سبب نزول الآيات (11-12-13-14) من سورة الأحقاف

 

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {الأحقاف/11} وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ {الأحقاف/12} إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {الأحقاف/13} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأحقاف/14}﴾

 

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات:

1 - إنّ هذه الآية نزلت في "أبي ذر الغفاري" الذي أسلم في مكّة، ثمّ تابعته في الإيمان قبيلته - بنو غفار - ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا فقراء، قال كفار قريش - وكانوا أثرياء من أهل المدن -: لو كان الإسلام خيراً ما سبقنا إليه غفار الحلفاء، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.

 

2 - كانت في مكّة جارية رومية يقال لها "زنيرة" (1)، لبت دعوة النّبي (ص) إلى الإسلام، فقال زعماء قريش: لو كان ما جاء به محمّد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة.

 

3 - إنّ جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكّة، فقال أشراف مكّة: لو كان الإسلام خيراً ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.

 

4 - إنّ جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار، قد اعتنقوا الإسلام، فقال زعماء مكّة: أيمكن أن يكون دين محمّد خيراً ويسبقنا إليه هؤلاء؟

 

5 - إنّ عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا، قال جماعة من اليهود: لو كان دين محمّد خيراً ما سبقونا إليه (2).

 

ويمكن تلخيص أسباب النّزول الأربعة الأولى بالقول بأنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوداي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

 

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولاً ومعقولاً فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

 

والطريف أنّ نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجاً اليوم بين الأثرياء والمترفين فيما يتعلّق بالدين، حيث يقولون: إنّ الدين ينفع الفقراء والحفاة، وكلّ منهما ينفع صاحبه وينسجم معه، ونحن في مستوى أسمى منه وأعلى.

 

وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

 

أمّا سبب النّزول الخامس الذي ذكر أعلاه، والقائل بأنّ المراد هو عبد الله بن سلام وأصحابه، فمع أنّه نقل عن أكثر المفسّرين على قول الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، إلاّ أنّه يبدو بعيداً من جهتين:

الأولى: إنّ التعبير بـ (الذين كفروا) بصورة مطلقة يستعمل عادةً في مورد المشركين، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.

 

والأُخرى: إنّ عبد الله بن سلام لم يكن رجلاً مجهولاً أو ضعيف الشخصية بين اليهود ليقولوا فيه: إنّ الإسلام لو كان خيراً ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.


1- كانت "زِنيّرة" بكسر الزاي وتشديد النون من السابقات إلى الإسلام، ولذلك كان أبو جهل يؤذيها ويعذبها.

2- تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6009.