﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ذكر بعضهم انَّ قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(2) معناه وراثة سليمان لنبوَّة داود وعلمِه وملكه وقال: إنَّه يصحُّ استعمال كلمة الوراثة في ذلك كما في قول النبيِّ (ص): "العلماء ورثة الأنبياء".

 

الجواب:

المعنى الحقيقي للميراث:

لا ريب في ظهور الآية المباركة في أنَّ المراد من قوله تعالى ﴿وَوَرِثَ﴾ هو المعنى الحقيقي للميراث والذي هو انتقال أموال الميِّت الى أقربائه، وأيُّ معنًى آخر يُراد حمل لفظ الميراث عليه يكون هو المفتقر للقرينة، وذلك لانَّ حمل اللفظ على غير معناه الحقيقي يكون من حمل اللفظ على غير ما وُضع له، وهو ما يُعبَّر عنه بالمجاز، وهو خلاف الاصل، إذ انَّ الاصل هو استعمال كلِّ لفظٍ فيما وُضع له أي في معناه الحقيقي، فإذا أراد المتكلِّم تجاوز المعنى الموضوع له اللفظ فإنَّ عليه أنْ ينصب قرينةً على مراده وإلا كان كلامه جاريًا على خلاف ما تقتضيه قواعد اللَّغة، وعلى خلاف ما عليه العقلاء من أهل المحاورة وأرباب الخطاب، وذلك ما يُنزَّه عنه القرآن الكريم حيثُ يجب الاعتقاد في أنَّ آياته كانت في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

 

إدّعاء المعنى المجازي:

ونظرًا لوضوح ما ذكرناه وأنَّه لا محيص عن التسليم به لذلك تصدَّى الكثير من علماء العامة للفحص عن القرينة التي يصحُّ التعويل عليها لصرف ظهور استعمال الآية لكلمة الميراث عن معناها الحقيقي، فما منهم من أحد الا وهو مذعنٌ بأنَّ المعنى الحقيقي للفظ ﴿وَوَرِثَ﴾ هو انتقال أموال الميِّت إلى ورثته إلا أنَّهم يزعمون أنَّ القرآن استعمل هذا اللفظ في هذه الآية في غير معناه الحقيقي ولذلك وجدوا أنفسهم مُلزَمين ببيان القرينة على إرادة الآية للمعنى المجازي دون المعنى الحقيقي.

 

فتمحَّلوا لذلك قرائنَ ادَّعوا أنَّها صالحة لاثبات أنَّ المراد من الميراث في الآية هو انتقال النبوَّة أو العلم أو الحكمة وليس هو انتقال المال.

 

القرائن المزعومة على المعنى المجازي:

والقرائن التي ذكروها بعضها قرائن خارجيَّة اي أنَّها مستفادة من غير مساق الآية المباركة، وبعضها قرائن داخليَّة أي أنَّها مستفادة من سياق الآية المباركة.

 

أولا: القرائن الخارجية:

1- الأنبياء لا يورثون!

استدلُّوا بالحديث المنسوب للنبي (ص): "نحن معاشر الانبياء لا نوِّرث"(3).

 

الردّ:

وهذا الحديث لم يرد من طرقنا فلا يصحُّ الاحتجاج به علينا بل إنَّه قد ثبت عندنا انَّ السيِّدة فاطمة وأهل البيت (ﻉ) قد كذَّبوا هذا الخبر(4) ووصفوه بالوضع.

 

فهو ساقطٌ عن الحجيَّة عندنا قطعًا.

 

ومما يؤيِّد أنَّ هذا الحديث كان موضوعاً هو أنَّ نساء النبي (ص) أرسلن عثمان بن عفان أو أردن انْ يرسلنه الى أبي بكر يسألنه ميراثهنَّ من رسول الله (ص) وقد روى ذلك الكثير من المحدِّثين كالبخاري في صحيحه وابن حبَّان في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهم(5).

 

فكيف يخفى على عليٍّ (ع) وفاطمة (ع‌) ونساء النبيِّ (ص) مجتمعات سوى عائشة أنَّ النبيَّ (ص) لا يورِّث؟! أيصحُّ القبول بذلك رغم أنَّهم مورد الابتلاء بهذه المسألة والسكوت عن بيانها لهم يقتضي الجري على وفق ما تقتضيه قاعدة التوارث المنصوص عليها في القرآن، هل أراد النبيُّ (ص) إحراجهم فخصَّ بيان حكم هذه المسألة بغيرهم؟! أو أنَّهم علِموا بحكم هذه المسألة ولكنَّهم أرادوا الاستحواذ على غير ما يستحقُّون؟! أو أنَّهم جميعاً علياً وفاطمةَ ونساء النبيِّ الثمان نسوا مجتمعين حكم هذه المسألة رغم أنَّ النبي (ص) قد بيَّنها لهم، أيصحُّ القبول بذلك؟!

 

إنَّ خصوصيَّة هذه المسألة بهم وعدم اشتمالها على تفاصيل تقتقضي النسيان لبعضها، فهي ليست أكثر من نفي التوارث مع الالتفات الى ما لِنفي التوارث عن الوارث من وقْعٍ على نفسه، إنَّ كلَّ ذلك يجعل من احتمال النسيان مستبعَداً غايته، خصوصاً بعد افتراض اجتماعهم على النسيان وبعد الالتفات الى انَّ أحدهم هو عليُّ بن أبي طالب (ع) الذي وصفه الرسول بباب مدينة علمه(6).

