أن شرحه علماء السنة أيضاً، لما عرفنا إلى أين تقصد القافلة بنا، ويطلق على هذا العمل كله إسم الشرح.

وأحياناً نرى بيتاً من الشعر يستغرق كتاباً لشرحه، ولكن لا كل الشعر، إذ ليس كل شاعر قادراً على قول بيت من الشعر يحتاج لشرحه إلى كتاب، إلا أن أمثال هؤلاء الشعراء موجودون، مثل مولوي وحافظ، فهؤلاء أناس واسعوا الاطلاع متمكنون من آداب زمانهم، يجمعون في أيديهم زمام القول والبيان. خذوا حافظاً مثلا. لكَم لاحظتم أن العديد من العلماء الأعلام بحثوا في بيت واحد من شعره، وكتبوا المقالات الطوال يشرحونه بها. كذلك كتبت فصول حول بعض أشعار مولوي، ونشرت بحوث عنها، يشرحون فيها مقاصد الشاعر.

حيرت اَنْدَر حِيرت آمد در قِصَصْ ** بيهوشي خاصكان اندر أخص

عقل اول راند بر عقل دُوُمْ ** ماهي از كُندِه كردد، ني زدم

أو ربما قيل "ماهي از سر كندِه كردد، ني زدم"، فأيهما الصحيح؟ ثم ماهو المقصود؟ هذا كله شرح. إن القضية، لغوياً، تشبه عمل الجزار حين تناوله قطعة لحم ليشرّحها، وإذا به يُعمل سكينة فيها تقطيعاً وتشريحاً، ويجعل منها شرائح خفيفة، بحيث أنها تكاد تكفي لتغطية أرض الغرفة، أي أخذ شيئ مشدود ومضغوط ومتراص، لكي نفتحه ونشرحه.

إن مسألة (شرح الصدر) مسألة روحية ونفسية؛ وما من شيئ في العالم أحوج إلى الشرح من روح الإنسان (أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) فخطاب الله إلى رسوله بأنه قد شرح له صدره لا يعني إنّه وسّعه.

نحن نقول إن الدار صغيرة، ومساحتها 100 متر، ثم نشترى مئة متر أخرى تضيفها إليها، ونقول إنك قد وسعت دارك. على كل حال، حيثما وجد الشرح وجدت التوسعة أيضاً، و لا يلزم أن يكون الشرح حيثما تكون التوسعة. فهو لا يريد أن يقول إننا وهبنا روحك سعة الصدر، بمثلما يوسع المرء داره، أو أننا زدنا في سعة هذا الأناء، إنما القول يدور على أننا فتحنا هذا الإناء الكبير جداً بعضه عن بعض، فتحنا لك صفحات كتاب الروح المتراصة بعضها فوق بعض. و لكن هل في شرح الصدر سعادة للانسان أم لا؟ لذلك تقول الآية: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(7)، أي إذا أراد الله أن يهدي امرءاً فانه يفتح صدره للاسلام، لحقائق الاسلام، وفي الحقيقة إن الآية ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ تعني "ألم نشرح لك صدرك للتوحيد" و"ألم نشرح لك صدرك للاسلام"، إذ ربما يكون صدر أحدهم قد فتح للكفر، وقد تجد إنساناً جاهلاً لم يشرح صدره لا للإسلام ولا لغير الإسلام، ولا للكفر. الويل لمن يشرح صدره، ويثار فيه نوع من الغليان الروحي والمعنوي، للكفر.

أو أهل يمكن أن تكون للمرء سعة صدر في الكفر؟ أجل يمكن. أي أن رأس المال هذا يمكن أن يستثمر في هذا الاتجاه. لقد قرأت في إحدى الصحف أن تيمور تاش قال إنه قد أخبر الميرزا طاهر تنكابني بأنه قد وجد سبعين دليلاً على عدم وجود الله! وأن الميرزا قد أجابه بأنه أيضاً لديه دليل واحد على عدم وجوده، في الوقت الحاضر. فقال له: قل ما هو دليلك؟ فقال: دليلي هو أنك ما تزال موجوداً. فلو كان الله موجوداً لصفي حسابه معك. ولكن لم يمض وقت طويل حتى سقط هذا الرجل وسجن، وانقطع رجاؤه في كل شيئ.

