تفسير سورة الزلزلة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا / وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا / وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا / يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا / بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا / يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ / فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(1).

سورة الزلزال من السور المكية القصيرة التي تتناول يوم القيامة، وهي من السور المثيرة والمؤثرة، وتعد من مجالات بروز إعجاز القرآن، لما فيها من روعة اللحن، والجمال، وقوة النفوذ إلى النفوس.

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾(2) أي ذلك الزلزال الذي ليس له شبه بأي من الزلازل التي يعرفها الناس في العالم. وذلك لوجود اختلافين بينهما:

الاختلاف الأول: هو أن الزلازل التي تحدث في عالم الإنسان زلازل جزئية ومحدودة، أي إن قطرها قصير، قد يكون 25 كم في 25 كم، أو أكثر 100 كم، أو حتى إذا فرضنا أكثر من ذلك 500 كم في 500 كم، وهذا ما لم يحدث حتى الآن. ولكنه يرتبط بأنواع من التحولات والتغيرات في باطن الأرض، سواء أكانت هذه تخلخلاً، أو ضغطاً للغازات الموجودة في مكان معين، أو غير ذلك. ثم تخرج هذه الحمم من باطن الأرض. أو الانهيارات التي تسبب تزلزل الأرض في قسم منها. إلا أن هذه، على كل حال، تهم أناس تلك المنطقة الذين يتعرضون لها. أما البعيدون فلا يحسون بها بالمرة، وهناك زلزلة تقلب المنطقة رأسا على عقب، فتطمر مدينة في باطن الأرض، ولكنك إذا ابتعدت بضع عشرات من الكيلومترات، تجد الناس لا يعلمون بما حدث، أما الزلزلة التي يشير إليها القرآن فلا ترتبط بنقطة معينة من الأرض، إنها تشمل الأرض كلها بل لا تشمل الأرض وحدها، وإنما تشمل كل الكون، وكل الشموس، وكل الكائنات. فانظر كيف هذا؟

الاختلاف الثاني: هو إن الزلازل المألوفة تحدث بسبب تأثير عامل في آخر، أو قوة تؤثر في قوى أخرى أو في شيء آخر، لنفرض إننا جالسون هنا، فتمر بهذا البناء شاحنة ضخمة، فإنها سوف تجعل البناء يهتز قليلا. فهذه البناية لم تهتز بذاتها، بل بقوة عامل خارجي أثر فيها وأدى إلى اهتزازها، أو كأن يكون امرؤ واقفا فيصدمه شخص آخر. أما الزلزلة العامة التي يشير إليها القرآن فناشئة من الداخل، من باطن الكون فمن باب المثال، نقول إن الجنين في رحم أمه لا تصدر منه حركة في أشهره الأولى، ولكنه عندما يبلغ الشهر الرابع، مثلا يقال إنه تصدر منه أول حركة. فهل حركة الطفل حصلت بفعل عامل خارجي، أم أنه قد تحرك بذاته وبفعل قوة باطنية؟

إن قضية الزلزلة هذه تتعلق في الواقع بقضية أخرى، وهي إن هذه الموجودات التي نطلق عليها اسم الجمادات التي لا تحس ولا تشعر، هل هي حقا فاقدة للشعور بكل معنى الكلمة؟ أم أنها، بحد ذاتها، وليس بحد ذات الإنسان، تملك نوعا من الشعور والإدراك؟ هذا موضوع يتكرر وروده في القرآن. فمرة يقول ما من كائن إلا ويسبّح بحمده ولكنكم لا تفهمون ذلك ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(3)، هنالك أيضا نقطة أخرى يذكرها القرآن، وهي: متى تتبدل الدنيا إلى الآخرة؟ عندما تظهر من جميع الموجودات وجوهها الأخر ﴿.. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(4) حينذاك تنكشف الوجوه الأخر للأشياء، تلك هي الزلزلة التي ستحدث في الكون، كالجنين الذي يصل إلى مرحلة الحركة، عندئذ يحس الإنسان أن لكل ذرة من ذرات العالم حياة وشعوراً.

﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾(5) أي عندما يخرج من باطن الأرض ما هو مدفون فيها، كل الناس الذين دفنوا في الأرض وهم دفائن الأرض الثمينة، لا الذهب ولا المعادن، ولا النفط، ولا ما هو مرتبط بهذه الدنيا، ﴿وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا﴾(6). ولكن الإنسان الذي سبق أن عرف الزلازل، يقول، وهو جاهل بما يجري، ما الذي يحدث للأرض؟ ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾(7) أي إن الأرض يومئذ تسرد سيرتها، سيرتها الطويلة الممتدة امتداد ملايين السنين، ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾(8) أي إن الله هو الذي أمرها.

هنالك أبيات من شعر مولوي الذي كان متعمقاً إلى حد يقل نظيره، تخص هذا الموضوع يقول:

العلم جامـــــد اسمه الجمـاد

والجمـــاد كان جامدا أيها الأستاذ

إبق حتى نجتمع في الحشـر عيـانا

لترى حركـة جســــم العـالم

إنه يشير إلى هذه الزلزلة، ويقول لا تظنن الميت ميتاً، إنما أنت لا تفهم، لا تدرك ذلك، إنك لا ترى الآن إلاّ جانبه الميت، ثم يقول:

عندما انقلبت عصا موسى حيـة

أدرك العقــل أخبار الساكنات

ففي اليوم الذي انقلبت فيه عصا جامدة إلى حية، تبين للعقل أن الموضوع شيء آخر، وأننا ينبغي ألا نحسب الجمادات جامدة تماما، الموضوع شيء آخر، وأننا ينبغي ألا نحسب الجمادات جامدة تماما.

إنه إذا أحيـاك من بعض تـراب

فلا بد من معرفة التـراب بجملته

إن جسمك كان تراباً ميتاً، ولكنه الآن حي. إذن يتضح أن المسافة بين الميت والحي ليست بعيدة جداً، فالميت قد يحيا سريعاً، ولذلك علينا أن نتعرف على كل الأتربة، إذ فيها تكمن القابلية على الحياة، إن وجوهها التي تواجهنا ميتة، ولكن وجوهها التي تتجه نحو البارئ سبحانه وتعالى حية. إنها من حيث الطبيعة الربانية حية‎، ومن حيث الطبيعة الخلقية ميتة.

ميـتة من هذا الجانب وحيـة من ذاك

صامتـة هنـا وناطقة هنـــــاك

و هــــو إذ يرسـلها إلينــــا

تتحول تلك العصــا حيـة عنـدنـا

فهو إذ يرسلها إلينا يراها حية لا ميتة، فإذا أمرها حولت جانبها الحي إلينا. ثم تجري القصيدة تشير إلى جمادات أحياها، كالريح التي سخرها لسليمان، والبحر الذي ائتمر بأمر موسى، والجبال لداوود، وانشقاق القمر لمحمد، وتحول النار بردا على إبراهيم.

﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾(9) نذكر ما مر بها بحسب ما أوحى لها الله. وقد جاء كذلك في القرآن المجيد، في سورة يس: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(10)، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾(11) أي يوم يصدر في العربية معنى خاصاً، لم أجد في الفارسية كلمة تقوم مقامه. فمثلاً يقولون في الفارسية إن هذه الهوية "صادرة" من طهران، ويستعملون الكلمة العربية. أو يقولون إن فلانا "أصدر" الأوامر الفلانية. ويستعملون الكلمة العربية. أو العربية أيضاً.

