سورة الفجر - 3: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ / إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ / الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ / وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ / وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ / الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ / فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ / فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ / إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾(1)
صدق الله مولانا العلي العظيم
توقفنا في حديثٍ سابق -قبل شهر محرم- عند قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَاد﴾، ونتحدث في هذه الجلسة إن شاء الله تعالى حول قوله تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾.
ما هو منشأ وصف فرعون بذي الأوتاد؟
الاوتاد: جمع وتد، والمراد من الوتد هو ما يتمّ تثبيته في الأرض، أو ما هو ثابت في الأرض.
لذلك يُقال للجبل أنَّه وتد، نظراً لثباته وتجذُّرِه في الأرض، ويقال لعمود الخيمة الذي تعتمد عليه الخيمة أنَّه وتد الخيمة، وكذلك يُقال للأعمدة الصغار التي تُثبَّت بها أطراف الخيمة أنَّها أوتاد.
ثم استُعمل الوتد في الصروح المشيَّدة السامقة العالية، وإنَّما يُقال للمباني، والصروح والأبراج العالية أوتاداً، لأنَّها مُثبتَّة في الأرض سامقة في السماء.
ففرعون ذو الأوتاد تعبيرٌ عن قوَّته، وسعةِ قدرته، حيثُ أنَّ له صروحاً ومبانيَ مشيَّدة. هذا هو المحتمل الأول من وصف فرعون بذي الأوتاد.
وثمَّة معنى آخر أشارت إليه بعض الروايات، سُئل الإمام الصادق (عليه السلام): لم سُمِّي فرعون بذي الأوتاد؟ قال (ع): إنَّ فرعون إذا غضب على أحد، أوتدَ له في الأرض أربعة أوتاد، ثم وضع يداً، في وتَد، ويداً أخرى في وتَد، ورجلاً في وتد، ورجلا أخرى في وتد، فيشدَّه أو يشدَّ أطرافه بالأوتاد الأربعة بعد أن يُلقيه على وجهه، ويُبقيه مطروحا في الشمس إلى أنْ يموت(1).
وربما أوتَد له على الخشب يفرشه فيُوتد أطراف الرَّجُل المغضوب عليه على ذلك الخشب إلى أنْ يموت، وقد يفعل أكثر من ذلك كما فعل بآسيا بنت مزاحم -رضوان الله تعالى عليها- زوجته عندما آمنت بموسى (ع)، وتمرَدت على دين فرعون، وأظهرت إيمانها له، ونصحته ووعظته بأن يقبل من موسى (ع) دعوته، غضب عليها فعذَّبها كما يُعذِّب الآخرين، أوتَد لها في الأرض أربعة أوتاد، وشدَّ أطرافها كلَّ طرفٍ في وتد، ثم أخذ رحى ووضعه عليها إلى أنْ فارقت الحياة(2) المراد من الرَّحى هي صخرة عظيمة مدوَّرة يطحن بها القمح والشعير سابقا.
لهذا سُمِّي فرعون بذي الأوتاد، تعبيراً عن قسوته، وشدةِ تنكيله وتعذيبه لبني إسرائيل من رعيته، فهو ذو الأوتاد: إشارة إلى واحدٍ من وسائل التعذيب التي يعتمدها مع مَن يغضب عليهم من رعيته.
بمناسبة الحديث حول فرعون وحول وصفه بذي الأوتاد لا بأس في أنْ نتحدَّث بشيئِ من التفصيل -بقدر ما يسع الوقت- حول النظام الفرعوني، أو ما يُعبَّر عنه بالظاهرة الفرعونية.
الحديث في محورين:
المحور الأول: نتحدث فيه حول سمات النظام الفرعوني بحسب ما أفاده القرآن الكريم.
والمحور الآخر: نتحدّث فيه عن المجتمع الفرعوني والذي يكون تحت سطوة النظام الفرعوني.
