تفسير قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

بداية:

قد ظهر من كل ما تقدم، ابتداءً من بسم الله، وإلى قوله: يوم الدين: أن الله سبحانه قد أسس أساساً عقائدياً متيناً، يتلمسه الإنسان في واقعه، ويحس به بفطرته ويقضي به ضميره ووجدانه، ويحكم به عقله، وليس نتيجة اندفاع عاطفي أو غريزي، ولا انقياداً لهوى، ولا استجابة لشهوات، أو لطموحات غير مسؤولة، ولا هو حركة عشوائية غير منضبطة.

إنها عقيدة تستند إلى رؤية واضحة، ونظرة عميقة وشاملة عن الكون وعن الحياة، وعن الخلق، وأهدافه، وعن الخالق وصفاته وألطافه.تؤهل هذا الإنسان لأن يتحرك وينطلق مصعداً ليقوم بدور بنّاء وإيجابي وسليم مرتكزاً على هذه  الثوابت العقيدية الأم، ليتلمس تفصيلات عقيدية أخرى منبثقة عنها هي الأقرب إلى التأثير بالواقع السلوك إلى درجة المباشرة أحياناً، فيتعامل ويتفاعل مع كل شيء من خلالها وعلى أساسها؛ إذن فليست هي مجرد مفاهيم عقائدية تلقينية خاوية، لا دور فيها للعقل، ولا للمنطق، ولا للفطرة ولا للشعور، ولا للوجدان، بل هي من صميم ذلك كله، هي حياة العقل، وانطلاقة الروح، ووهج الشعور، إنها الحياة الحقيقية، وسر الوجود.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:

ولكي نقترب قليلاً إلى واقع قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فإننا نعود ونذكّر بالعقائد الأم، كعقيدة التوحيد الكامل مثلاً، التي تنبثق عنها تفصيلات تقول: إنه تعالى هو وحده المؤثر، وهو مصدر الفيض للعنايات والألطاف، وهو وحده المستحق للعبادة.

وهذا الاعتقاد التفصيلي هو الذي يترك آثاراً مباشرة ومهمة في التكوين الفكري للإنسان، ثم في صياغة مفاهيمه.ثم هو ينعكس على الواقع المعاش سلوكاً وموقفاً، له خصوصياته ومميزاته عما عداه.هذا عدا عن تأثيراته الحقيقية في تكوين الشخصية الفردية والاجتماعية للإنسان.

ويكفي أن نشير هنا: إلى أن هذا الاعتقاد هو الرافد الشعوري، والفكري لانطلاقة الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، واستمرار هذا الصراع لتطويعها على ممارسة التوحيد في العبادة وفي السلوك، لتنتج هذه العبادة أخلاقاً تتناسب معها، وإخلاصاً لله عز وجل بمستوى رسوخ هذه العقيدة، وبمستوى وضوحها أيضاً. لتصبح ممارسة هذا التوحيد على درجة من العفوية والفطرية، بعيدة عن حالات الرياء والعجب والكبر وعبادة الذات، والمال، والمنصب، والزعيم، والحزب، والبنين، والسلطة، والهوى، وما إلى ذلك من أمراض نفسية تتنافى مع عقيدة التوحيد في العبادة.

فالرياء شرك، سواء أكان العمل ضرورة حياتية للفرد أو للمجتمع.لأن الرياء معناه جعل قسم من هذا العمل لجهة أو لشخص أو لفئة أخرى غير الله سبحانه، بحيث يكون لهؤلاء تأثير ومشاركة.

إذن، فلا بد من تخصيص العبادة لله، ولا بد من توحيد العبادة له تعالى؛ لأنه وحده المستحق لها، ليصبح قولنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ له معناه ومغزاه الحقيقي، بعد أن وضحت الرؤية التوحيدية العقائدية، في العبادة، وفي السلوك والعمل. منذ بدأنا بكلمة بسم الله .. حتى انتهينا إلى "إياك نعبد".فأثمرت تلك النظرة، وتلك العقيدة عبادة خالصة له سبحانه دون سواه، وأثمرت سلوكاً توحيدياً، فلا يستعين بغيره تعالى.