 

2- كان لسليمان (ع) أولادٌ كثيرون:

واستدلوا أيضًا بأنَّ لداود (ع) أولادًا كثيرين، فلو كان المراد من وراثة سليمان لداود هي وراثة المال لما كان لسليمان خصوصيَّة، إذ أنَّ استحقاق الميراث يكون لجميع الاولاد وليس لبعضهم دون البعض الآخر، ولذلك يتعيَّن إرادة الوراثة للنبوَّة، فهي التي اختصَّ بها سليمان دون سائر اخوته.

 

الردّ:

والجواب عن ذلك أنَّه لم يثبت أنَّ لداود (ع) أولادًا كثيرين وإنَّ ما ورد في ذلك لا يعدوا خبر الآحاد الذي لم تثبت صحَّته عندنا(7) بل وكذلك لم تثبت صحَّته عندهم فهو عندهم خبرٌ مرسل أرسله مثل الكلبي وقتادة(8) كما ذكر ذلك بعض المفسِّرين منهم على أنَّه لم يُنسب للرسول الكريم (ص) فهذا الخبر في أدنى درجات الضعف.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ الآية المباركة لم تنفِ الوراثة عن بقية أبناء داوود (ع) لو كان له أبناء فإنَّ أقصى ما أفادته الآية هو أنَّ سليمان ورث داود، فهي قضية إثباتيَّة أي أنَّها ظاهرة في إثبات وراثة سليمان لداود، وإثبات شيءٍ لشيء لا يدلُّ على نفي ذلك الشيء المثبَت لغيره.

 

فلو قيل إنَّ زيدًا شاعر، فإنَّ ذلك لا يقتضي أنَّ عمرًا ليس بشاعر، وهكذا لو قيل إنَّ زيدًا ورث أباه فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ اخا زيدٍ لم يرث أباه.

 

بل لانَّ المتكلِّم كان بصدد الحديث عن زيد وأحواله لذلك أفاد انَّ زيدًا ورث اباه، فلا دلالة لكلامه على أنَّ اخوة زيد لم يرثوا أباهم، نعم لو كان في الخطاب ما يقتضي الحصر لأفاد كلامُه نفي الوراثة عن بقية إخوة زيد إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك بحسب الفرض، وهكذا الحال بالنسبة للآية المباركة فإنَّها لم تشتمل على ما يقتضي الحصر وكلُ ما أفادته الآية أنَّ سليمان ورث داود، لذلك لو ورد لنفس المتكلِّم خطاب آخر في مقامٍ آخر أفاد فيه أنَّ غير سليمان من أبناء داود قد ورثوه لما عُدَّ ذلك بنظر العرف تناقضًا بين الكلام الاول والثاني.

 

فالمصحِّح للتنصيص على وراثة سليمان وإغفال سائر اخوته لو كان له اخوة هو أنَّ القرآن كان بصدد الحديث عن أحوال سليمان ولم يكن بصدد الحديث عن أحوال إخوته، فلا يكون إهمالهم في الذكر قرينة على أنَّ مراده من الوراثة هو ما اختصَّ به سليمان دون سائر إخوته والتي هي النبوَّة، فلأنَّ القرآن كان في مقام الحديث عن أحوال سليمان (ع) لذلك فهو غير معنيٍّ بالحديث عن أحوال إخوته.

 

3- العلماء ورثة الأنبياء، ولم يرثوا مالاً!

ومن القرائن الخارجية التي تمسَّك بها بعضهم هي ما رُوي عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "العلماء ورثة الانبياء"(9) فالنبيُّ (ص) قد قصد من ذلك وراثة العلم، إذ أنَّ الانبياء لم يورِّثوا للعلماء مالاً، وكذلك هو الشأن في داود (ع)، فهو إنَّما ورَّث ابنه سليمان العلم والنبوَّة.

 

الردّ:

والجواب عن ذلك هو أنَّ الاستدلال بمثل هذا الحديث ينبغي أنْ يُعدَّ من الغرائب، لأنَّه من الاستدلال على أمرٍ أجنبيٍّ عن محل النزاع، إذ أنَّ أحدًا لم يدَّع أنَّ الوراثة لا تُستعمل في وراثة العلم إذا كان في الكلام قرينة على إرادته دون إرادة الوراثة للمال، ومن الواضح أنَّ الحديث قد اشتمل على قرينة تدلُّ على إرادة النبيِّ (ص) لوراثة العلم دون وراثة المال لذلك فاستعمال النبيِّ (ص) للفظ الوراثة كان استعمالاً مجازيًا دون ريب، وكون اللفظ قد استُعمل في المعنى المجازي لا يدلُّ على أنَّه قد استُعمل في المعنى المجازي في تمام موارد الاستعمال، ولذلك لا يصحُّ الاستدلال على أنَّ زيدًا أراد من قوله رأيت أسدًا أنَّه أراد الرجل الشجاع لانَّه قد قال هو أو قال غيره في موردٍ من الموارد انَّ أسدًا في المدينة يضرب بالسيف، فإنَّ المراد من الأسد في قوله إنَّ أسدًا يضرب بالسيف هو الرجل الشجاع دون ريب إلا أنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّه كلَّما استعمل لفظ الأسد كان مراده الرجل الشجاع بل لا بدَّ من ملاحظة كلِّ استعمالٍ على حده فإنْ كان مشتملاً على قرينةٍ تدلُّ على إرادة الرجل الشجاع وإلا تعيَّن كون المراد من الأسد هو معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس.

