حديث حول سورة المدثر -7
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا / وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا / وَبَنِينَ شُهُودًا / وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا / ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ / كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا / سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا / إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ / فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ / ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ / ثُمَّ نَظَرَ / ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ / ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ / فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ / إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ / سَأُصْلِيهِ سَقَرَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ / لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾(1)
صدق الله مولانا العليُّ العظيم
سبب نزول الآيات:
الواضح من سياق الآيات المباركات التي تلوناها أنَّها في مقام التهديد والوعيد، وقد استفاض النقل عن المحدِّثين أنَّ هذه الآيات نزلت في رجلٍ من قريش يُقال له الوليد بن المغيرة، وقد اتفق المفسِّرون على ذلك، أي على أنَّ هذه الآيات نزلت في الوليد ابن المغيرة، وهذا الرجل كان من وجهاء قريش ومن عظمائها، وهو الذي -كما أفاد المفسرون- عنته قريش حينما احتجَّت على الرسول (ص) بقولها: كيف ينزل عليك القرآن؟ ألم يكن من المناسب أن ينزل القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم؟! ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾(2).
قريش تُريد اختيار نبيِّها وخليفته:
فكانت تقصد من هذا الرجل الوليد بن المغيرة، فإما أن ينزل القرآن على الوليد ابن المغيرة في مكة -كما تزعم- أو ينزل القرآن على عروة بن مسعود من الطائف،، فأحد عظيمي هاتين القريتين وهما عروة بن مسعود الثقفي من الطائف والوليد بن المغيرة المخزومي من مكة، هما من كان ينبغي أن ينزل القرآن على أحدهما، فلا يسوغ نزوله على غير هاذين الرجلين العظيمين، وقد أجابهم القرآن بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾(3)، هل لهم على الله تعالى اختيار؟! هل تُريد قريش أنْ تختار لنفسها نبيَّها كما ادَّعت لنفسها خلافة الرسول(ص) بعد ذلك!! بذات الثقافة التي واجهوا بها الرسول (ص) أوائل الدعوة وبنفس حالة الاستعلاء المهيمنة على مشاعرهم، فلم يكن بإرادتهم اختيار محمدٍ (ص) رسولاً للإسلام، فلو خُيِّروا لاختاروا أحد هذين الرجلين: الوليد أو عروة، وحينما رحل الرسول(ص) إلى ربِّه عادوا إلى ما كانوا عليه فقالوا نحن مَن يختار الإمام بعد الرسول (ص)، فاختاروا لأنفسهم وأخطأوا حظَّهم حينما تخلَّفوا عن اختيار الله جلَّ وعلا واختاروا لأنفسهم رجلاً منهم، فالقرآن يُجيب عن هذه الثقافة فيقول: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾(4)، ليس لأحدٍ أن يختار لنفسه رسولاً بحيث إن وافق اختيار الله اختياره أسلم وآمن، وإنْ خالف اختيار الله اختياره لم يُؤمن، أصرَّت قريشُ على هذا الأمر، فكفروا بربِّهم ولم يُؤمنوا، فكان عاقبة أمرهم الخزي والخسران، وأخطأت الأمة بزعامة قريش حينما تخلَّفت عن اختيار الله عزوجل لعليٍّ (ع)، فأخطأوا حظَّهم.
وهناك شواهد كثيرة على ما ذكرناه ولسنا بصدد الحديث عن ذلك ولكننا سنذكر لذلك مثالاً عن ابن عباس (رحمه الله) قال: انَّ عمر قال له: والله يا بن عباس، إنّ علياً ابن عمك لأحقُّ الناس بها ولكنَّ قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذهم بمرّ الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليحاربن"(5).
وفي مورد آخر قال عمر لعبدالله بن عباس: ما أكمل صاحبكم هذا لولا! فقال عبد الله: لولا ماذا؟ فقال عمر: لولا حداثة سنّه، وكلَفه بأهل بيته، وبغض قريشٍ له. فقال عبد الله بن عبّاس: أتأذن لي في الجواب؟ فقال عمر: هاتِ. فقال: أمّا حداثة سنّه، فما استحدث من جعله الله لنبيّه أخاً، وللمسلمين وليّاً. وأمّا كلَفه بأهل بيته فما ولي فآثر أهل بيته على رضاء الله. وأما بغض قريش له فعلى مَن تنقم؛ أعلى الله حين بعث فيهم نبيّاً، أم على نبيّه حين أدّى فيهم الرسالة، أم على عليّ حين قاتلهم في سبيل الله؟! فقال عمر: يا بن عبّاس! أنت تغرف من بحر، وتنحت من صخر"(6).
