تفسير قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾

السؤال:

هناك سؤال لا يزال يطرح حول المراد من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى / وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى / وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾(1).

فمتى كان النبي (صلى الله عليه وآله) ضالاً فهداه الله تعالى؟! وهل القول بأنه قد كان ضالاً قبل بعثته، ثم هداه الله تعالى بالبعثة؟!

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمد وآله الطيبين الطاهرين

واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد..

هناك سؤال لا يزال يطرح حول المراد من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى / وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى / وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾.

ونقول في الجواب:

إن الإجابة تستدعي الحديث عن كل آية على حدة، وقد آثرنا البدء بالحديث عن الآية الأولى، ثم الثالثة، ثم عدنا إلى الحديث عن الثانية التي هي مورد السؤال .. لأن طبيعة الحديث اقتضت ذلك.

فجاء الحديث كما يلي:

أولاً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾.

نقول: إن ظاهر هذه الآية المباركة:

1- أن الله تعالى قد وجد نبيه (ص) يتيماً.

2- أنه بمجرد أن وجده كذلك آواه.

ونحن نتحدث عن هذين الأمرين هنا، فنقول: أما بالنسبة لوجدان الله تعالى للنبي (ص) يتيماً، فإننا نقول: إن من الواضح أن وجدان الله سبحانه لأمر، يختلف عن وجداننا نحن له .. فإن الوجدان بالنسبة إلينا إنما يكون بعد الفقدان. حيث يكون الشيء غائباً عنا، ثم نجده.

وأما بالنسبة لإيواء الله تعالى له بمجرد أن وجده يتيماً، فإنه تعالى لا يغيب عنه شيء، بل كل شيء حاضر عنده منذ أن أوجده. فلا فصل بين وجود الشيء، وبين وجدان الله تعالى له.

وبعبارة أخرى: إن التقدم تارة يكون من قبيل تقدم الصباح على المساء، أو تقدم ولادة الوالد على ولادة ولده.

وتارة يكون من قبيل تقدم حركة اليد على حركة المفتاح حينما يدار في قفل الباب. فإن التفريق بين الحركتين في هذه الصورة، إنما هو في الذهن. وليس زمانياً.

وتقدم وجود الشيء على وجدان الله تعالى له هو من هذا القبيل، فإن الله تعالى حين أمات عبد الله والد الرسول، قد وجد رسول الله (ص) يتيماً. ولم يغب عنه في أي ظرف أو حال.

فلا يوجد أي فصل زماني بين هذين الأمرين.

فهو على حد قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾(3).

أي ليتجسد ذلك على صفحة الوجود، ليكون وجوده العيني عين وجوده العلمي .. وإن اختلفا من حيث التحليل العقلي، فيما .يرتبط بالإدراك والتعقل بالنسبة لنا.

وكذلك الحال في الإيواء في الآية الشريفة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾. فإنه قد جاء مصاحباً لوجدان الله تعالى له يتيماً. فلم يتركه سبحانه، مدة ثم آواه.

وذلك لأنه تعالى قد عبر هنا بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل، فقال: ﴿فَآوَى﴾. ولم يأت بكلمة "ثم<" الدالة على التعقيب مع المهلة .. فلم يقل "ثم" (آوَى).

ثانياً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾.

نقول: المراد بالعائل: الفقير ذو العيلة من غير جدة .. في إشارة إلى تنوع الحاجات، وإلى عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه (ص) سواء فيما يرتبط بنفسه، أو فيما يرتبط بالآخرين. وخصوصاً مسؤوليات هداية البشر منذ خلق الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.

وقد ذكرت هذه الآية المباركة: أن الله تعالى قد وجد نبيه عائلاً محتاجاً إلى النعم والألطاف، والعون.

سواء في ذلك ما يرجع لنفسه أو لغيره(4)، من خلاله .. فأفاض عليه منها ما يليق بمقامه الأسمى والأقدس. وما يناسب حاجته، وموقعه، ومسؤولياته في جميع مراحل وجوده، حتى حينما كان نوراً معلقاً بالعرش.

ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأنه تعالى قد وجده، واطلع على حاجاته وعلى فقره على كونه عائلاً، بمجرد حدوثها، ولم يغب عنه ذلك لحظة واحدة.

ثم أفاض تعالى نعمه عليه بمجرد وجدانه كذلك، ومن دون أي فصل زماني، أو مهلة، وذلك من خلال التعبير بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل في قوله: ﴿فَأَغْنَى﴾، ولم يأت بـ "ثم" الدالة على التعقيب مع المهلة، فلم يقل: "ثم" (أَغْنَى).

ثالثاً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾.

 نقول: إن ما ذكرناه فيما سبق يوضح المراد بقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾. فإنه تعالى بمجرد أن خلق نبيه روحاً أولاً، ثم روحاً وجسداً تالياً قد وجده في جميع مراحل وجوده محتاجاً إلى أنواع الهدايات، فأفاضها عليه مباشرة، ومنذ اللحظة الأولى، وبلا مهلة، كما دل عليه التعبير بالفاء في قوله: ﴿فَهَدَى﴾ حيث لم يقل: "ثم" (هَدَى).