 

فالمقام من هذا القبيل فالنبيُّ (ص) قد استعمل لفظ الوراثة في معنًى مجازي وكان كلامه مكتنفًا بقرينة تدلُّ على ذلك، وأمَّا الآية فإنَّها لم تكتنف بقرينة تدلُّ على إرادة المعنى المجازي من لفظ الوراثة لذلك لا يصحُّ حمل لفظ الوراثة على المعنى المجازي بل يتعيَّن حمله على إرادة المعنى الحقيقي للفظ الوراثة، ومجرَّد استعمال النبيِّ (ص) للفظ الوراثة في المعنى المجازي لا يقتضي إرادة المعنى المجازي في كل موردٍ اسْتُعمل فيه لفظ الوراثة.

 

وما ذكرناه أوضح مِن انْ يحتاج الى بيان لولا خشية التوهُّم مِمَّن لاحظ له بمعرفة أصول الكلام وضوابط اللغة.

 

ثانيا: القرائن الداخلية:

وأمَّا القرائن الداخليَّة فهي قرينة واحدة تمسَّك بها البعض لاثبات دعوى أنَّ المراد من الوراثة في الآية هي وراثة العلم والنبوَّة، وحاصل هذه القرينة المدَّعاة هي أنَّ الآية وقعت في سياق بيان ما امتنَّ اللهُ تعالى به على داود وسليمان وما اختصَّا به من فضلٍ، فأفادت الآية التي سبقت آية الوراثة أنَّ الله تعالى آتى داود وسليمان علمًا ثم اشارت على تفضيلهما على كثيرٍ من عباده المؤمنين وبعد أنْ أخبرت الآية عن وراثة سليمان لداود أشارت الى أنَّ الله تعالى علَّمهما منطق الطير وآتاهما من كلِّ شيء وأنَّه تعالى حشر لسليمان جنودًا من الجنِّ والانس والطير.

 

فالوراثة وقعت في سياق التعداد لنعمٍ لم تكن قد اُعطيت لكثيرٍ من عباد الله فالمناسب أنْ يكون المراد مِن الوراثة هي وراثة العلم والنبوَّة، إذ أنَّ وراثة الابن لاموال أبيه ليست من المِنح ذاتِ الشأن لعدم اختصاص سليمان (ع) بها دون غيره، ولانَّها إذا ما قِيست الى النعم التي وقعت الوراثة في سياقها فإنَّها تُعدُّ من النعم المُستحقرَة فيكون التنويه عليها مُستهجَناً لو كان المراد منها وراثة المال، ولذلك يتعيَّن المراد في وراثة النبوَّة والعلم والحكمة.

 

الردّ:

والجواب عن هذه القرينة نقضيٌ وحلَّي:

الجواب النقضي:

أما الجواب النقضي فنذكر له نموذجين:

 

النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ / وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾(10) فقوله تعالى: ﴿وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ والذي هو مثل الطعام والشراب وقع في سياق تعداد ما أنعم الله به على بني اسرائيل فما سبق هذه النعمة في الذكر هي أنَّ الله تعالى أنزل عليهم الكتاب وأعطاهم الحُكم والمُلك وجعل فيهم النبوَّة ثم بعد ذلك نوَّه على أنَّه رزقهم الطعام الطيب والشراب ثم أفاد أنَّه فضلهم على العالمين وآتاهم بيناتٍ من الأمر.

 

فإطعام بني اسرائيل للطيِّب من الطعام إذا ما قيس الى النعم التي عدَّدتها الآية فإنَّها لن تكون من النعم ذات الشأن ورغم ذلك نوَّهت عليها الآية في سياق التنويه على النعم الكبرى التي أنعم اللهُ تعالى بها على بني اسرائيل.

 

فالكتاب الذي نزل على بني اسرائيل هو التوراة والذي وصفه القرآن بالامام والرحمة في قوله تعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾(11) ووصفه بالهدى والنور والشريعة التي يحكم بها النبيون الذين جاؤوا من بعد موسى (ع) قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ﴾(12).

 

وقال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(13) وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾(14).

 

وأما الحكم فهو أنَّه تعالى أهلك عدوَّهم فرعون والذي كان يسومهم سوء العذاب، يذبِّح ابناءهم ويستحيِّي نساءهم ويقطِّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم ملَّكهم وجعلهم الوارثين قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾(15).

 

وأمَّا النبوَّة فكانت فيهم منذ أنَّ بعث الله تعالى اليهم نبيَّه يعقوب (ع) ثم في ذريته، وظلَّت تتعاقب فيهم دون انقطاع الى أنْ بُعث منهم موسى (ع) ثم تعاقبت النبوات في بني اسرائيل الى انْ استقرَّت في زكريا وبعده يحيى وعيسى والمسيح (ع).

 

وأمَّا البيِّنات من الأمر فهي المعجزات التي أظهرها لهم على أيدي أنبيائهم ليبصِّرهم طريق الحق والهدى.

