أتؤيد هذه الآيات نظرية النشوء والتطور؟
السؤال:
صنّف أحدهم كتاباً تحدث فيه بإسهاب عن نظرية النشوء والتطور (مذهب التحول والتكامل) محاولاً إثبات صحتها من خلال تطبيقها على بعض الآيات القرآنية، زاعماً أن القرآن الكريم يدعم هذه النظرية. وعلى هذا الأساس استدلّ بالآيتين التاليتين:
1- قوله تعالى: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾(1).
حيث استنبط المؤلف من عبارة "من قبل" وكذلك "ولم يك شيئاً" أن الانسان قبل بلوغه مرحلة الكمال كان شيئاً ما؛ فكان يعيش بصور مختلفة متدرجاً من الحيوان وحيد الخلية الى القرد، ولم يكن متصفاً بأيّ من الكمالات الانسانية، لا من الناحية الجسدية ولا المعنوية!
2- قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾(2).
وقد عوّل الكاتب في هذه الآية على قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ ليستنبط منه أن الانسان كان يمثل شيئاً ما قبل اكتسابه القابلية على ذكر اسمه في الكتب الالهية؛ غاية الأمر أنه نتيجة لعدم حيازته الكمال الانساني وانخراطه في زمرة الحيوانات لم يكن ليستحق ذكر اسمه والتحدث عنه في الكتب السماوية (صحف إبراهيم، والتوراة، والانجيل والقرآن).
أتدلّ الآيات المذكورة حقاً على التحول والتكامل التدريجي للانسان؟ وإن لم تكن ذات صلة بنظرية النشوء والتطور فما المقصود منها؟
الجواب:
نحن نعتقد أنه لا صلة للآيات المذكورة آنفاً بنظرية النشوء والتطور أو مذهب التحول والتكامل التدريجي للموجودات، بل لهذه الآيات معانٍ أخرى نذكرها فيما يلي:
تفسير الآية الأولى:
من جملة الأشياء التي يصعب على الانسان التصديق بها ويتعسر عليه إقناع نفسه بالايمان بها بسهولة هي موضوع المعاد؛ أي إحياء الناس في عالم الآخرة بعد فنائهم في عالم الدنيا.
لذا نزلت آيات قرآنية عديدة تبين أحوال منكري المعاد وتبطل ظنونهم بشأن استبعاد وقوعه، منها الآيات 66- 68 من سورة مريم.
في هذه الآيات، يبين الله تعالى أحوال منكري يوم القيامة ويردّ عليهم بقوله: ﴿وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً / أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً / فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ..﴾(3).
تلاحظون أن مصنف الكتاب استدل بقوله تعالى: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾، وهي في مقام الردّ على القائلين: كيف يمكن إحياء الانسان مرة أخرى وإرجاعه الى حالته الأولى بعد موته وتبدد ذرات بدنه؟ أنسي الانسان بداية خلقه؟ ألا يعلم أننا خلقناه من العدم ﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ وأدخلناه حيّز الوجود؟
فمع أخذ قدرة الخلق من العدم بنظر الاعتبار، أنّى لأولئك إنكار بعث الأموات وهم يعلمون أن موادهم الأولية -إن صحّ التعبير- لا تفنى طبقاً لقانون "بقاء المادة والطاقة"؟ أو لا يستطيع الله القادر على الاخراج من العدم والادخال في حيز الوجود أن يجمع أجزاء بدن الانسان المتفرقة وأوصاله المتبددة؟
بناء على هذا، فالآية الآنفة ليست بصدد بيان أن الانسان قبل أن يبلغ مرحلة الكمال الفعلية كان عبارة عن موجودات حية أخرى تدرّجت في سلّم الكمال حتى وصلت هذه المرحلة، بل نزلت بهدف إثبات القيامة والمعاد ووردت في مقام الردّ على المنكرين، شأنها في ذلك شأن كثير من الآيات الأخرى.
تفسير الآية الثانية:
لو انفصل الطفل حديث الولادة عن والديه في أعقاب حادثةٍ ما، وبقي في جوّ بارد جداًَ، فمما لا شك فيه أنه لن يمضي عليه أمد طويل حتى يتجرع مرارة الموت. أما لو عثر عليه أحد المحسنين وأخذه الى بيته وحنا عليه حنوّ الأب العطوف، ولم يبخل عليه بأنواع المحبة والمودة، وترعرع في كنفه متنعماً بما يغدق عليه من النعيم؛ فلا غرو أن الطفل اليتيم بالأمس يجد نفسه اليوم متمتعاً بكل مستلزمات الحياة وغنياً عن الآخرين.
وربما أخذ منه الغرور والكبر مأخذاً فجعله ينسى فضائل ذلك الشخص المحسن، وقد يقع أحياناً أنه ينازعه ويخاصمه ويجحد نعمه عليه انطلاقاً من مصالحه الخاصة.
وهنا يحقّ للشخص المحسن أن يذكّر صاحبه بمرحلة العجز واليتم، ويوبخه على كفران النعمة. وهذا هو ما فعله الله سبحانه وتعالى مع الانسان، فجاء ليذكّره به في أوائل سورة الانسان من أجل كبح جماح الطغاة وإيقاظ الغافلين الذين تناسوا أو نسوا بدء الخلقة وسلكوا سبيل الجحود. فقال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى ..﴾ أي أما آن للانسان الذي انتهج طريق الكفر أن يفكر فيما قبل أن تتعلق إرادة الله تعالى بوجوده، وأنه لم يكن إذ ذاك شيئاً مذكوراً، فأخرجه تعالى من العدم الى الوجود، وألبسه لباس الانسانية؟ أإنه نسي هذه النعم والمواهب الجليلة فسلك سبيل الكفر والطغيان؟
بناء على هذا، فالآية المذكورة لا صلة لها بنظرية النشوء والتطور أو التحول والتكامل التدريجي للمخلوقات الحية.
1- سورة مريم / 67.
2- سورة الإنسان / 1.
3- سورة مريم / 66- 68.