وظهر وحصل الربط بين العقيدة والسلوك بصورة طبيعية وواقعية.

تقديم كلمة ﴿إِيَّاكَ﴾:

وفي كل ذلك يشير إلى بعض ما يرمي إليه تقديم كلمة ﴿إِيَّاكَ﴾ على كلمتي ﴿نَعْبُدُ﴾ و﴿نَسْتَعِينُ﴾. فإن هذا التقديم ينتج الأمور التالية:

التخصيص للعبادة وللاستعانة به تعالى.وقد أنتج لنا هذا التخصيص، من جهة إيجابية: التوحيد في العبادة، والعمل.

ومن جهة أخرى: نفي الشريك، ونفي التأثير لغير الله في أي عمل عبادي أو سلوكي كان. ونفي استحقاق العبادة لكل من عدا الله سبحانه هذا بالإضافة إلى حاجة كل عمل في بقائه واستمراره، وتكامله وتحسينه، إليه سبحانه وتعالى.

وهكذا يتضح: أنه قد انبثق عن العقيدة الأم عبادة، هي عمل وحركة، وانبثق عنها صفة لهذا العمل ولهذه الحركة العبادية، وهي كونه عملاً توحيدياً وحركة توحيدية أيضاً.

إنه تعالى يريد من هذا التخصيص، ومن استعمال كلمة ﴿إِيَّاكَ﴾ التي تعني الحضور والخطاب المباشر: أن يوحي لنا أنه يريد من هذا الإنسان أن يتوجه إلى الله، ويشعر به، ويتعامل معه حتى كأنه حاضر أمامه إلى درجة الحس المباشر، ولا يكتفي بالاعتماد على الانتقال الذهني، استناداً إلى ضمير الغائب، فلم يقل: "نعبده ونستعينه".

ومن الواضح: أنه إذا كان الله سبحانه هو وحده مصدر كل خير وعطاء وقوة والخ .. فإنه يكون وحده المستحق للعبادة ولا تصح الاستعانة بغيره أبداً.

وإذا كان الله هو مصدر كل خير وعطاء وقوة فلا يملك الإنسان قوة ولا أي شيء ذاتي في نفسه خارج نطاق العطاء الإلهي فلماذا يكون ثمة عجب بالنفس فالتوحيد الخالص يمنع العجب كما أنه إذا لم يكن أحد غير الله يملك ضراً أو نفعاً فلماذا الرياء فالتوحيد الخالص ينفي الرياء أيضاً.

إنه يريد الحضور والمشاهدة والخطاب، الذي تتشارك فيه العين في نظرتها، مع اليد في إشارتها، مع اللفظ في دلالته، مع السمع في تلقيه، مع القلب في وعيه، مع سائر الحواس والمشاعر، واللمحات والخواطر.وذلك إمعاناً في تحقيق التعيين، ونفي أي توهم للمشاركة، وإبعاد أي شبح للإبهام أو للإيهام، فيما يراد إثباته من تخصيص العبادة له وبه تعالى، وفيما يراد طلبه منه من الاستعانة والهداية.

ثم إنّ تمحض الخطاب له تعالى، ومعه، وإبعاد شبح أي إيهام أو إبهام أو مشاركة من شأنه أن يوحي لنا بالتحرر من أية رابطة مع غير الله سبحانه.ليتحقق الخلوص في عبادته، وفي الاستعانة به سبحانه.

وواضح: أن هذا التحرر التام هو نتيجة التوحيد الحقيقي، وتأكد أو رسوخ أساس العقيدة بالنبوة وبالمعاد أيضاً. فإن ذلك يفرض توحيد العبادة والعبودية، وتوحيد العمل والسلوك أيضاً.