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(16).

وقال تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾(17).

 

وقال تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(18).

 

ففي سياق تعداد النعم العظمى التي أنعم اللهُ بها على بني اسرائيل نوَّهتْ الآية من سورة الجاثية على أنَّه تعالى رزقَهم من الطيبات وهي نعمةٌ إذا ما قيست الى النعم التي عدَّدتها الآية لا تكون ذات شأن خصوصًا وأنَّ الله تعالى قد أكرم بها أكثر عباده قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾(19).

 

فلم يكن بنو اسرائيل وحدهم مَن رزقهم الله تعالى من الطيِّبات، فكان المناسب عدم التنويه على هذه النعمة في سياق التنويه على النعم العظمى التي انعم الله بها على بني اسرائيل لوصحَّ ما ذكره هذا الذي ادَّعى أنَّ المراد من وراثة سليمان لداود هي وراثة النبوة لانَّ من غير المناسب إرادة الوراثة للمال لانَّها إذا ما قيست الى النعم التي عدَّدتها الآية لكانت مستحقرة.

 

النموذج الثاني: قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾(20).

 

فهذه الآية المباركة بدأت بالاشارة الى أمرٍ عظيم لم يكن مسبوقًا في تاريخ الرسالات بل ولا اتفق وقوعه بعد ذلك وهو أنَّه تعالى قدَّر أن تلد مريم (ع) بغير زوج، فكان مولودها آيةً في تخلُّقه وولادته، وهو آية حيث تكلَّم في المهد وهو آية حيث آتاه الله تعالى علم الكتاب والنبوَّة في المهد، وهو آية لانَّه كان يُبرء الأكمه والأبرص بإذنِ الله ويُحي الموتى بإذنِ الله ويخلق من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله ثم أنَّه تعالى وفي سياق التنويه بهذه الآيات العظمى قال: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾(21).

 

أي أنَّه تعالى اسكنهما موضعًا مستقرًا وفيه ماء.

 

فإما أنْ تكون دمشق أو فلسطين أو ظهر الكوفة أو أيُّ موضعٍ من بلاد الله تعالى، فإنَّ هذا الامر لا يكون ذو بالٍ إذا ما قيس الى ما بدأت به الآية المباركة من التنويه على أنَّه تعالى جعل ابن مريم وأُمه آية، على أنَّ الإيواء الى تلك الربوة ذات المعين لم تكن قد مُنحت لابن مريم وامه (ع) دون غيرهما.

 

ومن ذلك يتَّضح انتقاض ما تمسَّك به مدَّعي إرادة النبوَّة من الوراثة في قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(22).

 

إذ أنَّ هذه الآية وهي قوله ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ﴾ قد أشارت الى أمرٍ ليس بذي بالٍ إذا ما قيس الى الأمر الاوَّل الذي نوَّهت عليه الآية المباركة وهو أنَّه تعالى جعل ابن مريم وأمَّه آية.

 

فكما صحَّ التنويه في الآية المباركة على أمرين أحدهما ليس بذي بالٍ اذا ما قيس الى الأمر الآخر فإنَّه يصحُّ أنْ ينوِّه الله تعالى في آية الوراثة على وراثة المال رغم أنَّه ليس بذي بالٍإاذا ما قيس الى المِنح الالهية الأخرى التي أعطاها لداود وسليمان (ع).

 

الجواب الحلِّي:

وأمَّا الجواب الحلِّي عن القرينة المذكورة فهو أنَّ الآية ليست ظاهرة في أنَّها بصدد تعداد ما أنعم الله تعالى به على داود وسليمان وإنَّما هي بصدد الحديث عن بعض أحوال داود وسليمان، نعم مآلُ البيان لاحوالهما هو الوقوف على ما أنعم اللهُ تعالى به عليهما، إلا أنَّ ذلك شانٌ آخر.

 

والقرينة على انَّ الآيات كانت بصدد البيان لاحوال داود وسليمان هو أنَّ الآيات بدأت بالإخبار عن أنَّ الله تعالى قد آتاهما علمًا ثم أخبرت عن أنَّهما حمدا الله تعالى على هذه النعمة ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(23) فهذه الفقرة إنَّما تُناسب البيان للحال ووقع في سياق ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(24) ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾(25) فقوله تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا﴾(26) بيانٌ لبعض أحوال سليمان (ع).

 

فما سبق قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(27) وما لحِقه واقعٌ في سياق البيان لحال سليمان (ع)، وذلك ما يؤكِّد دعوانا أنَّ الآية بصدد بيان بعض أحوال سليمان ولم تكن بصدد التعداد للنعم.

 

ويؤكِّد ذلك أيضًا الآيات التي تلت قوله ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(28) وهي سبعٌ وعشرون آيةً كلها تتحدث عن أحوال سليمان.

 

فبعد قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(29) قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ / حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾(30) ثم بعد ذلك قال تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾(31) ثم قال تعالى بعد آيات: ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾(32) ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾(33) ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾(34) الى ان قال تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(35).