لاحظوا هؤلاء الذين يقولون أن لديهم الدليل، إنما الذي لديهم كله غرور! هذا الشخص نفسه كان متزوجاً من افرنجية، فكان يسمح لها بالحضور. ثم وصل به الأمر إلى أن يقول لها إن في جنوب المدينة رجلاً يكتب الأدعية، فاذهبي اليه وأتيني منه بأحد الأدعية. هذا هو نفسه الذي كان يقول إن لديه سبعين دليلاً على عدم وجود الله، و لكنه أخذ فيما بعد يبحث عمن يكتب له الدعوات. هذا شرح الصدر للكفر.

والفخر الرازي، أنا بالطبع لا أريد ان أتجاسر فأضعه في مصاف أشخاص من هذا القبيل، ولكنه مع ذلك لم يكن من رجال الحقيقة حقاً. من ذلك مثلا إنه قد قام بالشرح أيضا، و أي شرح! فهو عندما يتناول موضوعاً، مهما يكن، في علم الكلام، أو الفلسفة، أو التفسير؛ يأخذ بتفكيكه. ففي التفسير، قام بتفسير إحدى الآيات، وذكر أن لهذه الآية عشرين وجهاً، وراح يسردها واحداً فواحداً، الأمر الذي لم يخطر حتى للجن. ثم هو عندما يصل إلى مرحلة الاختيار، يكون كمن جاءته ضربة من الله، إذ أنه يورد نظريات تضحك الثكلى.

إن هذا الشخص قد شرح صدره، ولكنه لم يكن مصحوباً بهداية من الله، ولم يكن "على نور من ربهـ. إن الإنسان العادي لقادر على أن يرى الحقيقة من الوهلة الأولى، بغير أن يجول بنظره فيما حوله. ولكن هذا وجد نفسه في مفترق أربعين طريقاً، فأخذ يذهب هنا،

ويذهب هناك، ولكنه في النهاية لم يمش في الطريق الذي ينبغي له، بل دخل متاهة مضلّة، وليس كذاك الذي ذهب إلى نجم الدين كبرى، وكان من الفضلاء، وقال له إنه يحس أن ما عنده ليس من العلم في شيئ، إنه تخيل وأفكار "إن قدرتي على التخيل كبيرة. أحس أنني لم أصل إلى الحقيقة".

ولهذا الرجل شعر كثير في ذلك. ثم طلب من نجم الدين، قائلا: "أريدك أن تفعل شيئاً من أجلي، أن تصحح ما عندي، أن تعطيني حقيقة جديدة" فقال له نجم الدين: "سأفعل، ولكن على شرط واحد، وهو أن تزيح عن صدرك هذه الأصنام، وأن تنساها" فقال: "رضيت"، فقال له نجم الدين: "أواثق أنت من نفسك؟" فقال: نعم. أستطيع ذلك" ولكنه عندما جد الجد قال: لا طاقة لي على ذلك. ولهذا نقرأ في القرآن هذه الآية: ﴿وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(8) وعليه، فإن شرح الصدر غير سعة الصدر. شرح الصدر هو إن الله يفتح روح الإنسان المتضامّة على بعضها، ويلقي بنوره فيها. وهذا هوشرح الصدر للإسلام، وهو شرح صدر إلهي، حتى أنه أجرى على لسان شخص أمي أجلَّ الحكم وأعظمها: "من أخلصَ لله أربعينَ صباحاً جرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". فقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ يعني: ألم نفتح لك قلبك حتى فاضت منه الحكمة والحقيقة والعلوم؟ يقول بعضهم إن لرسول الله حديثاً قال فيه إنه طلب من الله شيئاً ثم ندم عليه بعد ذلك، وتمنى لو لم يطلبه. وكان الطلب يتعلق ببعض ما وهب الله لأنبيائه السابقين، وبتلك التي وهبها له، فنزلت هذه السورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ وهذا في الحقيقة بيان لنعمة شرح الصدر وانفتاحه، فيفوز فيه العلم والحكمة.

﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾(9) أي أننا رفعنا عنك الحمل الذي يثقل عليك. وهذه نعمة الله الثانية. فما هو الحمل الثقيل هذا؟ إذا ما وضعنا سورة الإنشراح إلى جانب تلك الآيات التي خاطب بها موسى ربه نجد أنها تصدق بعضها بعضا. لقد قال موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾(10) و﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾(11) أي اجعل مهمتي سهلة. فما هي مهمة موسى؟ مهمته الدعوة، دعوة الناس وهدايتهم، وهي مهمة صعبة، ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي / وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي / يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾(12) أي اجعل كلامي يسيراً، يفهم الناس منه قصدي، أي إنهم إذا فهموني وأدركوا ماذا أقول وإلى أين أريد أن أقودهم، فهذا يكفي.

﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾(13) فما معنى الوزير؟ لقد استعملت هذه الكلمة مع الملوك استعمالاً كثيراً جعل معناها يقتصر على السائر خلف الملك والممتثل لأوامره. إلا أن معنى الكلمة غير ذلك. إن معناها المعين، أي الذي يعين غيره على رفع حمل ثقيل. أنتم أيضاً لو أتيتم في محل عملكم بمن يساعدكم على تخفيف أعباء العمل عن كواهلكم، يكون هذا وزيراً لكم. وهذا هو المعنى نفسه الذي وصف به الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً عليه السلام باعتباره وزيراً له، أي إنه يساعده في حمل العبء الثقيل، ولذلك قال في حقه: "علي وزيري، ووَصيي، وَقاضي ديني"، كلمة "الوزير" مأخوذة من "الوزر"، والوزر هو الحمل الثقيل، والزير هو الذي يساعد على رفع الحمل الثقيل.

والوزر، باعتبارها تعني الحمل الثقيل، تستعمل للدلالة على الإثم أيضاً، لأن الإثم كالحمل الثقيل على الإنسان. ولقد سبق أن قلنا مرارا إن من صفات الإثم أنه يثقل روح الإنسان، أي إنه يستفرغ قوة الإنسان وطاقته، فإذا مشى فكأنه يحمل ثقلاً على كاهله، بخلاف طاعة الله، فهذه تمنح القوة، ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(14).

إن من مميزات عمل الخير أنه يمنح القوة، فالذي يفعل الخير يحس كأنه قد تغذى تغذية جيدة، أو أنه قد زرقت فيه عقاقير مقوية. أما في حالة ارتكابه الإثم، فيحس كأن حملا يثقل كاهله، ويشعر بالرهق حتى في السير العادي، فإذا أطلقت كلمة "وزر" على الإثم، فذاك لأن الإثم حمل ثقيل، الحمل الثقيل الذي كان بعهدته، رسالته إلى الناس، ودعوتهم، وهدايتهم. إذا أراد أحد أن يهدي الناس حقاً، فليس أثقل منه من عبء، فإذا قال الله للرسول: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾(15) بعليّ، فذلك هو الحق الواقع. أي إننا خففنا عنك هذا العبء بهذا الرجل الذي هو منك بمنزلة هارون من موسى، فبه رفعنا عنك الحمل. أو لم يقل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى". وهذا من الأحاديث المتواترة عن الشيعة والسنة.