﴿نَعْبُدُ﴾ و﴿نَسْتَعِينُ﴾ بصيغة الجمع:

وقد استعمل سبحانه هنا صيغة الجمع لا المفرد، فقال: ﴿نَعْبُدُ﴾، ﴿نَسْتَعِينُ﴾، ﴿اهدِنَا. ولم يقل: اعبد، استعين، اهدني. ولعله من أجل أنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يعيش خصوصيته الفردية في نطاق حياته الاجتماعية، ولا يريده أن ينعزل، وينطوي على نفسه ويتقوقع داخل قفص حديدي قضبانه هي الخصوصيات الفردية المحددة، والمؤذية أحياناً. وهذا أسلوب تربوي رفيع يهدف إلى تحويل الحركة الفردية، والفعل الشخصي إلى إنجاز جماعي، له قيمته الإنسانية الفضلى.

مع الإشارة إلى أن التشذيب والتهذيب، وإيجاد حالة التوازن في الخصوصيات والطموحات الفردية إنما يكون في ساحة الصراع والتحدي، حيث لا بد أن تعبر تلك الحالات الفردية للأنا عن نفسها، وعن وجودها، حيث لا مبرر لهذا البروز في حالة الانطواء والبعد عن ساحة الصراع هذه.

ولأجل ذلك، فإنه تعالى حتى حين يشرع العبادات حتى الصلاة، فإنه قد جعل طابعها العام جماعياً واجتماعياً بصورة ملموسة وظاهرة، فالصلاة التي هي صلة للعبد به تعالى قد انطوت في تشريعاتها وخصوصياتها وحالاتها على ما يجعل إحساس العبد بصلته بالله سبحانه يتبلور في نطاق الحياة الاجتماعية. ومن خلالها. ففي الأذان دعوة إلى التجمع من أجل الصلاة جماعة، وهي في المسجد أكثر ثواباً، ويزيد هذا الثواب بعدد أفراد الجماعة المشاركين. ثم تتلو نصوص الصلاة التي تصهر روحك في بوتقة المجتمع الكبير فتقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ / اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ / صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ .. ثم تكون آخر كلماتك هي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتخرج من الصلاة لتدخل من باب الصلاة نفسها -بعد أن تكون حصلت على السلام النفسي والروحي- إلى قلب هذا المجتمع الكبير، لتعيش بهذا السلام، بعد أن تكون هذه الصلاة قد أسهمت في تصفية روحك، وتزكية نفسك، وأهّلتك لأن تكون العضو الصالح والقوي والفاعل في مجتمعك، ولا تزال تنهاك عن الفحشاء والمنكر، وهي عمود الدين.وهي النهر الذي تغتسل فيه كل يوم خمس مرات، لتكون مثال الطهر والصفاء والنقاء.

فالعبادة الفردية إذن تقوم -بالإضافة إلى سائر منجزاتها الكبرى- بتأهل الفرد واستصلاحه ليكون العضو الفاعل والعامل الذي يحمل في داخله الأمان والسلام، ليزرعه وليثمر عزاً وقوة، وخيراً وبركة، وسمواً ونبلاً.

وهكذا يتضح أن هذا التوحيد في العبادة، والانطلاق إلى الله سبحانه في رحاب الجماعة بعد أن تسقط جميع الحواجز والموانع والحدود الفردية، إن هذا -ولا شك- يفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً رحبة، تدعوه إلى الانسياب فيها، والانفتاح على كل ما تحتضنه في داخلها، ليتصل هذا الفرد بكل ما هو خارج حدود فرديته، ليصبح بحجم الإنسان كله، وبمستوى الإنسانية كلها.

وينطلق كادحاً إلى ربه، وإليه فقط دون كل ما سواه، تاركاً أفقه الضيق والمحدود، ليستقبل الأفق الأرحب في ملكوت الله ويهوِّم في رحابه اللامتناهية.سعيداً بما استطاع أن  يحصل عليه من مزايا إنسانية، سعيد بدرجات القرب من الله تعالى.وبما أكرمه الله به ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(1).

فهذا التوحيد في العبادة و الأفعال قد جعل هذا الإنسان أوسع أفقاً وأرحب فكراً، وأكثر وعياً  للحياة، وسوف ينتج ذلك مزيداً من التأمل والفكر، ثم العمل الجاد الذي يكون في مستوى هذه النظرة الشمولية والواعية.

