وجاءت سكرة الموت (2)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
كنا قد تحدثنا فيما سبق عن ما هو المراد من سكرة الموت، وقلنا إنَّ بعض مراتب سكرة الموت تنتاب كلَّ أحدٍ حتى الأولياء والأوصياء، بل وحتى الأنبياء، وقد ورد أنَّ الرسول (ص) حال احتضاره، كان بجانبه إناءٌ فيه ماء، فكان يغمس يده في الماء، ثم يرشح به وجهه، وهو يقول: لا اله إلا الله، إنَّ للموت سكرات. وكان يفعل ذلك مرارا، إلى أن فاضت روحه الطاهرة(1).
ثم تحدثنا عن ما يُهَّون سكرات الموت، وقلنا إنَّ كلَّ ما ذكرناه ونذكره إنَّما يُهوَّن سكرات الموت ولا يرفعها تماماً، فتظلُّ بعضُ مراتب سكرات الموت ثابتة لكلِّ أحدٍ إلَّا من شاء الله تعالى، وذكرنا أنَّ مما يُهوِّن سكرات الموت قضاءُ حوائج المؤمنين، وإطعامهم، وكسوتهم، وذكرنا لذلك بعض الروايات، وذكرنا أنَّ مما يُهوَّن سكرات الموت هو أن يصل الانسان رحمه، ويبرَّ والديه، فإنَّ مَن برَّ والديه، أو وصل رحمه أنسأ الله أجله، وكفاه سكراتِ الموت، ثُمَّ ذكرنا إنَّ من أهم ما يوجُب التهوين من سكرات الموت هو ولاية عليًّ وأهل بيته (ع)، فإنَّ من مات على حبَّهم، وكان يعشقهم ويواليهم ويعتقد بأحقيَّتهم في الإمامة، ويعتقد بعصمتهم، وبأنَّهم نجباء الله، وأولياؤه وأصفياؤه الذين اختارهم دون خلقه، مَن كان يعتقد ذلك ومات على ذلك هوَّن الله عليه سكرات الموت.
وهنا نود التأكيد على المطلب الأخير وهو أنَّه لابدَّ من الثبات على ولايتهم وحبَّهم، فربما يعيش الإنسان دهرًا من الزمن يتوهَّم أنَّه يعشقهم ويُحبُّهم ويواليهم، ثم لا تسوء خاتمته فينحرف عنهم عند موته، ذلك لأنَّ إيمانه بهم كان إيمانا مُستودَعًا كما أكدت الروايات وكما سنشير إلى ذلك، فيموت جاحدًا لولاية علي (ع) فلا يجد من حبَّ علي(ع) ما كان يرجوه المؤمنون من الرحمة الإلهية والرضوان والبشرى.
قلنا إنَّ ثمةَ رواياتٍ كثيرة تؤكد على ذلك، وقلنا إنَّ الانسان المؤمن في حال احتضاره وقرب موته يرى علياً (ع) ويرى رسول الله (ص) ويرى الحسن والحسين (ع) يبشّرونه، بل إنَّ كلَّ أحدٍ من أمةَّ محمد (ص) يرى عند موته علياً (ع) -سواءً كان مؤمناً أو جاحداً-، ولكنَّ المؤمن يرى علياً حيثُ يُحب، وغير المؤمن يرى علياً (ع) حيث يكره، روي عن أهل البيت (ع) أنَّ علياً (ع) قال: "واللهِ لا يبغضني عبدٌ أبداً فيموت إلّا رآني عند موته حيث يكره، ولا يحبني عبدٌ أبداً فيموت على حبَّي إلَّا رآني عند موته حيثُ يُحب"(2).
من اللطيف أنَّ ابن أبي يعفور -وهو أحد أصحاب الإمام الصادق (ع)- يقول: "كان لي جار ليس شيئ أبغض عنده من أهل البيت (ع)- كان ناصبياً شديد النُصب لأهل البيت (ع)-. وكنا نُخالطه لجيرته، وكان يصحب نجدة الحروري، يقول ابن أبي يعفور: دخلتُ عليه داره عند احتضاره، ورأيتُه مغمىً عليه وهو على حدَّ الموت، وسمعتُه يقول: مالي ولك يا عليّ -وهو مغمىً عليه-، يقول ابن أبي يعفور: فذهبتُ إلى الإمام الصادق (ع) فأخبرتُه بالخبر، فقال أبو عبد الله الصادق (ع): رآه وربَّ الكعبة، رآه وربَّ الكعبة، رآه وربَّ الكعبــة"(3)، أي رأى علياً (ع) حيث يكره كما أَقسم عليٌّ (ع) بذلك بقوله: "والله لا يبغضني عبدٌ أبداً فيموت إلا رآني عند موته حيث يكره"(4).