المحور الأول: سمات النظام الفرعوني
ثمّة سمات وصفات يمتاز بها المجتمع الفرعوني -بحسب ما أفاده القرآن الكريم-، وقبل ذلك لابدّ من الإشارة إلى ما هو مفهوم النظام الفرعوني بحسب ما ورد في القرآن الكريم:
تعريف مصطلح النظام الفرعوني:
النظام الفرعوني هو نظام يقوم على أساس تسلُّط رجلٍ ذي نفوذٍ وقوة، أو تسلّط عائلة، أو تسلّط طبقة إجتماعية على مقدَّرات أمةٍ من الأمم، فهي التي تستحوذ على كلِّ خيراتها، وهي التي تبسط نفوذها، وتُمرِّر سياساتها، دون رعاية لرأي أحد، أو حقِّ أحد، فهي لم تأتِ للسلطة بمشورةِ أحد، وإنَّما جاءت بالقوة والقهر والسطوة.
ثم إنَّها حينما تحكم تستبدُّ وتستحوذ على كلِّ الخيرات والمقدَّرات، وتسوس الناس بالقوة والبطش والعنف، ولا تقبل من أحدٍ رأياً، ولا تسمع من أحد نُصحاً، ولا ترعى لأحدٍ حقَّاً، فهذا هو النظام الفرعوني، وهو ذاتُهالنظام الطاغوتي الذي أشار إليه القرآن الكريم، أو ما يُعبَّر عنه في المصطلح الحديث بالنظام الشمولي الدكتاتوري.
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾(3) ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾(4) ويقول تعالى على لسان فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾(5) ربكم يعني مدِّبركم، يعني سائسكم، يعني المتوِّلي شؤونكم، وليس من أحدٍ غيري له الحق في أن يرعى هذا الشأن، أو أن يتدخل فيه! هذا معنى النظام الفرعوني بحسب الإصطلاح القرآني.
المميزات:
أولاً: نظامٌ يعتمد الطبقية وتمزيق المجتمع:
ثمَّة مميزات أشار إليها القرآن الكريم للنظام الفرعوني، وأول ميزة نتحدث عنها -وأشار إليها القرآن الكريم- هي أنَّ النظام الفرعوني يبدأ حين يحكم ويتسلط بتمزيق المجتمع، وتحويله إلى طبقتين: طبقة يستضعفها، وأخرى يتدّرع بها فتكون شوكته، وتكون القوة التي يُسلِّطها على الطبقة الأخرى -الطبقة المستضعفة- فيُمارس معها دور التجهيل والتفقير والتهميش، فيلغي تمام حقوقها، وإذا ما أعطاها حقاً من حقوقها أعطاه إيَّاها بعنوان المنحة والمنَّة فهو يستضعفها كما أفاد القرآن الكريم: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾(6) إذن فأول دورٍ يُمارسه النظام الفرعوني في مجتمعه ورعيته هو تحويل مجتمعه إلى مجتمعٍ طبقي، طبقة يستضعفها، وأخرى يتمكَّن بواسطتها ويتدرَّع بها ويستقوي بها فتكون شوكته وجنده الذي يصول به ويجول: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ أي فرقاً ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ﴾ هذه وسائل من وسائل الإستضعاف أن يذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم -استحياء النساء بمعنى إبقائهم لخدمته وشهواته ورغباته، وأما الأبناء فهو يُذبِّحهم-، وثمَّة وسائل أخرى يستخدمها لغرض الإستضعاف، وقد أشار لبعضها القرآن الكريم، من قبيل: التضليل، والتجهيل، وكذلك التفقير، وكذلك جعلهم عبيداً وخِوَلاً له ولملئِه وحاشيته.
ثانياً: نظام التملُّك الشمولي:
سنشير إلى المميزات بنحو الإيجاز ليسع الوقت، ثمَّة ميزة أخرى للنظام الفرعوني، وهي أنَّه يرى أنَّ كلَّ إمكانيَّات الأرض له وحده، وليس لأحدٍ حقٌّ فيها ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾(7)؟ أنا الذي أملك مصر، مصر ملكي وحدي، فالتعدِّي على شبرٍ من أرض مصر هو تعدٍّ على حقٍّ لي، وملكٍ لي! ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ﴾؟ ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ مصر، ومياه مصر، وأنهار مصر، ومعادن مصر، وما في باطن أرضها، وما على ظاهرها من أشجارٍ وثمارٍ وخيراتٍ وحيوانٍ وإنسان، كل ذلك لي! الفكر الفرعوني والنظام الفرعوني يقوم على أساس جعل كلِّ شيئٍ ملكاً له، هذا ما أفاده القرآن الكريم.