وفي التوحيد في العبادة ربط باللانهائي واللامحدود، الذي هو مصدر كل عطاء، فما على الفكر من حرج إذن، إذا انطلق ليتصل بالمحدود ليقوم بالإنجاز الكبير بحجم الحياة كلها.هذا كله بالإضافة إلى إخراج الإنسان من حالة الانعزال والانفصال إلى حالة التواصل والتعاون والمشاركة، والفهم العميق لهذه المشاركة.

إن الذي يطالع تشريعات الإسلام وأحكامه يجد: أنه يريد أن يصوغ الفرد بطريقة تجعله صالحاً لأن يكون لبنة في بناء المجتمع الكبير، ولا بد لأجل تحقيق هذا الهدف من تحقيق حالة التناسق والانسجام مع سائر اللبنات التي لا بد لكل منها بحسب موقعها، وما يتطلبه الوضع الهندسي للبناء ككل من أن تتخلى هي وتفرض على مشاركاتها أن تتخلى أيضاً عن كثير من المزايا الفردية التي لولا ذلك لتُركت على طبيعتها.

ويكون التعويض غير المباشر عن تلك الخصائص والمزايا الفردية  هو اكتساب كل المزايا والاستفادة من كل القدرات والطاقات الجماعية، التي تنعكس قوة للفرد، وطاقة له، ولكن بطريقة أخرى، وبأسلوب آخر، وهذا ما يؤكد أن للعبادة التي لها دور رئيس في صياغة مزايا الفرد، لا بد أن توضع في القالب الجماعي، لتصوغ تلك المزايا في حالة من التوازن والانسجام، لتنشأ متخذة بصورة عفوية الشكل الهندسي المطلوب.وليس من الضروري، بل ليس من الحكمة أن تنشأ هذه المزايا بصورة مستقلة ومنفصلة، ثم يصار إلى عملية تقليم وتطعيم، وتهذيب وتشذيب قسرية لها، لأن ذلك لن يكون في منأى عن إحداث أضرار وندوب، وآثار تبقى وتظهر بصورة أو بأخرى.كان بالإمكان أن لا تكون وأن لا تراها القلوب والعيون. وبذلك يمكن تفسير صيغة الجماعة في قوله تعالى: نعبد.نستعين.اهدنا.

مراتب العبادة:

ثم إنه مرةً يعبد الإنسان الله سبحانه لوجود أمر إلزامي، لا يريد أن يتمرد عليه. ومرة يأتي هذا الإنسان بكل ما هو مطلوب منه، على سبيل المتاجرة مع الله، فيقوم بالعبادة المحبوبة له تعالى، ليأخذ في مقابلها درجات في الجنة. ومرة يعبد الله لأنه يرى الله أهلاً للعبادة، وهذه هي أرقى أنواع العبادات. وستأتي عن أمير المؤمنين عليه السلام الإشارة إلى هذه المراتب.

ما المراد بالعبادة:

وإذا أردنا أن نستوضح المراد من العبادة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وسواها، فإننا نقول: لقد قال الله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(2). وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(3).

فهدف الخلقة إذن هي عبادته تعالى.والمراد بهذه العبادة هو الانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه في أوامره وزواجره؛ إذ أن الله قد خلق هذا الكون، وهذا الإنسان، ورسم له هدفاً لا بد له من التحرك باتجاهه، حتى ينتهي إليه، وهذا الهدف، وتلك المسيرة ليست واضحة المعالم لهذا الإنسان تمام الوضوح، بل هي غارقة في بحر الغيب، ومحفوفة بكثير من الأمور التي تحجب الرؤية الصحيحة لها، والشاملة لكل ما يرتبط بها.

والذي يعرف ذلك الغيب، ويهيمن على كل هذا الواقع هو الذي يفترض فيه أن يقدم الإرشادات الهادية إلى طريقة التعامل مع كل هذا الواقع، وكيفية استعمال هذه الأجهزة التي تمكن الإنسان من التحرك بصورة سليمة وقويمة باتجاه ذلك الهدف حتى بلوغه.