فثمَّةَ روايات كثيرة تؤكد هذا المعني، يقول العلامة المجلسي -صاحب البحار (رحمه الله)-: إنّ الروايات في ذلك مستفيضة(5). يعني إنَّ زيارة رسول الله (ص) وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين (ع) للأموات عند قرب موتهم مستفيضة. نعم، نحن لانعرف كيفية زيارتهم والخصوصيات والتفاصيل، ولكن ينبغي علينا أن نعتقد ذلك؛ لإخبار أهل البيت (ع) وهم الذين اطَّلعوا على الغيب بإطلاع الله تعالى لهم.
قرأنا فيما سبق الرواية الواردة عن الحارث الهمداني، وهناك رواية أخرى قريبة المضمون من الرواية التي قرأناها في الجلسة السابقة، يقول الحارث الهمداني: (دخلتُ على أمير المؤمنين (ع)، فقال له علي بن أبي طالب: ما جاء بك؟ فقال فقلت: حبَّي لك يا أمير المؤمنين. فقال: يا حارث أَتحبني؟ فقلتُ: نعم والله يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين (ع): أرى لو بلغتْ نفسُك الحلقوم رأيتني حيثُ تُحب، ولو رأيتني وأنا أذود الرجال عن الحوض ذود غريبة الإبل لرأيتني حيثُ تُحب، ولو رأيتني وأنا مارٌّ على الصراط بلواء الحمد بين يدي رسول الله (ص) لرأيتني حيثُ تُحب)(6).
وورد أيضاً عن أبي عبد الله (ع)، يقول يونس بن ظبيان: "كنتُ عند أبي عبد الله (ع) فقال لي: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟، قلتُ: يقولون في حواصل طيورٍ خضر -بعض المسلمين يعتقد أنَّ روح المؤمن إذا فاضت من جسده تحل في حواصل طيور خضر! فقال الصادق (ع): سبحان الله! المؤمن أكرمُ على الله من ذلك، إذا كان كذلك أتاه رسول الله (ص) وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين (ع)، ومعهم ملائكةٌ من ملائكة الله عز وجل المقرَّبين، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، وللنبي بالنبوة، والولاية لأهل البيت، شهِد على ذلك رسول الله(ص) وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) والملائكة المقربون معهم، وإنْ اعتُقل لسانه خصَّ اللهُ نبيَّه بعلم ما في قلبه من ذلك فشهد به، وشهِد على شهادة النبي (ص) عليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسين -على جماعتهم من الله أفضل الصلاة والسلام- ومن حضر معهم من الملائكة، فإذا قبض اللهُ رُوحه صيَّر تلك الروح إلى الجنة"(7).
هذه مجموعة من الروايات قرأناها؛ تيمناً، وللتأكيد على أنَّ مما يُهوَّن سكرات الموت هو أن يتولَّى الانسان المسلم علياً وأهل بيته (ع)، وأن يبقى على ولايتهم إلى أن يموت.
4- أمور أخرى:
هناك أمور أخرى تُهوَّن سكرات الموت أيضاً وردت في الروايات، نذكر بعضها، منها:
أ- المداومة على قراءة سورة الزلزلة:
إنَّ المداومة على قراءة سورة الزلزلة -خصوصاً في النوافل- ينفع عند الموت، روى الشيخ الكليني عن الإمام الصادق (ع): "قال: لا تملَّوا قراءة إذا زلزلت الأرض زلزالها، فإنَّه من كانت قراءته بها في نوافله، -لاحظوا المنح التي يُعطاها المؤمن عندما يقرأ سورة الزلزلة ويُداوم عليها ولا يملُّ من قراءتها- لم يُصبه الله عز وجل بزلزلةٍ أبداً، ولم يَمُتْ بصاعقةٍ ولا بآفةٍ من آفاتِ الدنيا حتى يموت، وإذا مات نزل عليه ملكٌ كريمٌ من عند ربَّه فيقعد عند رأسه فيقول لملك الموت: يا ملك الموت ارفق بوليَّ الله، فإنَّه كان كثيراً ما يذكرني ويذكر تلاوة هذه السورة"(8).