فقد روي أن النبي كان يصحب علياً في كل حرب يخوضها ضد المشركين، ولكنه عندما عزم على التوجه إلى حرب تبوك، لم يأخذ علياً معه، وذلك لأنها لم تكن حرباً فعلية، بل كانت حرباً استعراضية، لإظهار قوة المسلمين وشوكتهم أمام شمال جزيرة العرب في سورية. فذهبوا وعادوا، وكان النبي قد أبقى علياً بمكانه في المدينة، فأظهر علي إنه كان يفضل لو ذهب معه، فقال الرسول: "يا علي ألا تحب أن تكون خليفتي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى" باختلاف واحد، هو "ألا أنه لا نبي بعدي". وهذا يعني إن هارون كان نبياً، إذ أنه كان بمقدوره أن يكون نبياً بعد موسى. ولكنك لا تكون نبياً لأنه لا نبي بعدي، فكل ما بيني وبينك من روابط هي ما كانت بين موسى وهارون. فعليّ وزير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

عندما أعلن النبي دعوته كان الأمر صعباً، ثم بعد ذلك، في المدينة، عندما أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، خف الأمر، وأزيح الثقل عن كاهل الرسول. كانت مهمته قد انتهت، ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾(16)، أي ذلك الحمل الذي أخرج الأصوات من عظام ظهرك بمثلها يضع امرؤ ثقلاً على سقف خشبي، فيصدر الصوت من الخشب حتى يكاد ينكسر. يريد الله أن يقول ان الحمل كان من الثقل بحيث إن عظام ظهرك أخذت تفرقع، فأزحنا عنك هذا الثقل، وكنت موفقا.

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾(17)، لقد أنزلنا حملك، ولكننا رفعنا اسمك، وجعلنا صوتك يعلو، وقرنّا اسمك باسم الله، فعندما ينادي المنادي: أشهد ألاّ إله إلاّ الله، يتلوه مباشرة: أشهد أن محمد رسول الله، إلى هنا تتناول الآيات النعم الالهية، ثم يبينها بصورة فلسفية. الى هذا الحد كانت الآيات شخصية: كنت كذا، و فعلنا كذا. ثم يضع الموضوع في صيغة فلسفية، ليصل منها الى النتيجة.

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا / إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾(18) المعنى الكلي هو أن الصعوبة تأتي ومعها السهولة، والسهولة في الصعوبه. وتشير الآيتان إلى مهمة النبي: كم كانت صعبة في البداية، وكم كان حملك ثقيلا حتى فرقعت عظام ظهرك. وكان العدو يسعى لأن يمحو اسمك محواً، فصار العكس. هذا هو قانون الله.

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ مع الصعوبة سهولة، وإن الصعوبة تليها السهولة، نهاية ظلام الليل صباح أبيض، ولكن ماذا يعبر القرآن عن ذلك بقوله إن الصعوبة مع السهولة؟ المقصود هو القول أن ليس هناك تعاقب، أي ليس هناك أمر صعب، ثم يعقبه أمر سهل بالتناوب، ليس الأمر كذلك، بل إن السهولة وليدة الصعوبة، والصعوبة أم السهولة، أي إنكم إذا أردتم بلوغ اليسر والرفاه، والسعادة، فلا يتاح لكم ذلك ما لم تعبروا طريق الشدائد. إنه لتعبير عجيب، وهي كلية عجيبة. فعلى الرغم من أن البداية تخص شخص الرسول، والنعم التي أنعم الله بها عليه، شرح صدره، ورفع عنه الثقل، ورفع اسمه، ولكن على أي قانون؟ أعمال الله كلها تجري على وفق القوانين والسنن، فما هذه القوانين والسنن؟

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا / إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ هذا هو القانون. ونقرأ في سورة السجدة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾(19)، أي إننا عيّنا منهم قادة يرشدون الناس بأمرنا. لماذا؟ لأنهم صبروا في الشدائد، وآمنوا بآياتنا. الإيمان مع العمل في الشدائد.

وقد ورد هذا أيضاً في آيات أخرى مثل سورة آل عمران: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ / وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ / فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾(20)، أي: كم في طول التاريخ من أناس إلهيين، يعبدون الله، وكم من أنبياء قاتل أولئك معهم في سبيل الله ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ أي كم تحملوا من الشدائد، ولكنهم لم يستول عليهم الوهن ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾ وظلت معنوياتهم عالية، ﴿وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾ لم يظهروا الجزع والخضوع والذل، ولم تتحطم نفوسهم، ولم يتزلزل إيمانهم، بل لجأوا إلى الله، واستعانوا به، ولم يقولوا شيئاً سوى الطلب من الله أن يملأهم صبراً واستقامة في سبيله، وأن ينصرهم على الكفار. ولذلك، ولما تحملوا من المحن ﴿فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ في إحدى خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة، يلوم أصحابه على أن الناس أخذت تظهر عليهم حالة من الكسل والتهاون.