 

فالآيات كما تلاحظون ظاهرة جدًا في أنَّها كانت بصدد البيان لأحوال سليمان (ع) وبذلك يسقط منشأ استظهار إرادة الوراثة للنبوَّة من قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(36) فهي ليست بصدد التعداد للمنح الالهية التي خصَّ الله بها سليمان (ع) حتى يُقال إنَّ وراثة الابن لابيه من الشؤون التي تتفق لاكثر الناس فيكون التنويه عليها مستهجنًا، وليست بصدد التعداد للنعم الالهية التي فضَّل الله بها سليمان على كثيرٍ من عباده حتى يكون التنويه على الوراثة بمعناها الحقيقي مستهجنًا نظرًا لوقوعها في سياق نِعَمٍ لو قيست الوراثة بمعناها الحقيقي اليها لكانت من النعم المُستحقرَة التي لا يُناسب التنويه عليها في سياق التنويه على النعم الالهية الكبرى.

 

فهذه الدعوى وانْ لم تكن تامة حتى لو كانت الآيات بصدد التعداد للنعم الالهية لكنَّه لو سلَّمنا جدلاً بتماميتها إلا أنَّ الواضح انَّ الآيات لم تكن بهذا الصدد وانَّما كانت بصدد البيان لأحوال سليمان (ع) وحينئذٍ ينتفي المقتضي لاستهجان الإخبار عن وراثة سليمان لابيه داود (ع).

 

النتيجة:

وبما ذكرناه يتضح أنَّه لا موجب لصرف ظهور قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(37) عما يقتضيه المعنى الحقيقي للفظ الوراثة، حيث ذكرنا أنَّ أيَّ معنًى آخر غير المعنى الموضوع له لفظ الوراثة يكون استعمال لفظ الوراثة فيه استعمالًا مجازيًا ولهذا فهو مفتقر الى قرينة، فمع عدم نصب القرينة على إرادة المعنى غير الموضوع له يكون المتعيَّن هو حمل الاستعمال على إرادة المعنى الحقيقي كما هو مقتضى أُصول الكلام وضوابط اللغة، وحيث لا قرينة على إرادة غير المعنى الحقيقي في المقام لذلك فالمتعيَّن هو استظهار إرادة الوراثة الحقيقية من الآية المباركة.

 

وبذلك يثبت المطلوب.

 

مؤيّدات المعنى الحقيقي:

ثم إنَّ البناء على إرادة الوراثة الحقيقية من الآية وإن لم يكن بحاجةٍ الى دليل بعد عدم قيام القرينة على إرادة المعنى المجازي إلا انَّه ورغم ذلك نُشير الى عددٍ من المؤيِّدات على إرادة الوراثة الحقيقية من الآية المباركة:

 

المؤيد الأول: عدم استعمال لفظ التوريث في جعل النبوَّة

أنَّه لم يُعهد من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة استعمال التوريث في جعل النبوة، ولا يصح الاستدلال بهذه الآية وبآية ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾(38) لانَّهما محلُّ النزاع، فالقرآن عندما يُخبر عن اعطاء النبوَّة لأحدٍ فإنَّه يعبِّر عن ذلك بالاصطفاء والاجتباء والاختيار أو ما يناسب هذه المفردات.

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(39) وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ﴾(40) وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾(41) وقال تعالى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(42).

 

فلم يُعهد عن القرآن انَّه عبَّر عن الاعطاء للنبوة بالتوريث نعم عبَّر القرآن عن تمكين المستضعفين بالتوريث فقال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾(43) وقال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ..﴾(44).

 

وعبَّر القرآن عن اعطاء الكتاب لأُمم الانبياء بالتوريث قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ..﴾(45).

 

إلا انَّه لم يعبِّر عن اعطاء النبوة لأولاد الانبياء بالتوريث رغم أنَّ الكثير من أولاد الانبياء قد جُعلت لهم النبوَّة كما جُعلت لآبائهم.

 

قال تعالى حكاية عن ابراهيم (ع): ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾(46) وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾(47) وقال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ..﴾(48).

 

فهذه الآيات كما تلاحظون عبَّرت عن اعطاء النبوة لأولاد ابراهيم (ع) بالجعل فلم تُعبِّر هذه الآيات رغم اختلاف مواردها عن اعطاء النبوة بالتوريث.

 

وقال تعالى حكاية عن عيسى (ع): ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ..﴾(49).

 

فلم يعبِّر القرآن عن جعل النبوَّة لعيسى (ع) بالتوريث رغم انَّ عيسى (ع) كان من آل عمران.

 

نعم ورد في السنَّة التعبير عن اعطاء العلم بالتوريث وليس عن اعطاء النبوَّة، وذلك في الحديث المروي عن النبي (ص): "العلماء ورثة الانبياء"(50) إلا انَّ إرادة التوريث للعلم من قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(51) في غاية البُعد نظرًا لتقدم الاشارة الى اعطاء العلم لسليمان وداود في الآية التي سبقت هذه الآية قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(52) ثم قال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(53) فدعوى أنَّه ورث علمه معناه انَّ في الآية تكرار لا موجب له، على أنَّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾(54) إنَّ إيتاء سليمان (ع) للعلم كان في حياة أبيه داود وانَّ العلم الذي آتاه الله تعالى داود هو عينه الذي آتاه سليمان (ع) فأيُّ معنًى حينئذٍ لوراثته داود، ويؤيِّد ذلك أنَّه تعالى بعد أنْ حكى عن إيتائه العلم لكلٍّ مِن داود وسليمان أخبر عن انَّهما ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(55) فإنَّ ظاهر ذلك انَّ الحمد قد صدر عنهما في زمن واحد أو متقارب.