فإذا شئنا أن نرفع هذه الكلمة ترى ماذا يمكن أن نضع في مكانها لنحصل على المعنى نفسه؟ ولما كانت كلمة "الصدور" تختلف عن "الخروج" في المعنى، فلا يمكننا استعمالها بمكانها، فإذاً نحن بدلا من أن نقول إن الهوية "صادرة" من طهران، قلنا أنها "خارجة" من طهران، يكون المعنى مغايراً لما نريد. في الأيام التي كانت فيها اللاّعربية على أشدها، وضعوا "مرسلة أو مرسل" الفارسية بمكان "صادرة أو صادر" فمثلاً قولهم: الهوية مرسلة من طهران، لا معنى له، لأن وضع مرسلة بمكان صادرة لا معنى له، لأن "مرسلة" ليست ترجمة لكلمة "صادرة" والتجار أيضا عندما يرسلون بضاعة من مكان إلى مكان يستعملون كلمة"إرسال" أما إذا عطشت الحيوانات فوردت الماء وارتوت، يوصف حالها عندئذ بالصدور، أي إنها صدرت عن الماء.

ولكن تطور هذا المعنى فيما بعد، حيث يقول القرآن: إن الناس في ذلك اليوم يصدرون من الأرض كالأمر الذي يصدر من صاحب أمر، أو كالهوية التي تصدر من مكان ما. هنا الناس هم الذين يصدرون. الناس جماعات متفرقة. لماذا؟ إنه تعبير عجيب أيضا.

﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ أي إن الناس يذهبون ليستعرضوا أعمالهم وأعمال الناس في هذه الدنيا طيلة حياتهم، صغيرها وكبيرها، حيث يتجسد العمل نفسه ويحضر. فكيف تكون حال الإنسان وهو يدخل معرض الأعمال؟ إنه لا يرى سوى السواد والظلام وأشياء على هيئة نيران وحيات وعقارب. وعلى عكسه الذي يؤخذ إلى معرض ثواب الأعمال، حيث إن أكثر ما يرى هو الأعمال الحسنة الجميلة، بحيث قيل إنه لو كان الموت ممكنا يوم القيامة، لمات أهل السعادة فرحا، وأهل الشقاء كمداً. أي لو أن تلك السعادة التي توهب للإنسان في الأخرى وهبت للإنسان في دار الدنيا، لتحجر فوراً.

ولو نزل ذاك الشقاء على أحد في الدنيا، لتوقف قلبه حالا ومات، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ ثم يشرح القرآن معنى ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ بقوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(12) والذرة هي أصغر وحدة قياسية في العربية، أي بمقدار الذرة التي ليس أصغر منها جسم. من المعروف عندنا عندما نقول ذرة نقصد أصغر معيار نعرفه مما لا يمكن أن نراه بالعين المجردة. وهي الذرات التي لا نراها إذا كنا في الشمس، ولا نراها إذا كنا في الظل، ولكننا نراها إذا كنا في الظل ومر منه عمود من نور، كأن تدخل أشعة الشمس من إحدى النوافذ، عندئذ يرى الإنسان وسط ذلك العمود من النور دقائق صغيرة تتحرك. فهذه هي الذرات بالعربية، أي أصغر شيء يظهر للعيان من الجسم. ومصطلح الذرة هذا يستعمله العلماء والفلاسفة في قضايا الجسم ومم يتكون.

فكان عدد منهم يرى (وهي النظرية التي تأيدت فيما بعد) إن كل جسم يتألف من أجسام صغيرة جداً. هذه الأجسام الصغيرة جداً أطلقوا عليها إسم الذرات، ذرات صغار صلبة كانوا يعتقدون أنها غير قابلة للإنشطار، وهذه أيضا هي الذرة في العلوم الحديثة، على كل حال، يقول القرآن إن من عمل مقدار ذرة من الشر فإنه سوف يرى جزاءه.

والآن لاحظوا اللحن في السورة، مع ملاحظة المعنى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا / وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا / وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا / يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا / بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا / يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ / فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.


1- سورة الزلزلة / 1-8.

2- سورة الزلزلة / 1.

3- سورة الإسراء / 44.

4- سورة العنكبوت / 64.

5- سورة الزلزلة / 2.

6- سورة الزلزلة / 3.

7- سورة الزلزلة / 4.

8- سورة الزلزلة / 25.

9- سورة الزلزلة / 4.

10- سورة يس / 65.

11- سورة الزلزلة / 6.

12- سورة الزلزلة / 7-8.