﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾ .. لماذا التقديم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
في قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ / أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾(1).
1- لماذا قدَّم الإناث في الآية الأولى، بينما قدَّم الذكران في الآية التي بعدها؟
2- ما سرُّ تعريف الذكور في الآية دون الإناث؟
3- ما معنى: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا﴾؟
الجواب:
المناشيء المحتملة لتقديم الإناث:
لعلَّ منشأ تقديم الإناث على الذكور في قوله تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾(2) كان رعايَّةً لفواصلِ الآيات، فالآية التي سَبَقَت هذه الآية انتهت بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ﴾(3) والآية التي لَحِقَت هذه الآية انتهت عند قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾(4) فتقديم الإناث على الذكور كان لغرضِ التحفُّظ على الإيقاع اللفظي للآيات، وذلك بِجَعلِ فواصلها ذات سجعٍ ونسَقٍ واحد، وهو ما يُضفي على الكلام جمالاً يُعبَّر عنه في عِلم البلاغة بالمُحَسِّن البديعي.
وثمَّة احتمالٌ آخر قد يكون مَنشأً للتَّقديم وهو المبالغة في التصحيح لثقافةٍ كانت رائجة في المجتمع العربي وهو أنَّ الإناث بلاءٌ ونقمةٌ، فليست هي مِن النِعَم المُستَحِقَّة للحمد، فمتى ما جاءت المرأة بأُنثى انتاب زوجها شعورٌ بأنَّه قد شُقيَ بهذا المولود، لذلك قال الله تعالى واصفًا الحال التي يكون عليها الرجل حينما يُبَشرُ بالأنثى ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ / يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾(5).
فأنْ يُبَشَّر الرجلُ بالأنثى فذلك مِن بواعث الغيظ وهو معنى الكظيم، فهي عنده سُبَّة وسَوْأة تَدفَعُ به إلى أنْ يتوارى عن الناس حتى لا يسألوه عنها وحتى لا يَرى في أعينهم التشفِّيَ منه أو الإشفاقَ عليه.
فالآيةُ المباركة جاءت لتصحيح هذه الثقافة، ولهذا وصفت الأنثى بالهبة، والهبةُ تستبطنُ في مدلولها اللغويِّ معنى الخير، فالشيء المُعطى حينما يكون شرَّاً وسوءً فإنَّه لا يُوصف بالهِبة، إذ انَّ ما يَصحُّ توصيفه بالهبة إنَّما هو العطيَّة التي يترتَّب عليها خيرٌ ونفعٌ للمُعطَى.
ولهذا يكون أثرها على نفس المُعطى هو الرضا والارتياح والشعور بالامتنان للمُعطِي، ذلك لأنَّه أسدى له جميلاً يستحِقُّ عليه الثناء.
فتوصيفُ القرآن الكريم للأنثى بالهبة كان لغرضِ التعبير عن أنَّها خيرٌ ونفعٌ لأبويها ولهذا ينبغي أنْ يكونَ الأثَرُ النفسي المترتِّب عن مجيئها هو الانبساط والابتهاج والشعور بالرضا والامتنان لواهبِها ومانحِها.
ثم إنَّ القرآن أراد التأكيد والمبالغة في التصحيح للثقافة الرائجة في الوسط العربي الجاهلي فقَدَّمَ الإناث على الذكور للتعبير عن أنَّ هبة الإناث لا تقلُّ شأنًا عن هبة الذكور.
فلو قَدَّمَ الذكور على الإناث في المقام لتوهَّمَ المتلقِّي للآية المباركة أنَّ القرآن وإنْ تصدى لتصحيح ما عليه العرب من توهُّم أنَّ الأنثى بلاءٌ ونقمةٌ وذلك لتوصيفه إيَّاها بالهبة إلا أنَّها ورغم ذلك لا ترقى لمستوى هبة الذكور.
فالقرآنُ أراد أنْ ينفيَ الوهم المقدَّر عن ذهن المتلقِّي للآية، فقدَّم الإناث على الذكور للتعبير عن أنَّ لهما شأنًا واحدًا عند الله تعالى، فينبغي أنْ يكون شأنُهما عند أبويهما كذلك.