 

ثم إنَّ ما يؤكد إيتاء الله تعالى العلم لسليمان في حياة أبيه داود قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ / فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(56) فالآية المباركة تُشير الى خصومةٍ قد وقعت في عهد داود وأنَّ كلاً من داود وسليمان قد حكما في هذه الخصومة فأفادت الآية انَّ الحكم الذي حكم به سليمان (ع) في الواقعة من تفهيم الله تعالى له ثم أفادت أنَّ كلاهما قد آتاه الله تعالى الحكم والعلم فهي صريحة في أنَّ الله قد آتى سليمان العلم والحكم في عهد أبيه داود (ع) ومن ذلك يتأكد أنَّ وراثة سليمان لداود لم تكن وراثةً لعلمه.

 

المؤيد الثاني: إنّ سليمان (ع) كان نبيَّاً في حياة داود (ع)

أنَّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(57) أنَّ سليمان كان نبيًا في عهد أبيه داود (ع) وذلك بقرينة أنَّ الله تعالى اسند تفهيم سليمان الى نفسه وكان ذلك اشارة الى قضيةٍ حكَمَ فيها داود بحكم، ولا يصحُّ لسليمان أنْ يأتي بحكم مخالفٍ لحكم نبيِّ الله تعالى داود إلا عن وحي من الله تعالى، إذ أنَّ ما حكم به داود (ع) إما انْ يكون وحيًا كما هو الصحيح أو يكون اجتهادًا كما ذكر البعض، فلو كان ما حكم به داود (ع) وحيًا من الله تعالى فحينئذٍ لا يصح لسليمان (ع) أنْ يأتي بحكمٍ مخالفٍ لوحي الله تعالى استنادًا الى اجتهاده ورأيه، وانْ كان ما جاء به داود من حكمٍ صَدَر عنه اجتهادًا فهو حجَّة أيضًا لانَّ الله تعالى قد جعله حاكمًا قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(58) فلا يصح نقض اجتهاده باجتهادٍ مثله، فلا بدَّ وانْ يكون ما جاء به سليمان (ع) من حكمٍ مخالفٍ لحكم داود قد تلَّقاه بواسطة الوحي، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(59).

 

واذا ثبت أنَّ تفهيم سليمان (ع) كان بالوحي من الله تعالى ثبت أنَّه نبي، لأنَّ الوحي لا يكون إلا للانبياء.

 

وببيان أكثر استحكامًا: إنَّ سليمان (ع) علِم بحكم داود في الخصومة التي كانت بين صاحب الغنم وصاحب الزرع، فسليمان (ع) إما انْ يكون قد علِم بأنَّ داود قد فصل في الخصومة، وإمَّا أن يكون قد علم بحكم داود الذي عقد العزم على أنْ يفصل به -على اختلاف الروايات(60)- وعلى كلا التقديرين فإنَّ ما حكم به داود يكون مطابقًا للحق جزمًا نظرًا لعصمته، فلا يصح لغيره أنْ ينقض حكمه بل ولا يصح له التنظُّر في حكمه، لانَّ ذلك يساوق التنظُّر في حكم الله تعالى بعد التسليم بعصمة الانبياء، وعليه لو صحَّ لسليمان أن يتنظَّر في حكم داود اعتمادًا على اجتهاده ورأيه لصحَّ لكلِّ أحدٍ في زمن داود ان يتنظَّر في حكمه اعتمادًا على اجتهاده ورأيه، إذ لا فرق بين سليمان وغيره لو لم يكن سليمان (ع) نبيًا اعتمد في معاودة داود على ما عنده من علم النبوة أو ما تلَّقاه من وحيٍّ في شأن هذه القضية.

 

وبذلك يثبت أنَّ تفهيم الله تعالى لسليمان كان تعبيرًا عن نبوَّته، وحيث أنَّها كانت في عهد داود (ع) فلا معنى لتوريثه إياها بعد موته والحال أنَّها ثابتة له في حياته.

 

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ ابداء سليمان لحكمٍ في مقابل حكم نبيِّ الله ثم تصدِّي القرآن لامتداح حكمه وترجيحه على حكم داود وإسناد تفهيمه الى الله تعالى ظاهرٌ جدًا في أنَّ الحكم الذي جاء به سليمان في مقابل حكم داود كان قد تلَّقاه وحيًا من عند الله تعالى، وذلك لا يتفق إلا للانبياء، وحينئذٍ كيف يصحُّ القول بأنَّ سليمان قد ورث النبوةَ من داود والحال أنَّه كان واجدًا لها في عهد داود (ع).

 

المؤيد الثالث: دعاء زكريا بطلب الوارث الرضيّ

قوله تعالى على لسان زكريا (ع): ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا / يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾(61) فإنَّ الوراثة في هذه الآية المباركة ظاهرةٌ جدًا في الوراثة الحقيقية، ولذلك فإنَّ الكثير من مفسِّري العامة مِمَّن فسر آية ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(62) بوراثة النبوة ذهب إلى أنَّ المراد من الوراثة في هذه الآية هي الوراثة الحقيقية(63).

