تفسير سورة المدثر -3

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

انتهى بنا الحديث في الجلسة السابقة إلى قوله تعالى من سورة المدثر: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾(1)، وقلنا إنَّ المراد من الأمر بتطهير الثياب ذُكرت له معانٍ خمسة، إستعرضنا ثلاثة منها:

الأول: إنَّ المراد من الأمر بتطهير الثياب هو الأمر بالعمل الصالح ذلك لأنَّ العرب كانت تُعبِّر عن الرجل الصالح الذي لم يرتكب من الأفعال ما يشين تُعبِّر عنه بطاهر الثياب، فالرجل الصالح في أعماله وفي أقواله وفي سلوكه يُنعت بهذه الصفة وهو أنَّه طاهر الثياب، طاهر الذيل، فهنا حينما يأمر القرآن بتطهير الثياب فهو يريد من ذلك أن يكون الإنسان طاهراً بمعنى يكون صالحاً في عمله، فلا يغدر، ولا يفجر، ولا يرتكب الشرور، ولا يفعل الفواحش، ولا يقول البذيء من الكلام، ولا يكيد، ولا يُظاهر على المعصية، وعلى ارتكاب الظلم والبغي، إذا كان الإنسان كذلك فهو طاهر الثياب، وهذا هو ما أرادته الآية المباركة بناءً على هذا الاحتمال.

الاحتمال الثاني: إنَّ المراد من الأمر بتطهير الثياب هو الأمر بتزكية النفس، فالثياب هنا أُريد منها صفات النفس والأمر بتطهيرها هو الأمر بتزكيتها فقد ذكرنا أنَّ القرآن شبَّه التقوى باللباس فقال: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾(2)، والتقوى من شؤونات النفس كما مضى، فالأمر بتطهير الثياب بناءً على هذا الاحتمال يعني الأمر بتطهير النفس من الأمراض والرذائل النفسانية كالحسد والحقد والضغينة والكبرياء والعُجْب، كلُّ هذه أمراض ورذائل نفسانية تأمر الآية المباركة بناءً على هذا الاحتمال بتطهير النفس من هذه الرذائل.

والاحتمال الثالث: هو أنَّ الأمر بتطهير الثياب هو الأمر بتشميرها، أي رفعها عن مستوى الأرض حتى لا تتلوَّث بالقاذورات والنجاسات لأنَّ الأرض هي مسقط النجاسات ومسقط القاذورات ومسقط الأوساخ، فإذا كانت الثياب طويلة تجرُّ في الأرض فإنَّها تكون في معرض التلوُّث بالنجاسات والقاذورات، ومن المعلوم إنَّ الإسلام حرص كثيراً على أن يكون المؤمن نظيفاً طاهراً،، فالمؤمن لا يكون شعثاً، ولا يكون أغبر، ولا يكون متَّسخاً، لذلك ورد أنَّ جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله (ص) فرأى رجلا شعثاً قد تفرق شعره، فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"؟!(3).

وروي انَّه (ص) رأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال: "أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه"؟!(4).

وروي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه الصادق (ع) قَالَ: "أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّه ص رَجُلاً شَعِثاً شَعْرُ رَأْسِه وَسِخَةً ثِيَابُه، سَيِّئَةً حَالُه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ص مِنَ الدِّينِ الْمُتْعَةُ وإِظْهَارُ النِّعْمَةِ"(5).

وروي عن أبي عبدالله الصادق (ع) قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): بِئْسَ الْعَبْدُ الْقَاذُورَةُ"(6).

يعني رائحته نتنة، ثيابه متَّسخة، فمه تنبعث منه روائح المأكولات المزعجة، ويدخل مساجد المسلمين ومحافلهم وهو كذلك، لا ينبغي ذلك، فهذا ليس من سمات المؤمن.

فالآية إذن وإن كان الخطاب موجَّهً فيها إلى النبي (ص) ولكن كلَّ الخطابات التي فيها تأديب، وفيها أمر، وفيها نهي، وفيها زجر، وخُوطب بها النبي (ص) فإنَّه ليس المقصود منها هو النبي (ص)، فالنبي (ص) قد أدَّبه ربُّه ونزَّهه عن كلِّ ما يشين وكلِّ نقصٍ، لذلك ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "نَزَلَ الْقُرْآنُ بِإِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَةُ"(7) فليس المقصود من مخاطبة النبي (ص) بمثل هذه الآداب أنَّ النبيَّ (ص) ليس واجداً لهذه الآداب، فالنبي (ص) كامل قد كمَّله ربُّه جلَّ وعلا ولكن الله تعالى أراد من ذلك أن يؤدِّبنا بمثل هذه الأوامر وهذه النواهي وهذه الزواجر وهذه الآداب، هذا هو المعنى الثالث الذي ذُكر للآية المباركة: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي وثيابك فشمِّر، إرفعه عن مستوى الأرض، وقلنا: إنَّه لا ينبغي التطرُّف في فهم هذه الآية كما فهمها الآخرون كما لا ينبغي التهاون في الأمر وقد فصَّلنا ذلك فيما مضى، طبعاً نحن لسنا بصدد ترجيح ما هو الاحتمال الأظهر من الآية، فقط نحن بصدد استعراض المعاني المحتملة المذكورة للآية الشريفة.