وثمة احتمالٌ ثالثٌ لتقديم الإناث على الذكور وهو إرادة التأكيد على أنَّ الإنجاب خاضعٌ لمشيئةِ الله تعالى وحده فرُغم أنَّ رغبة الإنسان غالبًا ما تتعلَّق بالذكور دون الإناث إلا أنَّ ذلك ليس خاضعًا لرغبتِه فهو تعالى وحده مَن يقدِّر متعلَّق الهبة.
فتقديم الإناث كان لغرض التعبير عن أنَّ الأمر بيده وأنَّه يجري بمقتضى تقديره وإرادته لا أنَّه يجري بمقتضى تقدير الإنسان وإرادته وإلا لكان مريدًا للذكور دون الإناث أو مريدًا لتكثير الذكور وتقليل الإناث.
منشأ تقديم الذكور في ذيل الآية:
وأمَّا منشأُ تقديم الذكور في ذيلِ الآية على الإناث فلعلَّه لغرضِ التأكيد أيضاً على أنَّ أمر الإنجاب خاضعٌ لمشيئته فهو تارةً يقدِّر تقديم الإناث على الذكور وأُخرى يُقدِّر تقديمَ الذكور على الإناث، وقد يكون منشأُ تقديمِ الذكور في ذيل الآيةِ هو بيان أنَّ تقديم الإناث في صدر الآية لم يكن لغرض التفضيل وإلا لاقتضى ذلك التقديم مطلقًا، فهو يُقدِّم الإناث تارةً في الذكْر ويؤخِّر ذِكرَهنَّ تارةً أخرى للتعبير عن أنَّه لا فَرق عنده بين الذكور والإناث.
تعريف الذكور دون الإناث:
وأمَّا تعريف الذكور فلانَّ الإنسان المخاطَب بمقتضى ثقافته يرجو من زواجه الذكور، ولهذا كان هذا المعنى حاضرًا في ذهنه، فالمُناسب بمقتضى اللغة هو التعريف بلامِ العهد المعبَّر عنه بالعهد الذهني، فحينما يكون الشيء حاضراً في الذهن لأيِّ سببٍ كان فإنَّ المُناسب لغةً هو تعريفُه لغرضِ الإشارة إلى أنَّ المقصود من الخطاب هو ذلك الشيء المعهود.
المراد من الآية: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا﴾
وأمَّا ما هو المراد من قوله تعالى: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾(6) فهو أنَّه تعالى قد تتعلَّق مشيئتُه بأنْ يهب لبعض عباده ذكورًا واناثًا، وذلك في مقابل من يهبهم ذكورًا دون إناث أو اناثًا دون ذكور.
فقولُه: ﴿يُزَوِّجُهُمْ﴾ من المزاوجة والتي تعني الجمع، فهو تعالى يجمع لهم هبة الذكور وهبة الإناث.
فالناس كما أفادت هذه الآية والتي قبلها على أحوالٍ أربعة، فمنهم من يهبُه اللهُ تعالى ذكورًا وحسب، ومنهم من يهبُهم إناثًا ولا يهبُهم ذكورًا، ومنهم من يجمعُ لهم إناثًا وذكورًا، وهم الصنفُ الثالث، ومنهم من يكون عقيماً فلا يهبُه الله تعالى ذكرًا ولا انثى.
فليس معنى التزويج في الآية هو النكاح كما قد يتَوهَّم من لا معرفةَ له بسياقات الكلام العربي بل هو بمعنى الجمع والتقارن، فهو بمعنى أنَّ الله تعالى يَهبُ لبعض عباده بناتٍ وبنين أي أنَّه يُزاوج له في الهبة فيهبُه من كلا الجنسين.
والحمد لله رب العالمين
من كتاب: شؤون قرآنية
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الشورى / 49-50.
2- سورة الشورى / 49.
3- سورة الشورى / 48.
4- سورة الشورى / 50.
5- سورة النحل / 58.
6- سورة الشورى / 50.