 

ويمكن التأكيد على أنَّ المراد من الوراثة في هذه الآية هي الوراثة الحقيقية بهذه القرينة وهي أنَّ زكريا بعد انْ سَأل ربَّه ولدًا يرثه سَال ربَّه انْ يجعل هذا الولد رضيًا، فلو كان مراده من قوله (يرثني) هو أنَّه يرثه في النبوَّة فحينئذٍ لا معنى لانْ يسأل ربَّه بعد ذلك أنْ يكون رضيَّا، إذ أنَّه لن يكون نبيَّا حتى يكون رضيَّا، فالرضيُّ إما أنْ يكون بمعنى الرضيُّ لله تعالى أو المرضيَّ لزكريا أو يكون بمعنى الراضي بأمر الله وقضائه أو بمعنى المرتضى لخدمة الله وعبادته أو بمعنى الصالح والزكي أو بما يقرب من هذه المعاني التي ذكرها المفسِّرون.

 

وكل هذه المعاني تكون مُستَدرَكةٌ لو كان مراد زكريا (ع) من قوله ﴿يَرِثُنِي﴾ هو أنَّه طلب أنْ يرثه في النبوَّة، فليس من نبيٍّ إلا ويكون واجدًا لهذه الصفات وأكثر منها، فلا معنى لسؤالها بعد أنْ سأل لولده انْ يكون نبيًّا.

 

وبذلك يثبت أنَّ مقصوده من قوله ﴿يَرِثُنِي﴾ هو الوراثة الحقيقية فهي التي لا يستلزم سؤالها أنْ يكون الولد الوارث رضيًا، فلذلك اتَّجه وحَسُنَ أنْ يسأل لولده الاتصَّاف بالرضي.

 

وأمَّا ما ذكره البعض من استبعاده إرادة الوراثة الحقيقية من الآية نظرًا لما هو المعروف عن زكريا أنَّه كان نجارًا ولم يكن من أهل الثروة حتى يحرص على أنْ يكون له ولد يرث أمواله، ولو كان لزكريا (ع) ثروة فإنَّ من المُستبعد أيضًا على مثل زكريا (ع) أنْ يخشى على أمواله من الضياع بعد موته بحيث يدفعه ذلك الى أنْ يسأل الله تعالى ولدًا يرث أمواله فإنَّ ذلك من الحرص على حطام الدنيا وهو ما يتنزَّه الانبياء عنه.

 

إلا أنَّ هذا الاستبعاد ينتفي بمجرَّد الالفتات إلى انَّ من المحتمل -قويَّا- أنْ يكون منشأ حرصه على أنْ يكون له ولد رضي يرث أمواله أنَّ في امواله ما يضنُّ بها على الضياع وأن تتحول إلى من لا يرعاها من بني عمومته(64) أو يعمد الى تبديدها أو إتلافها أو تحريفها فإنَّ صريح قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي﴾(65) أنَّ بني عمومته وعصبته لم يكونوا من أهل الصلاح بل ظاهرها أنَّهم من الأشرار.

 

فإذا كان في أمواله ما كان يكتبه من وحي الله تعالى، وكان في أمواله ما صار في يده من تراث الانبياء الذين سبقوه أو كان في أمواله بعض مدَّخرات الأنبياء والأوصياء من سلاحٍ أو لباسٍ، فأيُّ محذور في أنْ يخشى على مثلها من أن تصير في ايدي غير الصالحين من بني عمومته (الْمَوَالِيَ) وما هو المحذور في أنْ يحرص على أنْ يكون له ولد رضي يحفظ هذه الأموال ويحجب سائر الورثة من أنَّ تُصبح من أملاكهم، فإنَّ من الواضح أنَّ الميت إذا كان له ولد فإنَّه يحجب العصبة وسائر الأقرباء من الميراث.

 

وبانتفاء الاستبعاد المذكور يتأكد أنَّ الآية ظاهرةٌ جدًا في أنَّ المراد من قوله ﴿يَرِثُنِي﴾ هو الوراثة الحقيقية.

 

ومن ذلك تكون هذه الآية مؤيِّدًا آخر على أنَّ المراد من الوراثة في قوله تعالى ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(66) هي الوراثة الحقيقية، وذلك لأنَّ القائلين بأنَّ المراد من وراثة سليمان هي وراثة النبوَّة انما اعتمدوا على أنَّ الانبياء لا تورِّث فإذا ثبت أنَّ زكريا النبي سأل ربَّه أنْ يرزقه ولدًا يرث أمواله فإنَّ هذا المانع المذكور يصبح منتفيًا، وحينئذٍ لا يكون ثمة من موجبٍ لصرف لفظ الوراثة الوارد في قوله ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(67) عن معناه الحقيقي.

 

الخلاصة:

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾(68) هو الوراثة الحقيقية، إذ هي المعنى الموضوع له لفظ الوراثة كما عليه علماء اللغة وهي المعنى المتبادر عرفًا وعند أهل الخطاب والمحاورة، ولذلك يتعيَّن البناء على إرادتها في كلِّ موردٍ استُعمل فيه لفظ الوراثة إلا أنْ ينصب المتكلِّم قرينةً على إرادة معنًى آخر غير المعنى الحقيقي، وحيث لا قرينة في الآية على إرادة غير المعنى الحقيقي لذلك فإنَّ المتعيَّن هو إرادة الوراثة الحقيقية في الآية المباركة.