الاحتمال الرابع: إنَّ المراد من قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ هو الأمر بتطهير الزوجة، والأمر بتطهير الزوجة يعني الأمر باختيار الزوجة الطاهرة أو الأمر بإصلاح شأن الزوجة إذا كان قد تزوَّجها وكان فيها بعض الأخطاء والعيوب، واستفيد ذلك من قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾(8)، الزوج لباس للزوجة، والزوجة لباس للزوج، فحينما يأمر الله عزوجل المكلف بأن يطهر ثيابه يعني يأمر الزوجة أن تطهر زوجها فتختار زوجاً طاهراً ولا تختار زوجاً فاجراً ملوثاً بالذنوب والمعاصي والفواحش، تختار زوجاً طاهراً من بيتٍ طاهر، وإذا أراد الرجل أن يختار زوجة فليختر زوجةً طاهرة مبرأة من العيوب -طبعاً العيوب الشنيعة، العيوب الكبيرة-، مبرأة من الفجور والفحشاء، مبرأة من الدنس، مبرأة من الفحش، وهذا خطاب يوجه بالخصوص للشباب المتصدين للبحث عن زوجة، ينبغي حينما يبحث عن زوجة يكون هاجسه الأكبر أن تكون الزوجة طاهرة ليست ملوثة ببعض الخطايا الكبيرة، فلا ينظر إلى جمالها أو مالها أو حسبها أو هندامها أو قيافتها ويهمل ويُغفل الطهارة القلبية والطهارة في السلوك، لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك بل ينبغي أن ينظر إلى طهارتها في نفسها وطهارتها في بيئتها،ولهذا روي عن النبيِّ (ص): "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"(9)، فكونها قد نشأت في بيئةٍ سيئة قذرة فإن ذلك سينعكس غالباً على البنت -وإن لم ينعكس على البنت- فسوف ينعكس على أولادها لأنهم سوف يختلطون بهذه البيئة، وقد تترك بعض الصفات النفسية أثرها الوراثي على البنات والأولاد، لذلك ورد عن أهل البيت (ع): "الخال أحد الضجيعين"(10) هذا احتمال رابع.

والاحتمال الخامس: إنَّ المراد من التطهير هو معناه اللغوي المعروف، التطهير يعني التنظيف، أو التطهير بمعناه الشرعي وهو تطهير الثياب عن النجاسات التي اعتبرها الشارع نجسة كتطهير الثياب عن البول والدم والخمر والغائط وما إلى ذلك، فتكون الآية مؤدى ذلك ان الآية تأمر بأن يطهر المكلف ثيابه للصلاة، وهذا المعنى لا يتسق إلا بناءً على أن الصلاة قد شرعت في ظرف نزول هذه السورة وقد ذكرنا أن هذه السورة من أوائل السور التي نزلت على قلب رسول الله (ص)، وبناءً على هذا المعنى يكون الأمر الذي سبق هذه الآية وهو قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾(11) يعني التكبير للصلاة، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ يعني التطهُّر للصلاة.

هذا المعنى قد يستشكل عليه بأنه في ظرف نزول سورة المدثر لم تكن الصلاة قد شُرِّعت لأن هذه الآيات من سورة المدثر نزلت في بداية المبعث النبوي الشريف بل ادعى البعض أنها أول سورة نزلت على قلب رسول الله، ليس أولما نزل من القرآن ولكن أول سورة كاملة نزلت، هكذا يُدعى، وقد رجحنا أنها من أوائل السور وليست هي أول سورة.

متى شرعت الصلاة؟ ومتى فرضت؟

وعلى أيِّ تقدير ففي تلك المرحلة لم تكن الصلاة قد شُرِّعت، هكذا استشكل على هذا الرأي إلا أنَّ هذا الإشكال غير تامٍ طبعاً، فمن غير الصحيح أنَّ الصلاة قد شُرِّعت في مرحلةٍ متأخرة، نعم قد فُرضت على الأمة في مرحلةٍ متأخرة، الصلاة شُرِّعت من أول يوم كما يظهر من نفس سورة العلق التي أول ما نزل على قلب رسول الله (ص) من القرآن يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى / عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾(12) هذه مشعرة بل ظاهرة في أن الصلاة كانت مشروعة في أول يومٍ نزل فيه القرآن الكريم.