ثم أنَّه يستطيل على الناس، ويترفَّع عليهم بعد أن أصَّل في ثقافتهم وفي فكرهم أنَّ كلَّ شيئ ملكٌ له، فإذا كان كلُّ شيئ ملكاً لي فأنا الملك إذاً! ويالها من سخافة!! دعنا نُسلِّم بالأوَّل حتى نرتِّب عليه النتيجة التي يريدها -، يقول لهم أفلا تبصرون، أليس لي ملك مصر، إذا كانت هذه المقدرات والثروات، وهذه الخيرات، وهذه الإمكانيات، والأرض والسماء، وما في باطن الأرض، وما في ظاهر الأرض ملكاً لي أليس ذلك يقتضي أن تتبعوني، وأن تحمدوني!!
ثالثاً: نظام الاستعلاء والاستكبار:
ثم هناك ميزةٌ ثالثة للنظام الفرعوني، وهي الإستعلاء والإستكبار، والذي يقتضي أنْ لا يمسّ ذاتهأحدٌ بسوء، لأنَّ العالي لا يُمَسّ، والعالي لا يُطال -كلًّ أحدٍ أراد أنْ يستطيل فهو متعٍّد-، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ومقتضى العلوّ أن لا يُطاوله أحد، وأن لا ينادّه من أحد، وأن لا يمسّه أحد بأيِّ سوء وبأي نقد، والعالي لا يُرشده السافل، ولا ينصحه الوضيع، ولا يُخالفه مَن هو دونه، لأنَّه لا حقَّ له بأنْ ينادّه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(8) مَن هو المسرف؟ المسرف هو من يصرف المال، والطاقات، والجهود في غير محلها، فالنظام الفرعوني من المسرفين، لأنَّ دأبه الصرف لإمكانيَّات وخيرات الأرض والمجتمع فيما يُصلح سلطانه، وفيما يُنعشه، ويُرِّوح عن نفسه، وفيما يُناسب غرضه-وإنْ كان على حساب المجتمع الذي يحكمه-، فهو مسرف لأنَّه يصرف كلَّ تلك القدرات، وكلَّ تلك الطاقات وكلَّ تلك الإمكانيَّات، وكل تلك الأموال ومنابع القوة ومنابع القدرة، يصرفها في غير موردها، وفي غير موضعها، لذلك هو -كما أفاد القرآن- من المسرفين دائماً.
رابعاً: نظام ديكتاتوري مطلق:
ومن مميزات النظام الفرعوني هو أنَّه يُؤصِّل لثقافةٍمفادها أنَّكلَّ رؤيةٍ -أيَّاً كانت- لا يراها النظام الفرعوني فهي خاطئة، وإنّ كلَّ رؤيةٍ و كلَّ فكرٍ و كلَّ ثقافةٍ وكلَّ معتقَدٍ يتبنَّاه النظام الفرعونيفهو صحيح! هو يرى لنفسه ذلك: أنَّ الرأي رأيُه، وأنَّالحكمة هو ما ينطق به، وأنّ المعتقَد الصائب هو الذي يعتقدُه، وأنَّ الثقافة الصحيحة هي التي يتبنَّاها وانَّ الرشد كلَّ الرشد فيما يعتمده من سياسة ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(9) ممنوعٌ لأيِّ رؤيةٍ أخرى في وسط المجتمع الفرعوني أن تقوم، يُحظر على كلِّ رؤية تُقابل رؤيةٍ السلطان، وعلى كلِّ فكرٍ لا يتبنَّاه السلطان، وعلى كلِّ معتقدٍ لا يعتقده السلطان أن يُطرح، فالمعتقَد الذي ينبغي أن يسود، والرأي الذي ينبغي أن يُؤصَّل هومعتقد السلطان ورأيُه! ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(10) ثم يُغلِّف السلطان المفاهيم التي يُروِّجها بعناوين برَّاقة، فهو يُسمِّي الضلال رشاداً! تلاحظون أيها الاخوة الأعزاء، انَّ السلطان عندما يُروِّج لأفكاره، ولروآه ولمبانيه التي هيفيالنهاية تنتهي إلى تشييد سلطانه، فإنَّه يُغلَّفها بأغلفةٍ برَّاقة، فمثلا يُعطي قداسة لمفهوم الوطنية، ثم يُفسِّرها حيث يشاء: ويُعطي قداسةً لمفهوم الولاء، ثم يُفسره حيث يشاء: ويعطي قداسة لمفهوم الحرص على المصلحة العامة، ولكن ما معنى المصلحة العامة؟ يتخذ لنفسه تفسيراً، ثم يروِّجه، ويؤصِّله، ويمنع أيَّ تفسيرٍ آخر في مقابله.