إذن بغض قريشٍ له هو الذي دفعهم إلى عدم القبول بإمامته المجعولة له من الله تعالى، فهو ذات النفَس والثقافة التي دفعتهم إلى عدم القبول بنبوة النبي محمد (ص) في أول الأمر، لماذا لا تقبلون محمداً رسولاً؟ لأنَّه لم يكن عظيم قريش، فعظيمُ قريش هو مثل الوليد، فلو شاء الله أنْ نؤمن به لأنزل القرآن على هذا الرجل، أو على رجلٍ من الطائف هو عروة، فالمنشأ لتخلُّفهم عن الإئتمار بأمر الله عزوجل في الموردين واحد رغم انَّهم في المورد الثاني قد تديَّنوا بالإسلام، وقد قال الله عزوجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾(7)، ولكنَّهم خالفوا وسيلقون غبَّ ما فعلوا.
عودة إلى مورد الحديث:
الآيات المباركات نزلت في هذا الرجل، الوليد بن المغيرة، هذا الرجل كان شيخاً، يصفونه بأنَّه شيخٌ مجرِّب، ويُعدُّ من دهاة العرب، وكان الشعراء وفحول الشعراء يتحاكمون عنده، فما اختاره من شعرهم فهو الأجود والمتميز، كان هذا الرجل يملك الكثير الكثير من الأموال حتى قيل أنَّه يملك القنطار -القنطار هو ملئ جلد ثور ذهباً وقيل غير ذلك-، وكان عنده عشرة من العبيد، في يد كل عبدٍ ألف دينار يتَّجر بها، وكان له الكثير من الإبل المؤبَّلة والخيل المسوَّمة والنعم المحمَّلة، وكان له من الضياع في الطائف ما وصفوه بأنَّه لا تنتهي غلتها طيلة السنة، وكان له ضيعة في الطائف مترامية الأطراف فيها من صنوف الزروع والأشجار، فكان منها ما يثمر بالصيف ومنها ما يثمر بالشتاء، هذا الرجل علاوة على أنَّه كان متمولاً، كان من دهاة العرب، وكان له من البنين عشرة، منهم: خالد بن الوليد، وعمارة، وهشام، وعبد شمس، وغيرهم، هؤلاء هم أبناؤه قد وصفهم القرآن: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾، يعني أنَّهم كانوا بين يديه يتأيَّد بهم ويأنس بهم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن يسافروا للتكسُّب لكثرة أموال أبيهم.
حيرة قريش وسوء ما قدَّره الوليد:
هذا الرجل اجتمع -كما ذكرنا في بداية الحديث عن سورة المدثر- في ضمن من اجتمع من وجهاء قريش يتشاورون في شأن النبي الكريم (ص)، وأنَّه إذا جاء الموسم وجاءتكم الوفود للحج وعرض عليهم محمد (ص) قرآنه وإسلامه فبم ستجيبون الوفود؟ فقال بعضهم: نقول إنَّه مجنون، وقال بعضهم: نقول إنَّه شاعر، وقال بعضهم: نقول إنَّه كاهن، إلا انَّ الوليد لم يرتضِ شيئاً من هذه الأوصاف، قال: أما دعواكم أنَّه شاعر فإنِّي سمعت الشعر طويله ومديده وبسيطه ورجزه وليس ما يقوله محمدٌ بشعر، وأما دعواكم أنَّه كاهن فليس في قوله ما يشبه قول الكهنة، وأما قولكم أنَّه مجنون فلعمري إنَّكم لتُدركون أنَّه أعقل العرب، فلن تصدقكم الوفود، كيف تصفون رجلاً بالجنون وهم يشاهدون رجلاً هو من أعقل الناس، صِفوا الرجل بوصفٍ يُصدِّقه الناس، أبحثوا له عن وصفٍ إذا وصفتم به هذا الرجل صدقكم الناس، قالوا: نقول إنه كاذب، قال: وأنتم تصفونه بالصادق الأمين، وقد تعارف العرب أن ذلك هو وصف هذا الرجل، وما عهدنا عليه كذبةً في قول، قالوا: إذن فبمَ نصفه؟ قال: دعوني أفكر.
