سبب نزول الآيتين (52-53) من سورة الأنعام

 

﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾

 

سبب النّزول

ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين، ولكنّها متشابهة، من ذلك ما جاء في تفسير "الدار المنثور": مرّت جماعة من قريش بمجلس رسول الله (ص) حيث كان "صهيب" و"عمار" و"بلال" و"خباب" وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرين فيه، فتعجبوا من ذلك (لأنّهم كانوا يحسبون أن شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم يستطيعوا إِدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الأشخاص، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إِيجاد المجتمع الإِسلامي والإِنساني الكبير) فقالوا: يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أفنحن نكون تبعاً لهم؟، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك، فلعلك إِن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله الآية.

 

بعض مفسّري أهل السنة، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثاً أشبه بذاك، ثمّ يقول: إِنّ عمر بن الخطاب كان حاضراً واقترح على رسول الله (ص) أن يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش، ليتبيّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في رفض إقتراحه.

 

ينبغي ألاّ يغرب عن البال أنّ ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد، فقد سبق أن قلنا إِنّ من الممكن أن تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة، ثمّ تنزل السورة بشأن تلك الحوادث.

 

يلزم هنا أن نذكر أنّه جاء في رواية أنّ الملأ من قريش - حينما رفض رسول الله عرضهم - اقترحوا عليه شيئاً آخر، وقالوا له: لو نحيت هؤلاء حتى نخلو بك... فإِذا انصرفنا، فإِذا شئت أعدتهم إِلى مجلسك، فأجابهم النّبي إِلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً ليكتب، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.

 

غير أنّ هذه الرواية، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإِسلام التي رفضت دوماً المساومة في مثل هذه الحالات، وأكّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإِسلامي، فإنّها لا تنسجم مع الآية السابقة: (إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ) فكيف يمكن لرسول الله (ص) قبول الإِقتراح دون انتظار للوحي.

 

ثمّ إِنّ عبارة (ولا تطرد) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أُولئك، لا التناوب معهم، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب، وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا.

 

مكافحة التّفكير الطّبقي:

في هذه الآية إِشارة إِلى واحد من إِحتجاجات المشركين، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي (ص) أن يقرّ ببعض الإِمتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء، إِذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله (ص) منقصة لهم أي منقصة! مع أنّ الإِسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الإِمتيازات الزائفة الجوفاء، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أُولئك عنه، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستنداً إِلى أدلة حية، فيقول: (ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه) (1).

 

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إِلى هؤلاء الأشخاص إِشارة خاصّة، بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء، أي دائماً، وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء، بل هو لذات الله وحده، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه، وليس ثمّة إِمتياز اسمى من هذا.

 

يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إِلى رسول الله (ص)، بل لقد تكرر إِعتراضهم على النّبي بشأن إِجتماع الفقراء حوله، ومطالبتهم إِياه بطردهم.

 

في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إِلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة، ويرفضون كل دعوة تستهدف إِلغاء هذه القيم والمعايير.

 

في سيرة النّبي نوح (ع) نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له: (وما نراك إِتّبعك إِلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي) (2) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته.

 

إِنّ واحداً من دلائل عظمة الإِسلام والقرآن، وعظمة مدرسة الأنبياء عموماً، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات، وراحت تحطم هذه الإِمتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصاً في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال، كما أنّ الثروة ليست إِمتيازاً إِجتماعياً أو معنوياً لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.

 

ثمّ تقول الآية: إنّه ليس ثمّة ما يدعو إِلى إِبعاد هؤلاء المؤمنين عنك، لأنّ حسابهم ليس عليك، ولا حسابك عليهم: (ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء)، ولكنّك مع ذلك إِذا فعلت تكون ظالماً: (فتطردهم فتكون من الظّالمين).

 

يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من "الحساب" هنا.

 

منهم من يقول: إِنّ المقصود هو حساب رزقهم، أي أنّهم وإِن كانوا فقراء فإِنّهم لا يثقلون عليك بشيء، لأن حساب رزقهم على الله، كما أنّك أنت أيضاً لا تحملهم ثقل معيشتك، إِذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء.

 

غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال، كما يقول كثير من المفسّرين، أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك، مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول؟ فالجواب: إِنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله (ص) الفقراء بالإِبتعاد عن الله بسبب فقرهم، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفية والتوسعة عليهم في معيشتهم، بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إِلاّ لضمان معيشتهم والوصول إِلى لقمة العيش.

 

فيرد القرآن على ذلك مبيناً أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك، فان حسابهم على الله، مادام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين، فلا يجوز طردهم بأي ثمن، وبهذا يقف في وجه إِحتجاج أشراف قريش.

 

وشاهد هذا التّفسير ما جاء في حكاية النّبي نوح (ع) التي تشبه حكاية أشراف قريش، فأُولئك كانوا يقولون لنوح: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) فيرد عليهم نوح قائلا: (وما علمي بما كانوا يعملون إِنّ حسابهم إِلاّ على ربّي لو تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين) (3).

 

 

من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرىء يظهر الإِيمان بدون أي تمييز ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إِلاّ وجه الله، وكل ذنبهم هو أنّهم فقراء صفر اليدين من الثروة، ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة الأشراف!

 

إِمتياز كبير للإِسلام:

إِنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت إِتساعاً مضحكاً بحيث إِنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبامكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأُمور.

 

إِلاّ أنّ القرآن، في هذه الآية وفي آيات أُخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحقّ، بل ولا لرسول الله (ص) نفسه في أن يطرد أحداً أظهر إِيمانه ولم يفعل ما يوجب إِخراجه من الإِسلام، وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده، ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبداً.

 

والكلام هنا على "الطرد الديني" لا "الطرد الحقوقي" فلو كانت إِحدى المدارس وقفاً على طبقة خاصّة من الطلاب، وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط القبول فيه، ثمّ فقد بعض تلك الشروط، فان طرده وإِخراجه من تلك المدرسة لا مانع فيه، كذلك لو أنّ مدير مدرسة أُعطيت له صلاحيات معينة لغرض إِدارة شؤونها، فله كل الحقّ في الإِستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية مصالح المدرسة (فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية ممّا يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي).

 

الآية الثّانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأُمور إختبار لهم، فإِذا لم يجتازوا الإِمتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة، فالله يمتحن بعضهم ببعض: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض).

 

"الفتنة" تعني هنا الإِمتحان (4) وأي إِمتحان أصعب ممّا يمر به الأغنياء الذين كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا، فلا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم، بل حتى أنّهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم، أمّا الآن فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن، ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون بالطبقة الدنيا.

 

ثمّ تضيف الآية أنّ الأمر يصل بهؤلاء إِلى أنّهم ينظرون إِلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار (ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا) (5) ؟!

 

ثمّ تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أنّ هؤلاء الأشخاص أُناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل، كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول الله (ص) بقبولها، فأي نعمة أكبر، وأي شكر أرفع، ولذلك رسخ الله الإِيمان في قلوبهم: (أليس الله بأعلم بالشّاكرين).

 


1- معنى "الوجه" في اللغة معروف، ولكنّ الكلمة قد تعني "الذات" كما في هذه الآية، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد الثّاني من هذا التّفسير.

2- هود، 27.

3- الشعراء، الآيات 111 ـ 114.

4- لمزيد من الشرح أُنظر المجلد الثّاني في تفسير الآيتين 191 و193 من سورة البقرة.

5- أشرنا في تفسير الآية 164 من سورة آل عمران إلى أنّ "المنة" تعني في الأصل النعمة يهبها الله.