هذه أمثلة، ثم يَسمُ كلَّ فكرٍ مناوءٍ ومضادٍّ بأبشع الألفاظ، فيعبر عنها بالضلال، ويعبر عنها بالفساد، ويصف الآخرين الذين يتبنَّون رأيًا هو لا يقبله بأنَّهم مفسدون في الأرض -كما أشار القرآن الكريم في موارد عديدة: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ﴾(11)، هؤلاء يروِّجون لفكرٍ آخر، وكلُّ فكر مضادٍّ فهو فساد!، هذه هي ميزة أخرى للنظام الفرعوني، وهي أنَّه يجعل مقياس الخطأ والصواب على مايراه ويتبنَّاه.
ولذلك استبشعَ استعظم إيمان السَّحرة لموسى (ع)، قال لهم: ﴿آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾(12)؟ الإيمان كما هو واضح لا يرتبط بالأوامر والنواهي، والإيمان أمرٌ قلبيّ: أنا سمعت فكرة، واقتنعت بها لذلك آمنت وأذعنت، إلا انَّ المنطق الفرعوني يقول: لا، ليس لك حق في أن تقتنع، أغلق عقلك، وأقفل قلبك وعليك أن تستأذن أولاًلكي تؤمن!! ﴿آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ ولكن هم آمنوا! وأُسقط في يده، فأراد أن يُعزِّز من دور تمريره لأفكاره، وتشويه الفكر المضادّ له -لأنَّه يمارس دور التشويه أيضاً لكلِّ فكرٍ، ولكلِّ رأيٍ، ولكلِّ معتقدٍ مضادٍّ لمعتقده فماذا قال لهم؟ ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾(13) فهو يحاول أنْ يشوِّه في نظر مجتمعه صورةَ كلِّ مَن يحمل رأياً وفكراً ومعتقداً ودعوةً تُنافي ما يتبنَّاه هو، فلذلك يصفها بأبشع الصفات ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ هذه مكيدة هذه مؤامرة.. فُيعبِّر عن الفكر المضادّ، وعن إيمان الآخرين بهذا الفكر أنه مؤامرة ومكيدة، وأنَّ هؤلاء يُخطِّطون ضدَّ المجتمع -لا يقول ضدنا- ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾(14) لاحظوا، هناك ماذا كان يقول؟: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾(15) ولكنَّه هنا وحين شعر بالخطر -قال: ﴿يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾ فهو الآن لم يقل أن الأرض وما عليها ملكه بل صارت أرضكم، واحذروا أن يخرجكم موسى من أرضكم ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾: ولكن لم ينفع كل هذا التشويه الذي مارسه فرعون، ولم ينفع ذلك مع السحرة، وهنا بعد أن مارس دور التضليل ولم ينفع جاء دور التهديد والوعيد: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا﴾(16) هذا أسلوب النظام الفرعوني مع كلِّ حركةٍ مضادةٍ لنظامه، التهديد والوعيد بالممارسة لأبشع أساليب التنكيل والتعذيب.
خامساً: نظام الإمتنان والمكرمات
من مميزاته -ونختم الحديث لضيق الوقت- الإمتنان، فلأنه يرى أنَّ كلِّ شيئ له لذلك هو يمتنُّ على مجتمعه رغم حقارقة ما يقدمه في مقابل ما يستحوذ عليه، فهو يعطي قليلاً ويمتنَّ كثيراً، هكذا يقول القرآن.