فأعطاه الهداية التكوينية، بمجرد ظهور حاجته إلى هذه الهداية .. وأعطاه أيضاً هداية الفطرة .. وأعطاه هداية العقل .. وأعطاه هداية التشريع والإلهام والوحي.

ويتجلى أثر هذه الهدايات في موقع الحاجة في نطاق سعيه الدائب، وتطلبه المستمر للوصول إلى مواضع القرب، والحصول على مواقع الزلفى.

فإذا كان الله تعالى يجد حاجة نبيه إلى الهداية من دون حاجة إلى الزمان، لأنه لا يمكن أن يغيب عنه تعالى شيء .. ثم هو يفيض الهدايات عليه مباشرة أيضاً وبلا فصل ولا مهلة. فذلك يعني أن الله سبحانه قد منحه هداية لم يسبقها ضلال، ولو للحظة واحدة.

ويكون هذا الترتيب البياني بين الضلال والهدى، لا يستبطن التدرج في الوجود الخارجي، بمعنى أن يتجسد ضلال، ثم تأتي الهداية فتزيله.

بل هو ترتيب قد جاء في دائرة تمكين الناس من إدراك معنى الهدايات، والنعم، والتفضلات الإلهية على النبي الأقدس (ص).

أي أنه ترتيب نشأ عن السعي إلى التجزئة بين المدركات، وتلمُّس الحدود القائمة فيما بينها، بالاستناد إلى التحليل العقلي، بهدف تيسير إدراك الحقائق بصورة أعمق وأتم.

من نتائج ما تقدم:

وهكذا .. فإننا نحسب بعد هذا البيان أن بإمكاننا القول لتكن هذه الآية المباركة واحداً من الأدلة الظاهرة على أن الله سبحانه منذ خلق نبينا الأعظم، كان قد أعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها، والتي توصله إلى الغايات الإلهية .. ولا بد أن يكون من بينها هداية الإلهام والوحي والتشريع. وذلك هو ما يفرضه إطلاق قوله تعالى: ﴿فَهَدَى﴾.

بل ربما يستفاد ذلك أيضاً من قوله تعالى، خطاباً للمشركين ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى / وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى / إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى﴾(5). حيث إن الآية قد نفت عنه (ص) الضلال مطلقاً وفي مختلف الحالات والأزمان.

وذلك كله يؤكد لنا: أنه (ص) قد كان نبياً منذ ولد(6).

بل لقد كان نبياً وآدم بين الماء والطين(7). كما دلت عليه الروايات الشريفة.

وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق الإشارة الخفية، التي تضمنتها كلمات أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، حيث يقول: ".. ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكة، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره!!(8).

ولا بد من لفت النظر إلى التنصيص على واقع الملك الذي قرنه الله سبحانه وتعالى، برسوله حيث وصفه (ع) بأنه أعظم ملائكته في إشارة منه (ع) إلى أن هذه المهمة قد بلغت في أهميتها وخطرها جداً جعلت من هذا الاختيار ضرورة لا بد منها.

وأن هذه الضرورة قد فرضت نفسها في وقت مبكر جداً، أي منذ كان (ع) فطيماً.

توضيح وبيان:

وبعد ما تقدم نقول: إن من يراجع الآيات القرآنية يجد: أنها في بياناتها لبعض القضايا الحساسة تعتمد أسلوباً مميزاً وفريداً، من حيث أنها تورد الحديث عن تلك القضايا بطريقة يصعب معها نيل تلك المعاني إلا بالخروج من حالة الغفلة والاسترخاء الفكري، لأنها تواجه الإنسان بإشارات قوية تضطره إلى استنفار كل قواه العقلية، وتفرض عليه مستوى من المعرفة، والتعمق، والإحاطة الواعية بدقائق وحقائق مختلفة، ونيل معانٍ عالية ودقيقة، تعطيه درجة من المناعة والحصانة عن التأثر بالشبهات، التي تجد فرصتها في حالات الغفلة والسطحية والاستسلام البريء.

إنه تعالى يريد للإنسان أن يأخذ الفكرة بوعي، وبعمق، وشمولية، وبحساسية فائقة، ولتخرج -من ثم- عن مستوى التصور، لتدخل في دائرة التصديق واليقين المستند إلى البرهان.

ولتتغلغل -من ثم- في قلب الإنسان، وتصبح فكره، وعقيدته، ووجدانه، وضميره. ويكون ذلك هو الضمانة القوية، والحصن الحصين.

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله.

8 / صفر / 1423 هـ ق

جعفر مرتضى العاملي


1- سورة الضحى / 6-8.

2- سورة الكهف / 12.

3- سورة محمد / 31.

4- إن الذي يرجع لنفسه يرجع لغيره أيضا بنحو وبآخر .. فإنه (صلى الله عليه وآله) أسوة وقدوة، ومثل أعلى، ثم هو ملجأ ووسيلة إلى الله .. احتاج الأنبياء إليه، وتوسلوا به منذ آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام .. فلا بد أن تتجلى كمالاته ومزاياه منذئذ.

5- سورة النجم / 2-4.

6- البحار ج18 / ص277-281.

7- راجع: الغدير ج9 / ص287.

8- نهج البلاغة ج2 / ص157 / ط دار المعرفة بيروت، لبنان واليقين، للسيد ابن طاووس ص196 وراجع: مصادر نهج البلاغة ج3 / ص57 و58.