﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ .. لماذا الأذقان؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾(1)، لماذا الأذقان والسجود على الجبهة؟! وهل تُوجد علاقة بين هذه الآية الشريفة والسجود على الذقن عند وجود جرحٍ أو ما شابه في الجبهة كما قال الفقهاء؟
الجواب:
ذُكرت لذلك عدَّة توجيهات اتَّفقت جميعاً على أنَّ السجود يكون على الجبهة وإنَّما ذُكرت الأذقان في الآية المباركة لأحدِ هذه الوجوه:
الوجه الاول: إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ أنَّهم يسقطون على وجوههم ساجدين، ونظراً لكون الذقن -وهو مجمع اللحيين- أقرب شيءٍ من الوجه إلى الأرض حين الشروع في السجود لذلك خصَّه بالذكر، فكأنَّ هؤلاء وهم يخرُّون للسجود يسقطون على أذقانهم، خصوصاً وأنَّ مَن تُوصِّف الآيةُ المباركةُ أحوالَهم لم يكن سجودهم عن تروٍّ وتأمُّل بل كان سجودهم تلقائياً نشأ عن الخشوع الذي انتابهم حينما تُليتْ عليهم آياتُ القرآن.
فنزولُهم إلى السجود كان على هيئة السقوط على وجوههم إلى الأرض، وبطبيعة الحال فأنَّ أقرب شيءٍ إلى الأرض حين السُقوط على الوجه هو الذقن.
الوجه الثاني: إنَّ الأذقان في الآية المباركة جيء بها كناية عن اللحى، ومعنى أنَّهم يخرُّون للأذقان هو أنَّهم يُعفِّرون لحاهم بالتراب أي يُبالغون في إلصاقها بالتراب تعبيراً عن كمالِ الخشوع والخضوع لله تعالى.
فهؤلاء وإنْ كانت جباهُهم على التراب حين السجود إلا أنَّ تخصيص الأذقان بالذكر دون الجباه هو أنَّ وضع الجباه على التراب في السجود هو أمرٌ مألوف، وهؤلاء زادوا على ما هو المألوف فأَلصقوا لِحاهم بالتراب مُضافاً إلى جباهِهم لذلك حسُنَ تخصيص الأذقان بالذكر.
الوجه الثالث: إنَّ المراد من الذقن في الآية المباركة هو الوجه، فمعنى قوله تعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ أي يخرُّون لوجوههم أي على وجوههم سُجَّداً، فذكرُ الذقن وإرادةُ الوجه من باب ذكر الجزء وإرادة الكُلِّ كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ / فَكُّ رَقَبَةٍ﴾(2) أي تحرير رقبةٍ من الرقِّ والعبوديَّة، ومن الواضح أنَّ المقصود من الرقبة هو الإنسان المُستعبَد وإنَّما ذُكرت الرقبة من باب استعمال الجزء وإرادة الكُلِّ. وهكذا حينما يُقال اشتريتُ عشرة رؤوس من الغنم فإنَّ المراد من ذلك هو أنَّه اشترى عشر شياهٍ كاملة لا أنَّه اشترى عشرة رؤوس، فالرأس جزءُ أُريد منه الشاة كاملة.
والمتحصَّل أنَّ المراد من الأذقان في الآية المباركة هو الوجوه ومعنى الآية -بناءً على ذلك- أنَّهم يسقطون على وجوههم تعظيماً لله وخضوعاً له جلَّ وعلا.
ولعلَّ منشأ اختيار الذقن للتعبير به عن تمام الوجه هو الإشارة إلى أنَّهم يُبالغون في إلصاق وجوههم بالتراب إلى حدٍّ يكون فيه الذقن ملتصقاً بالتراب رغم أنَّ مقتضى السُجود الاعتيادي هو ارتفاع الذقن عن الأرض. فاختيارُ الذقن دون سائر أجزاء الوجه فيه كناية عن إلتصاق تمام الوجه طولاً بالتراب وهذا المعنى لا يُفهم لولا ذِكرُ الذقن.
وجهٌ رابعٌ هو الأرجح:
هذه هي أهمُّ الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ إلا أنَّ من المحتمل قويَّاً أنَّ الآية كانت بصدد توصيف الهيئة التي سجد بها الأخيارُ من أهل الكتاب حين سمعوا آيات القرآن، فهي كانت بصدد الوصف لحال هؤلاء كما يشهد لذلك سياقها ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ فالآية ظاهرة أنَّ في سجود هؤلاء كان بوضع أذقانهم على الأرض، ولا ريب أنَّ هذه الهيئة نحوٌ من أنحاء السجود والخضوع عرفاً، غايته أنَّها ليست الهيئة التي تصحُّ بها الصلاة عندنا لأنَّ النبيَّ (ص) أفاد كما في معتبرة زرارة قال: "قال أبو جعفر (ع) قال رسولُ الله (ص) السجود على سبعة أعظم الجبهة واليدين والركبتين والابهامين من الرجلين"(3).
فهذا هو السجود المُعتبر في الصلاة، وأمَّا ما يصدقُ عليه أنَّه سجود عُرفاً فإنَّه يشملُ وضع الذقن على الأرض إذا كان على هيئة التخضُّع.
والذي يُؤيِّد أنَّ ظاهر الآية ما ذكرناه من أنَّ سجودهم كان بوضع أذقانهم على الأرض على هيئة التخضُّع هو ما ورد في الروايات عن أهل البيت (ع) من أنَّ هذه الهيئة من السجود هي التي يلزم إعتمادها على من لا يتمكن من وضع جبهته أو أحد جبينيه على التراب واستدلوا على ذلك بالآية المباركة.
فمن هذه الروايات معتبرة اسحاق بن عمار عن أبي عبدالله (ع) في حديث قال: قلتُ له رجل بين عينيه قرحة لا يستطيع أنْ يسجد قال (ع): "يسجد ما بين طرف شعره فإنْ لم يقدر سَجَد على حاجبه الأيمن قال: فإنْ لم يقدر فعلى حاجبِه الأيسر، فإنْ لم يقدر فعلى ذِقْنِه قلتُ: على ذقنه؟ قال (ع): نعم أما تقرأُ كتاب الله عز وجل: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾"(4).
فإنَّ الظاهر من استشهاد الإمام (ع) بالآية هو أنَّ مفادها هو أنهم سجدوا على أذقانهم وأنَّ هذه الهيئة نحوٌ من السجود إلا أنَّها لا تُجزي في الصلاة إلا مع العجز عن السجود الإختياري.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الإسراء / 107.
2- سورة البلد / 11-13.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج6 / ص343.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج6 / ص360.