وهذا كما لو اشتريت جهاز كمبيوتر مثلاً، فإن تشغيله بصورة عشوائية لن يحقق الأهداف المتوخاة منه. فلا بد من التماس طريقة التشغيل وتعليماته من نفس صانع ذلك الجهاز، ثم الالتزام الدقيق بها لتحصل على ما يراد الحصول عليه منه.

والإنسان أيضاً قد زوّده الله بأجهزة تتناسب وتتناغم مع كل ما أودعه الله من أسرار في هذا الكون الذي يريد من خلال التعامل معه أن يصل إلى الله سبحانه ويبلغ رضوانه ويسعد بإنسانيته -لا بالمال ولا بالمنصب، ولا بالجمال أو الشكل، ولا بغير ذلك- وينطلق ليحيا الحياة الحقيقية بعمق، وبكل ما يملك من طاقات كما أشار إليه تعالى حين قال: ﴿إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(4).

وأي استعمال لهذه الأجهزة بغير الطريقة المرسومة لن ينجح في تحقيق هذا التناغم فيما بينها وبين سائر نواميس الطبيعة، فيكون الخلل، ويكون الخسران.

إذن، فلا بد من الطاعة الدقيقة والشاملة لأوامره تعالى. وهو المراد بالعبادة. ولا يمكن السماح بأصغر مخالفة للتعليمات الإلهية، لأن ذلك سينعكس سلباً على سلامة المسيرة.ولن يمكن ضمان وصول القافلة بسلام إلى الهدف المنشود بدون ذلك، وهذا ما يفسّر لنا: أيضاً قوله تعالى: ﴿لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾(5). فلا يكون ثمة أية عبادة، أو فقل: أي طاعة وانقياد لغير الله، بل وينحصر ذلك به تعالى، وبه فقط.

تنوع المستحبات وكثرتها:

ومن الواضح أن الإسلام قد قدّم -في نطاق تعليماته- مجموعة من الأوامر والزواجر. وكل منهما ينقسم إلى ما هو ملزم، وما هو غير ملزم، حيث أن الواجب ترافق مع المستحب، وجاء إلى جانب الحرام، المكروه. أضف إلى ذلك: هذا الحجم الهائل، وهذا التنوع العظيم للمستحبات على وجه الخصوص.

فما هو هذا السر في هذا وذاك يا ترى؟ ولماذا؟

إننا نعتقد: أن الإجابة على هذين السؤالين تبدأ بالإشارة إلى أن هناك أموراً يسبب فعلها أو تركها خللاً مباشراً في الواقع الذي يراد له أن يكون سليماً، ومتماسكاً وقوياً.وهناك أمور لها دور صيانة لهذا الواقع.أو دور التأهيل لما يحتاج إلى التأهيل لتحمّل أعبائه، ومتابعة المسيرة بصورة أكثر أمناً، وأكثر شعوراً بالثقة، وأحياناً يكون ثمة طموح إلى تجاوز الحد الأدنى من الأهلية، من أجل مواجهة الصوارف والتحديات القوية، التي قد تأتي من داخل الإنسان: من غرائزه أو شهواته، أو بسبب وجود خلل في تكامل بعض خصائص شخصيته بالمقارنة مع ما عداها.وكذلك مواجهة التحديات الكبيرة التي قد تأتي من خارج شخصية الإنسان. والتي قد تضع الإنسان في أحيان كثيرة في محيط الكارثة الحقيقية. ولأجل كل ذلك وسواه كانت المكروهات والمستحبات فيما يبدو.