فذهب إلى محمد (ص) وكان جالساً في الحِجر -في حجر إسماعيل- يُصلي ويقرأ القرآن، فقال: يا ابن أخي أنشدني من شعرك، فقال النبي (ص): ما هو بشعر، بل هو كلام الله الذي بعث به أنبيائه ورسله، قال: أتلو عليَّ منه شيئاً، فتلا عليه سورة (حم السجدة) حتى إذا بلغ هذه الآية: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾(8)، فلما سمع الوليد هذه الآية اقشعرَّ جلده، وقام كلُّ شعر رأسه ولحيته وبدنه، واربَّد وجهه وتغيَّرت ألوانه، فالرجل يفهم ما يقال، ويُدرك معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾(9)، فترك النبي (ص) ومضى، وكانت قريش في محفلها ترقب ما يدور بين محمد (ص) والوليد، ثم فوجئت بأنَّ الوليد قد انصرف عن النبي (ص) ولم يعُد إلى محفلهم، بل ذهب إلى بيته، فقالوا: صبا الوليد، سحَره محمد (ص)، وافضيحتاه، إذا كان الوليد وجيه قريش قد صبا فإن الناس سوف يصبون.
فقال لهم أبو جهل -وهو أبو الحكم بن هشام وهو ابن أخي الوليد-، قال: سأكفيكم أمره وأتولَّى شأن الإطلاع على ذلك، فذهب من الغد إلى الوليد وجلس عنده وأظهر الحزن، قال: يا ابن أخي أراك حزيناً، قال: إنَّ قريشاً تقول أنك فضحتها، قال: وما ذاك؟ ما الذي صنعت؟ قال: تقول قريش أنَّك صبوت، قال: ما صبوت، أنا على دين قومي، ولكنِّي سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود، قال: يا عم، أفشعر؟ قال: ما هو بشعر، قال: فخطب؟ قال: إنَّ الخطب كلامٌ متصل وهذا كلامٌ منثور يشبه بعضه بعضا وإنَّ به لطلاوة، قال: فكهانة؟ قال: لا، قال: إذن ما هو؟ قال: أفكر، دعوني أفكر(10)، ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾، دعوني أفكر.
ثم خرج الوليد فلم يتَّجه إلى قريش أيضاً، بل ذهب إلى النبي (ص) وكان في الحِجر يصلي ويقرأ القرآن، قال: يا ابن أخي أتلو عليَّ، قال: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(11)، فقال: أعد عليَّ يا ابن أخي، فأعاد عليه الآية، قال: والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو ولا يعلى، وورد أنه قال: والله ما هو بقول بشر(12).
ثم رجع إلى قريش فقالوا له: ما الحيلة في هذا الأمر؟ قال: فكَّرت وفكرتُ وفكرت، فهو ليس بشعر، وليس بكهانة، وليس بخطب، ولكنَّه سحر ﴿سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾، لماذا هو سحر؟ قال: إنَّ الساحر هو مَن يُفرِّق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وهذا هو محمد قد فرَّق بين الرجال وبين نسائهم، وبين الآباء وأبنائهم، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر، فالزوج مؤمن والزوجة كافرة، والابن مؤمن والأب كافر، وأيُّ سحرٍ أشد من هذا السحر، فتوافقوا على أن يصفوا محمداً (ص) بالساحر.
فنزلت هذه الآيات ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾، يتهدد، قال له: أتركه لي، هذا أنا مَن سأتولى شأنه بنفسي.
بالطبع هذا الموقف الذي عرضناه لكم يُعبِّر عن مدى الحيرة التي انتابت هذا الرجل الذي هو معروف بأنَّه من المحكِّمة، في الشعر، وفي الأدب، وفي النثر، كان فحول الشعراء والأدباء والخطباء المفوهين يأتون إليه ليُمايز لهم بين الخطب والشعر فيحكم أن هذا أجود من ذا، فكان هذا الرجل كان من المحكِّمة، وهذا هو قوله المعبِّر عن الحيرة والذهول، ثم إنَّ وصف النبي (ص) بالساحر -لو تأملوا- هو إذعانٌ منهم بأنَّ القرآن كان متميزاً، تمام التميُّز، وهو إقرار بأنه ليس من قول أحد من الناس، ولكن الذي دفعهم إلى عدم الإيمان والإقرار هو الطغيان والحسد والضغينة والعصبية، هذه هي المناشئ التي منعتهم، وإلا فهم يعرفون أن هذا القول وهذه المضامين لا يسع من أحدٍ يأتي بمثلها.
نستكمل الحديث إن شاء الله فيما بعد.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المدثر / 11-28.
2- سورة الزخرف / 31.
3- سورة الزخرف / 32.
4- سورة الزخرف/ 32.
5- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص159.
6- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ -محمد الريشهري- ج3 / ص71.
7- سورة الأحزاب / 36.
8- سورة فصلت / 13.
9- سورة فصلت / 13.
10- إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص111.
11- سورة النحل / 90.
12- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص466. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج18 / ص187.