فمفاد الرواية أنَّ الأثر المترتِّب على كثرة الذكر لله تعالى، وكثرة القراءة لسورة الزلزلة، هو أنَّ الله عز وجل يُسخَّر له ملكاً كريماً يأتيه ويجلس عند رأسه حال احتضاره، ثم يُوصي ملك الموت بأنْ يرفق به.
ب- صوم يوم من آخر رجب:
كذلك مما يُهوَّن سكرات الموت صوم يومٍ من آخر شهر رجب، فإنَّه يُهوَّن سكرات الموت، ورد ذلك عن الإمام الصادق (ع) قال: "من صام يوماً من آخر الشهر -أي شهر رجب- كان ذلك أمانًا من شدَّةِ الموت، وأمانًا له من هول المطَّلع وعذاب القبر"(9).
ج- قراءة دعاءٍ خاصّ
بقي أن نختم هذا البحث بما ورد من أنَّ ثمة دعاءً، من قرأه في كلَّ يومٍ عشر مرات، غفر الله له، ووقاه من شرَّ سكرات الموت، وضغطةِ القبر، ومئةِ هولٍ من أهوال يوم القيامة. الله عز وجل كريمٌ وسع كرمه ورحمته كلّ شيئ، لاحظوا، بضع كلمات يقولها الانسان يكون جزاؤها كلَّ هذه المنح التي ذكرناها، ماهي هذه الكلمات؟ هو أن يقرأ في كلِّ يوم هذا الدعاء:
"أعددتُ لكلِّ هول لا إله إلا الله، ولكلِّ همٍ وغمٍ ما شاء الله، ولكلِّ نعمةٍ الحمدُ لله، ولكلِّ رخاءٍ الشكرُ لله، ولكلِّ أعجوبةٍ سُبحان الله، ولكلِّ ذنبٍ أستغفرُ الله، ولكلِّ مصيبةٍ إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكلِّ ضيقٍ حسبي الله، ولكلِّ قضاءٍ وقدرٍ توكَّلتُ على الله، ولكلِّ عدوٍ اعتصمتُ بالله، و لكلِّ طاعةٍ ومعصيةٍ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"(10)، هذه مجموعة من الأمور التي ذكر العلماء -تبعاً للروايات- أنَّها تُهوَّن سكرات الموت.
إشكال:
هنا إشكال قد يطرأ في الذهن وهو أنَّه نجد في بعض الاحيان أنَّ بعض المؤمنين يشتدُّ عليهم النَّزع، وتكون سكرات الموت عليهم شديدة، ونجد في المقابل بعض الكافرين يموتون موت راحة! والحال أنَّنا قد أكَّدنا أن المؤمن -خصوصاً إذا كان يعشق علياً وأهل بيته (ع) ويتوَّلاهم- يلقى البشرى عند موته، فلماذا يشتدُّ نزع المؤمن؟ ولماذا يدعو في بعض الاحيان بالويل والثبور؟
الجواب:
الروايات تصدَّت لتبيان ذلك وأكدت أنَّ الانسان المؤمن قد يشاء الله عز وجل أنْ لايُعذِّبه عذاب النار في يوم القيامة، لأنَّه ما من عذاب ادَّخره الله عز وجل أشدَّ من عذاب جهنم -والعياذ بالله-، لذلك فإنَّ رحمة الله عز وجل بهذا المؤمن اقتضت أنْ يُمحِّص عنه الذنوب ويمحوها عبر مراتب، المؤمن يقترف ذنوباً في دنياه فيبتليه بالفقر، أو يبتليه بالفقد، أو يبتليه بالمرض، أو يبتليه بواحدة من بلايا ومصائب الدنيا، ليُمحَّص عنه ذنوبه، فيأتي يوم القيامة طاهراً من كلَّ ذنب.
ولكن قد تكون ذنوب الإنسان المؤمن أوسع من أنْ تُمحَّص بكلِّ ذلك البلاء؛ نظراً لكثرتها أو لعظمها، وقد شاء الله أنْ لا يُعذِّبه في جهنم، ولذلك فإنَّه عند النزع يبتليه بشدَّةِ النزع وبشدة سكرات الموت، فتفيضُ روحُه وقد طهُر من كلَّ ذنب. فالمنشأ من شدة النزع وشدة سكرات الموت هو أنَّ الله عزَّ وجل أراد أن يُمحَّص ذنوبه.