وبما ذكرناه أيضاً يعرف سبب التنوع في خصوص المستحبات، فإن الهدف بالإضافة إلى أمور أخرى هو شحن هذا الإنسان روحياً بواسطة هذه المستحبات، والمفروض هو وجود تنوع في ظروف وقدرات، وحالات الإنسان، وضروريات حياته المختلفة، فمع تكثر وتنوع المستحبات يصبح باستطاعته أن يستفيد منها في مختلف حالاته وظروفه النفسية، والجسدية، والاجتماعية، والمعيشية وغيرها.حيث يجد فيها ما يتلائم مع كل حالة وكل ظرف. فقد يرغب في الصوم إذا كان الصوم يلائم ظروفه وتقبل عليه نفسه، وقد يرغب في قراءة القرآن إذا كانت حالته المعيشية والجسدية وسواها تسمح له بذلك، وقد يرغب في العمل الاجتماعي وقضاء حاجات المؤمنين. فيختار ذلك أيضاً.وهكذا في سائر الحالات والأوضاع والظروف.

﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:

وإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فإننا نسجل ما يلي:

الوعي يقتضي الاستعانة: إنه إذا عرف الإنسان حجم ما يواجهه من تحديات من داخل ذاته، وهو ما يحتاج لدفع آفاته إلى الجهاد الأكبر، على حد تعبيره (ص)، وعرف أيضاً حجم التحديات التي تواجهه من خارج ذاته، في كل موقع وفي كل مجال، فإنه يدرك أنه بحاجة إلى الاستعانة بمصدر القوة والالتجاء إلى مصدر العطاء والفيض.ولن يستطيع أن يحقق حلمه الكبير من دون ذلك.

التوحيد في العبادة والاستعانة: وإن الآية الشريفة في حين أكّدت على التوحيد الكامل في العبادة، فإنها قد أكدت أيضاً على التوحيد في العمل، حيث حصرت الاستعانة به سبحانه دون كل ما ومن عداه. الأمر الذي يعني: أنه تعالى وحده القادر على التأثير، وأنه وحده الغني، والقوي، ووالخ..فمن أجل ذلك كان لا بد من حصر الاستعانة به تعالى.ومن أجل ذلك كان التوحيد في الاستعانة معناه الحرية الكاملة والحقيقية، حيث لا يشعر أنه بحاجة إلى أحد لأن الجميع لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.ولأجل ذلك جاءت الاستعانة مطلقة ومن دون تقييد أو تحديد.

جبر أم اختيار: وإذا لوحظت صيغة الآية فإنها تدل دلالة واضحة على أننا نحن الذين نختار أن نفعل، ونحن الذين يصدر عنا الفعل الذي نختاره.فنحن نعبد الله، ونحن أيضاً نعمل ونطلب منه تعالى أن يعيننا على ما نعمله ولذا قال: نعبد.نستعين.فلو كان هو الذي يعمل فلماذا نطلب منه العون؟ ولماذا أيضاً ننسب العبادة إلى أنفسنا؟

الاستعانة، والعجب والرياء وغيرها.

ونقول أيضاً:

أولاً: إن إحساسنا بالحاجة إلى معونة الغير لنا، معناه: أننا لا نملك القدرات الكافية لإنجاز الفعل بالاستقلال. وهذا من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة الفائقة، وبالاستقلالية في التأثير.

ثانياً: إذا كان الإنسان يحسّ بالحاجة إلى الغير من الناس، أو يشعر بالضعف أمامه، فقد يلجأ إلى أن يتزلف له، ويتقرّب منه، بإظهار خلاف الحقيقة. فيقع في الرياء، وفي محاولة التزييف والخداع.

أما إذا تأكد لديه: أن الله وحده هو الذي يمكن أن يرفع ضعفه، ويسد حاجته، فإنه لا يجد ضرورة للتزلف إلى غيره. ويكون قد ابتعد بذلك عن حالة الرياء التي تنشأ عادة من الشعور بالحاجة إلى الآخرين، أو بالضعف أمامهم. فإذا وجد أنهم لا يملكون ما يجبر ضعفه، ويسد حاجته؛ فلماذا يتزلف إليهم؟ ولماذا الرياء؟ وإذا رأى: أن غيره ضعيف مثله، وليس لديه ما يتقوى به، فلماذا وعن أي شيء يخدعه؟

ثالثاً: ثمة نقطة أخرى نشير إليها هنا، وهي أن الإنسان يحتاج إلى المعونة وهو فرد، ويحتاج إليها، وهو جماعة.فلا يمكن أن يستغني عن معونة الله سبحانه في الحالتين، فإذا كانت الجماعة تحتاج إلى العون، فحاجة الفرد إلى ذلك تصبح أولى وأوضح.