جاءه موسى (عليه السلام) بدعوةٍ مدعومةٍ بالبرهان وهي في ذات الوقت تقتضيها الفطرة السليمة، لكنه انصرف عن كلِّ تلك البراهين وكل تلك الدعوة المناسبة للفطرة والعقل، فكان جوابه أنْ قال له: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ أنت ترفع رأسك علينا نحن ربَّيناك، ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾(17) بماذا أجابه موسى عليه السلام؟ قال: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ تمنُّ علىَّ؟! وقد استعبدتَ بني اسرائيل، جعلتهم عبيداً وخِوَلاً لك، وهذه منَّة منك؟! وتلك نعمة تمنُّها علىَّ؟!
فالإمتنان هو ما يدأب عليه النظام الفرعوني مع مجتمعه، وهو يُعبِّر عن الإستعلاء والإستكبار والنظرة الفوقية والشعور بأنَّه يملك كلَّ شيئ فإذا أعطى فهو إنما يتنازل عن شيئٍ هو حقٌّ له دون غيره!!.
سادساً: نظام يستخفّ بشعبه
ثَّمة أسلوب آخر يمارسه النظام الفرعوني وهو الإستخفاف بمجتمعه، الإستخفاف بمعنى أنَّه لايراهم شيئاً يستحق الإهتمام، يحتقرهم ولا يخشى منهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يستخفَّهم بمعنى أنه يُضلُّهم من أجل أن يُطوِّعهم لسلطانه فيجعل منهم جنود له- كما ورد في القرآن الكريم القرآن- أشار إلى أنَّ فرعون والنظام الفرعوني يُكرِّس كلَّ الطاقات من أجل أن يستخفَّ بمجتمعه، فهو نظام لا يحترم رعيته، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾(18) اسخفَّهم بعدة أشياء: بالإذلال فاضطروا لطاعته، وبالتجهيل والتضليل فتوهَّموا أنه صاحب حق.
أما الإذلال والممارسات التي يستخدمها كما ورد في القرآن الكريم فإنه كان يقتِّل أبنائهم، ويسومهم الخسف.
وأما التضليل فروايات كثيرة أشارت -كما أشرنا إلى بعضها فيما سبق- إلى التعبير عن المصلحين بأنهم يفسدون في الأرض، وبأنهم جاءوا ليخرجوهم من أرضهم: فالنظام الفرعوني يوحي لمجتمعه أنَّه حريص على مصلحتهم، فإذا داهمهم الخطر يقول أنا حريص على مصلحتكم، وأنا أمارس هذا الدور من البطش من أجل الحماية لكم ولأرضكم! لماذا تفعل بموسى هذا؟ ولماذا تطرده وتهجِّره؟ قال إنِّي أخشى أن يُخرجكم من أرضكم! ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾(19) يصِّورون موسى على أنَّه ساحر وخبير في السحر، وأنَّه يريد أن يخرجكم -تشكيك في نوايا المصلحين- يريد أن يخرجكم من أرضكم، فماذا تأمرون؟ ودائمًا ينظر -كما قلنا- إلى المصلحين وإلى أيِّ صوتٍ مضاد أو صوتٍ مصلح أو صوت ناصح على أنَّه صوتٌ ماكر، والمكر ليس عليه وعلى سلطانه، وإنَّما هو على هذا المجتمع، هكذا يُضلل فرعون ومن معه عقول الناس، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾(20) هذا أيضاً إتَّهام بالمؤامرة والتخطيط من أجل إخراج أهلها منها! فما جزاء ذلك؟ ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ﴾(21) هذا هو المحور الأول وانتهى الوقت.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الفجر / 6-14.
2- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص523.
3- سورة القصص / 4.
4- سورة النازعات / 17.
5- سورة النازعات / 24.
6- سورة القصص / 4.
7- سورة الزخرف / 51.
8- سورة يونس / 83.
9- سورة غافر / 29.
10- سورة غافر / 29.
11- سورة الأعراف / 127.
12- سورة الأعراف / 123.
13- سورة طه / 71.
14- سورة الأعراف / 110.
15- سورة الزخرف / 51.
16- سورة طه / 71.
17- سورة الشعراء / 18.
18- سورة الزخرف / 54.
19- سورة الأعراف / 109.
20- سورة الأعراف / 123.
21- سورة الشعراء / 49.