وكذلك سورة المزمِّل التي من الأرجح أنها نزلت قبل سورة المدثر أو في نفس الفترة التي نزلت فيها سورة المدثر: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ / قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا / نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا / أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾(13) هذه الآية فيها أمر للنبي (ص) بأن يقوم الليل ويصلِّي نافلة الليل، فالصلاة كانت مشروعة، وكان النبي (ص) ملتزماً بها وإن لم تكن قد فُرضت، نعم، الصلاة تم إيجابها بحسب ما هو المعروف عند المسلمين من الشيعة والسنة أنَّ الصلاة تمَّ فرضها على الأمة في المعراج، حينما عُرج بالنبي (ص) إلى السماء، هناك فُرضت الصلاة على الأمة، نزل النبي (ص) بفريضة الصلاة، نزل النبي (ص) من معراجه الشريف بفريضة الصلاة، وقد فرض الله على المسلمين في المعراج الصلوات الخمس: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ولكنها فُرضت ركعتين ركعتين -يعني عدد ركعات الظهر اثنتان، وكذلك العصر، وكذلك العشاء، وكذلك المغرب، وكذلك الصبح، إلا أنَّ النبي (ص) قد فُوِض له أن يُضيف إليها، فأضاف إلى الظهر ركعتين، وأضاف إلى العصر ركعتين، وأضاف إلى العشاء ركعتين، وأضاف للمغرب ركعة، وترك الصبح كما هي، وإلا فالذي فرضه الله عزوجل على الأمة في المعراج عشر ركعات فأضاف النبي (ع) سبعاً، أضاف النبي سبعاً، وكذلك سنَّ النوافل هكذا ورد عن أهل البيت (ع)، فالصلاة فُرضت في المعراج ولكنَّها كانت مشروعة من حين بُعث النبي (ص).

صلَّى عليٌّ مع الرسول (ص) قبل الناس سبع سنين:

والذي يُؤكد ذلك مضافاً إلى سورة العلق وسورة المزمل يُؤكِّد ذلك ما ورد في الروايات الكثيرة أنَّ النبي (ص) بُعث يوم الأثنين وصلَّى عليٌ (ع) معه يوم الثلاثاء، شرع النبي (ص) في الصلاة فكان عليٌ (ع) إلى جانبه وكانت خديجة خلفهما، أفادت ذلك روايات مستفيضة من الفريقين أنَّ علياً وخديجة (عليهما السلام) صليا مع رسول الله (ص) عند مبدأ المبعث النبوي حتى أنَّهم في بعض الأحيان يُصلون في فناء الكعبة، فكان بعض القرشيين وبعض العرب يتساءلون ماذا يصنع هؤلاء؟ يسألون العباس مَن هؤلاء؟ قال: أما هذا فمحمد (ص) ابن أخي عبدالله، وأما الذي بجانبه فعليٌّ ابن أخي أبي طالب، وأما هذه فخديجة بنت خويلد زوجة محمد (ص)، يدعي محمد أنه قد بُعث نبياً ولم يؤمن به سوى هذين، رجلٌ وامرأة، عليٌ وخديجة، وقد أُثر عن النبي (ص) انَّه كان يقول كما ورد أيضاً في طرق العامة عن أبي أيوب الأنصاري، وعن أنس ابن مالك، وعن غيرهما، وكذلك في طرقنا أيضاً، يقول النبي (ص): "لقد صلَّت الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين لأنَّا كنا نصلِّي وليس معنا أحدٌ -أو في رواية وليس معنا رجل غير علي يُصلِّي-، لقد صلت الملائكة عليِّ وعلى عليِّ سبع سنين لأنَّا كنَّا نُصلِّي وليس معنا أحدٌ يصلي غيرنا"(14)، وورد أيضاً: "أوحى الله إلى رسوله (ص) يوم الاثنين وصلَّى علي يوم الثلاثاء"(15).

واستطراداً نقول إنَّ من نافلة القول الحديث عن أنَّ علياً (ع) هو أول من أسلم فانَّ هذا بحثٌ تعليمي وإلا فليس بين المبعث النبوي الشريف وإسلام عليٍّ (ع) فاصلة زمنية فعليٌّ (ع) وُلد على الفطرة، وكان مع الرسول (ص) في حراء، لحظة بُعث كما في خطبة علي (ع) المسماة بالقاصعة: ولقد كان يُجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوة، ولقد سمعتُ رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلتُ يا رسول الله ما هذه الرنَّة؟ فقال هذا الشيطان آيس من عبادته. إنَّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لستَ بنبي. ولكنَّك وزير وإنَّك لعلى خير .."(16).

نكتفي بهذا المقدار، ونستكمل الحديث فيما بعد.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 4.

2- سورة الأعراف / 26.

3- سنن أبي داود -سليمان بن الأشعث السجستاني- ج2 / ص261.

4- سنن أبي داود -سليمان بن الأشعث السجستاني- ج2 / ص261.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص439.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج5 / ص6.

7- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص631.

8- سورة البقرة / 187.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج20 ص35.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج20 ص48.

11- سورة المدثر / 3.

12- سورة العلق / 9-10.

13- سورة المزمل / 1-4.

14- عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله (ص): "صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد غيره" بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج38 / ص251، اسد الغابة -ابن الثير- ج4 / ص18، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج2 / ص185، الرياض النضرة -أبي جعفر المحب الطبري- ج3 ص121، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج7 / ص219، نظم درر السمطين -الزرندي الحنفيص- ص83.

15- "المسترك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- قال: صحيح الأسناد ج3 / ص112، ولاحظ مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص102، الإستيعاب -ابن عبد البر- ج3 / ص1095، وغيرهم.

16- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج2 / ص157.