الاستعانة بغير الله سبحانه:

تمنع بعض الفرق من الاستعانة بغير الله سبحانه، وتعد ذلك شركاً، وخروجاً عن الدين، إذ لا مؤثر في هذا الوجود سوى الله سبحانه. والاستعانة بغيره تستبطن الاعتقاد بوجود مؤثر آخر سواه.

إذن، فلا يجوز (وفق مقولتهم) أن نقول عندما يتكالب علينا المستكبرون: يا مهدي أدركنا. وعندما يتكالب علينا الأعداء، ونحتاج إلى الأسوة، وإلى إلهاب روح التضحية والفداء لندفع عنا كيد الأعداء، لا يجوز أن نقول: يا حسين. وحينما نشعر بالمظلومية ونحتاج لبلسمة الجراح لا يجوز أن نقول: يا زهراء.

وعندما نحتاج إلى الصبر في موقع الكرب والبلاء، لا يجوز (وفق مقولتهم أيضاً) أن نقول: يا زينب. وعندما نريد أن نتقوى على العمل الكبير والخطير، لا يجوز أن نقول: يا علي. ولا يجوز أن نطلب شفاء المريض، وحفظ الغائب من النبي أو الولي. إلى آخر ما هنالك. وهذا الكلام ظاهره جميل ومنسجم مع تقديم كلمة ﴿وإِيَّاكَ﴾ المفيد للتخصيص للاستعانة به تعالى، في قوله تعالى: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

ولكن الحقيقة هي: أنه كلام غير مقبول، بل وغير معقول. وذلك لما يلي: إنه لو صح هذا لاقتضى تحريم قصد الطبيب للعلاج. ولاقتضى تحريم شرب الدواء. ولاقتضى كذلك تحريم طلب المعونة في حمل الحجر أو الصندوق الثقيل، ولاقتضى تحريم أن يطلب الإنسان من أحد أن يناوله الإبريق مثلاً ليشرب. فإن ذلك كله أيضاً استعانة بالمخلوق. فإن كان ما تقدم يعد شركاً، فهذا أيضاً مثله.

لقد حفل القرآن الكريم بالآيات الصريحة بطلب العون، أو طلب التعاون من غير الله سبحانه، فلو كان ذلك شركاً، فلماذا يأمر الله سبحانه بالشرك؟

فلنقرأ الآيات التالية:

- قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(6).

- وقال: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(7).

- وقال: ﴿اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(8).

- وقال تعالى: حكاية لقول ذي القرنين: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾(9).

هناك فرق بين الاستعانة وبين العبادة، والمحرم هو عبادة غير الله لا الاستعانة به، فيحرم عبادة غير الله لأي سبب كان وبأي طريقة كانت. وكما يحرم السجود له كذلك يحرم التمسح به تمسح عبادة. وكما يحرم السجود له بعنوان كونه رباً وإلها وخالقاً. كذلك يحرم السجود له بعنوان أنه يقربه إلى الله زلفى.

أما الاستعانة، فهي لا تلازم الاعتقاد بوجود مؤثر غير الله على حد التأثير الإلهي أو الربوبي. بل الاستعانة بالنبي أو الولي، إنما هي من أجل أننا لا نرى في أنفسنا أهلية الوقوف بين يدي الله والطلب منه بسبب ما اقترفناه، فنطلب من هذا النبي والولي أن يتولى هو طلب حاجاتنا منه تعالى. فإذا شفي المريض فالله -والحالة هذه- هو الذي شفاه، وإذا قضيت الحاجة فإن الله هو الذي قضاها. وهذا ليس من الشرك في شيء، بل هو عين الإخلاص والمعرفة والتوحيد.