 

على أنَّه لو كانت الوراثة للنبوة والعلم والملك صادقة ومقصودة من الآية الشريفة فإنَّ ذلك لا ينفي إرادة الوراثة للمال أيضاً خصوصاً وأنَّها الاصل لمعنى الوراثة، فيكون مقتضى الاطلاق في الآية الشريفة وعدم التصدِّي فيها لبيان متعلَّق الوراثة هو إرادة الوراثة الشاملة لوراثة النبوة والملك والمال، وما يمنع من شمول الاطلاق للمال قد تبيَّن وهنه مما تقدَّم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النمل / 16.

2- سورة النمل / 16.

3 - مسند احمد -احمد بن حنبل- ج2 / ص463، السنن الكبرى -النسائي- ج4 / ص64.

4- صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص42، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج1 / ص6، السنن الكبرى -البيهقي- ج6 / ص301، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص21، الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص138، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص33، دلائل الامامة -محمد بن جرير الطبري (الشيعي)- ص117، بحار الأنوار-العلامة المجلسي- ج29 / ص215.

5- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص5، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج14 / ص581، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج6 / ص262، مسند ابن راهويه -إسحاق بن راهويه- ج2 / ص441، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص21.

6- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص126 وصف الحديث بالصحيح الاسناد وذكر له طرقاً عديدة، فيض القدير شرح الجامع الصغير -المناوي- ج3 / ص60، المعجم الكبير -الطبراني- ج11 / ص55، نظم درر السمطين -الزرندي الحنفي- ص113، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص104، 432، تهذيب الكمال -المزي- ج18 / ص77 قال القاسم: سألتُ يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال هو صحيح.

7- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص278 والرواية ضعيفة السند لاشتمال سندها على بكر بن صالح وهو ضعيف أو مجهول، واشتمل أيضًأ على عيثم بن أسلم وهو مجهول.

8- تفسير السمعاني -السمعاني- ج4 / ص81، فتح القدير -الشوكاني- ج4 / ص129.

9- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص32، سنن الترمذي -الترمذي- ج4 / ص153.

10- سورة الجاثية / 17.

11- سورة الأحقاف / 12.

12- سورة المائدة / 44.

13- سورة الأعراف / 145.

14- سورة الأعراف / 154.

15- سورة المائدة / 20.

16- سورة الإسراء / 101.

17- سورة البقرة / 211.

18- سورة آل عمران / 49.

19- سورة الإسراء / 70.

20- سورة المؤمنون / 50.

21- سورة المؤمنون / 50.

22- سورة النمل / 16.

23- سورة النمل / 15.

24- سورة النمل / 16.

25- سورة النمل / 16.

26- سورة النمل / 16.

27- سورة النمل / 16.

28- سورة النمل / 16.

29- سورة النمل / 16.

30- سورة النمل / 17-18.

31- سورة النمل / 20.

32- سورة النمل / 28.

33- سورة النمل / 36.

34- سورة النمل / 38.

35- سورة النمل / 44.

36- سورة النمل / 16.

37- سورة النمل / 16.

38- سورة مريم / 6.

39- سورة آل عمران / 33.

40- سورة يوسف / 6.

41- سورة آل عمران / 179.

42- سورة طه / 13.

43- سورة القصص / 5.

44- سورة الأعراف / 137.

45- سورة فاطر / 32.

46- سورة مريم / 49.

47- سورة مريم / 54.

48- سورة العنكبوت / 27.

49- سورة مريم / 30-31.

50- روضة الطالبين -محيى الدين النووي- ج1 / ص6، الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص34، الأمالي -الشيخ الصدوق- ص116، ثواب الأعمال -الشيخ الصدوق- ص131.

51- سورة النمل / 16.

52- سورة النمل / 15.

53- سورة النمل / 16.

54- سورة النمل / 15.

55- سورة النمل / 15.

56- سورة الأنبياء / 78-79.

57- سورة الأنبياء / 79.

58- سورة ص / 26.

59- سورة الأنبياء/ 79.

60- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص588، المصنف -عبد الرزاق الصنعاني- ج10 / ص80، زاد المسير -ابن الجوزي- ج5 / ص256.

61- سورة مريم / 5-6.

62- سورة النمل / 16.

63- لاحظ تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج2 / ص307، تفسير الثوري- سفيان الثوري- ص181، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج2 / ص368، زاد المسير -ابن الجوزي- ج5 / ص146، تفسير القرطبي -القرطبي- ج10 / ص81، الدر المنثور- جلال الدين السيوطي- ج4 / ص259، فتح القدير -الشوكاني- ج3 / ص325، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج16 / ص59-60.

64- اتفق المفسرون من العامة على ان مراد زكريا من الموالي هم بنو عمومته وعصبته وورثته لاحظ تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج2 / ص307، تفسير الثوري -سفيان الثوري- ص181، تفسير القرآن -عبد الرزاق الصنعاني- ج3 / ص3، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج5 / ص73، ج16 /ص58، معاني القرآن -النحاس- ج4 / ص308، أحكام القرآن -الجصاص- ج2 / ص68، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج2 / ص368، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل -الباقلاني- ص454 وغيرهم.

65- سورة مريم / 5.

66- سورة النمل / 16.

67- سورة النمل / 16.

68- سورة النمل / 16.