ولكننا نحن أصحاب عليّ، ونحن أعوانه، أو ليس علي صهر الرسول؟ أو ليس وصيه؟ أو ليس خليفته بالحق؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلابد أن ننتصر على جيش معاوية. نعم، ما دمنا من أتباع علي، وجب أن ننتصر على جيش معاوية، ولكن عليّاً كان يقول: ليس الأمر كذلك إذ ليس من سنة الله أننا بايعنا عليّاً حتى وجب أن ننتصر، وذلك لأننا، على الرغم من أننا بايعنا محمداً وآمنا به، فإن الله لم يمن علينا بالنصر بهذه السهولة: "لقدكنا مع رسول الله نقتل آباءنا وأعمامنا إذا وقف في طريقنا أحد منهم. ولكن تحملنا المشاق والشدائد، ولكم صادف أن قابلنا العدو وجهاً لوجه في ميادين الحرب، فتصارعنا كبعيرين، فنغلب حيناً، ونُغلب حيناً. فلم يكن الأمر كما تظنون، بأننا لكوننا نسير في ركاب الرسول، ما أن نجرد سيوفنا حتى يفني الأعداء جميعاً. ولكننا خرجنا من بوتقة الإمتحان بنية صادقة.

ويضيف الإمام عليّ قائلاً: لقد ظهرت نيتنا الصادقة في أعمالنا، لا في الإدلاء بالشهادتين. وعندئذٍ أيدنا الله بنصر من عنده. وهذا هو معنى الآية ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا / إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾(21) فيا أيها الرسول لقد عانيت كثيراً، وها هي ثمرات العناء.

ثم نأتي إلى أمر عجيب آخر ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾(22)، هل يعني هذا أنك بعد أن فرغت من ذلك،ورفع الثقل عن كاهلك، اذهب ونم مستريحا؟ لئن فعلت ذلك، فأنت قد جلبت على نفسك سوء الحظ، إذ أن سوء الحظ يأتي من التعود على النوم الاستراحة والرفاهية، وما من أمر أشد عداءً للإنسان من الرفاهية. ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ إذا فرغت من كل ذلك، فالقِ بنفسك في التعب والنصب، ابحث عن الشدائد، ولا تعوِّد نفسك على الراحة.

لنفرض أن رجل الله لم يجد أمامه من المشاكل الاجتماعية ما يشتغل بها، فهل زالت عنه شدائد العبادة؟ عندما لم يكن للنبي من المشاكل الاجتماعية ما يشغله، فهل زالت يقضي الليل في النوم حتى الصباح؟ كلا. ما كان ليستريح. ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ إلقِ بنفسك في المتاعب الحقة، ولا تركن إلى الراحة فهي عدو الإنسان، ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ / وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾(23).


1- سورة الشرح / 1-8.

2- سورة الضحى / 6-8.

3- سورة الضحى / 9-11.

4- سورة طه / 25-33.

5- سورة الأنعام / 125.

6- سورة الأنعام / 125.

7- سورة الأنعام / 125.

8- سورة النحل / 106.

9- سورة الشرح / 2.

10- سورة طه / 25.

11- سورة طه / 26.

12- سورة طه / 26-27.

13- سورة طه / 29-31

14- سورة البقرة / 45.

15- سورة الشرح / 2.

16- سورة الشرح / 3.

17- سورة الشرح / 4.

18- سورة الشرح / 5-6

19- سورة السجدة / 24.

20- سورة آل عمران / 146-148

21- سورة الشرح / 5-6.

22- سورة الشرح / 7.

23- سورة الشرح / 7-8.