كما أننا حين يعين بعضنا بعضاً فليس ذلك بقدرة ذاتية، بل بالقدرة التي أعطانا إياها الله، ومن المال الذي رزقناه الله، إلى آخر ما هنالك. وهذا من الأمور البديهية التي يدركها حتى الأغبياء، فضلاً عن الأذكياء والعلماء.

الاستعانة بالله والجبر الإلهي:

وقد يحلو للبعض أن يصور لنا: أن الاستعانة بالله سبحانه تعني: أنه لم يعد لنا أي استقلالية فيما نعمل، بل لم يعد لنا أي دور في أعمالنا بل هي تنسب إلى الله سبحانه، ونحن لا دور لنا فيها، بل نحن مسيرون كما تسيَّر أية آلة أخرى بيد محركها.

ونقول: إن ذلك غير صحيح، فقد قدمنا الحديث عنه تعالى، حيث تحدث هنا بصيغة جمع المتكلمين: ﴿نَعْبُدُ﴾. ﴿نَسْتَعِينُ﴾ (وتحدثنا عن بعض حكم وأهداف هذا التعبير) وهو تعبير صريح في أنه تعالى يريد منا: أن نبادر إلى العمل باختيارنا، وبملء إرادتنا. وبالاستقلال عن كل أحد.فلو كان الله هو الذي يفعل، ونحن دورنا دور الآلة، فلا يبقى مورد للعون منه لنا، بل كان ينبغي أن يقول: أنت تفعل ولا تحتاج إلى معين من أحد.

والحاصل: أن هذا لا ينافي كون التأثير لله سبحانه، فالله سبحانه: يمدنا بالقوة البدنية، بالسمع، بالبصر، بكل شيء؛ ويفيض علينا الوجود لحظة بعد لحظة.

وأعطانا أيضاً حرية توظيف هذه القوى في الموارد التي تروق لنا.تماماً كما هو الحال في التيار الكهربائي، أو أنابيب المياه، فالذي يمدنا بالماء والكهرباء هو المولد الكهربائي، والمضخات، ونحن نختار: أن نغتسل في الماء أو نغسل ثيابنا ووسائلنا، أو أن نسقي به زرعنا، أو أن نشربه، أو أن نغرق فيه حيواناً، أو إنساناً أو.

والمولد الكهربائي يمدنا بالطاقة ونحن نختار: أن نستعملها في التدفئة أو في الإنارة، أو في جهاز الراديو، أو تعذيب أو قتل إنسان أيضاً. ولكن يمكن أن يقطع المدد بالماء وبالكهرباء من قبل المضخة، والمولد. فنحن لسنا أحراراً بصورة مطلقة.

وبعد أن نختار الفعل من نوع ما ونحرك يدنا أو لساننا، أو أي جارحة أخرى بالطريقة التي تستكمل العلة التامة عناصر وجودها، فإن الله سبحانه وفقاً لما أجرى عليه سنة الحياة يفيض الوجود على ما يختاره العبد، إذا اكتملت عناصر علته التامة، حيث لا بد من تحقق معلولها.

وبعبارة أوضح وأصرح: إنه قد تتعلق إرادة الله التكوينية بالشيء مباشرة، وقد تتعلق إرادته به إذا وجدت علته التامة والتي قد يكون من جملة أجزائها إرادة الإنسان واختياره؛ فلا بد من وجود المعلول حين وجود علته التامة، وفقاً للسنن الحياتية والطبيعية التي تحكم هذا الكون وتهيمن عليه، وليس هذا من الجبر في شيء.بل هو محض الاختيار للإنسان. وإن كان هذا الاختيار محفوفاً بالإرادة الإلهية من الناحيتين. لكن هذه الإرادة لا تصادم اختيار الإنسان ولا تتعرض له بشيء.


1- سورة الإنشقاق / 6.

2- سورة الذاريات / 56.

3- سورة البينة / 5.

4- سورة العنكبوت / 64.

5- سورة البينة / 5.

6- سورة المائدة / 2.

7- سورة البقرة / 45.

8- سورة البقرة / 153.

9- سورة الكهف / 95.