ثم إنَّ ذنوب الانسان المؤمن قد لاتُطهَّرها شدَّة النزع وسكراتُ الموت؛ لكثرتها، أي لكثرة ما فرَّط في جنب الله، ولكثرة ما أذنب وأجرم وظلم وبخس نفسه، فيبتليه الله عز وجل بضغطة القبر، وبعذاب البرزخ، فيظلُّ أمداً قد يطول إلى المئات من السنين، وقد تربو على آلاف السنين، يُعذَّب في البرزخ ثم يأتي يوم القيامة طاهراً مبرأً من كلَّ ذنب فيدخُل الجنة، وقد لا تُمحِّص ذنوبَه عذاباتُ القبر لكثرتها، فيدخل في جهنَّم سنين، وقد تبلغ ألف عامٍ يُحبس في جهنم، فإذا ما طهر من ذنوبه يدخل الجنة.
إذن المنشأ من اشتداد النزع كما ورد في الروايات هو التمحيص للذنوب، ونقرأ في المقام رواية عن الإمام الصادق (ع): "قيل له (ع) صف لنا الموت؟ فقال: للمؤمن كأطيب ريح يشمُّه، فينعس لطيبه"(11) وذلك تعبير عن سهولة وقوع الموت على المؤمن، وورد في الروايات أنَّه تُستلُّ روحه من جسده كما تُستلُّ الشعرة من العجين.
وهنا يصف الإمام (ع) الموت فيقول كأنه يشمَّ طيبًا فينعس فتُستلُّ روحه بهدوء، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾(12)، فينقطع التعب، وتحلَّق الروح في رحاب الرحمة الإلهية، ثم يقول الصادق (ع): "وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد"(13)، وهنا نريد أن نشير إلى معنى الكافر في استعمال الآيات والروايات فقد يُطلق على مَن لا يجحدُ بالتوحيد ولايكفر بالله وبيوم القيامة وبالرسول الكريم (ص)، قد يُطلق الكافر على المسلم إذا كان يرتكب بعض الذنوب، اقرأوا هذه الآية الشريفة: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ / وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ / وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾(14)، هذه الآية المباركة توضِّح أنَّ هؤلاء الذين دخلوا في سقر وكانوا كافرين، لم يكن كفرهم يعني الكفر بالله وبرسوله، وإلَّا فما معنى التعليل بترك الصلاة، وترك إطعام المسكين، والخوض مع الخائضين أي مع أهل الفسوق في مجالس اللهو والمعصية والغناء والحبور، ومجالس القمار، ومجالس شرب الخمر، فهو يخوض مع هؤلاء الخائضين، وهذا الذي سلكه في سقر. وفي آية أخرى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾(15) مَن الذي يكذِّب بيوم الدين؟ الذي يكذِّب بيوم الدين هو من يجحد يوم القيامة ويجحد بالتوحيد والرسالة، إلَّا أنَّ الآية لم تقل ذلك، وإنما قالت: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ / وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ / الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ / الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ / وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾(16).
كلُّ هؤلاء يُكذبَّون بيوم الدِّين، فعلينا أنْ لا نغتر حينما يقول الرسول (ص) بأن الكافر إذا أراد اللهُ أن ينزع روحه نزل ملكٌ بيده سفُّود فيغرزها في جسده فتصيح جهنم، فنظن أنَّ الكافر هو غير المسلم، بل إنَّ الكافر قد يشمل المسلمين الذين يرتكبون المعاصي أو يتركون الفرائض، يقول الإمام (ع): "وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد، قيل: فإنَّ قوماً يقولون أنّه أشدُّ من نشرٍ بالمناشير وقرض بالمقاريض ورضخٍ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق، قال (ع): فهو كذلك، هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم من يُعاين تلك الشدائد؟ ثم سُئل الإمام قيل: فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع، فينطفي وهو يتحدَّث ويضحك ويتكلَّم، وفي المؤمنين أيضاً من يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين من يُقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد"(17)، فالعجب من المؤمن كيف يقاسي شدائد الموت وسكراته؟ فقال (ع): "ما كان من راحةٍ لمؤمنٍ هناك فهو عاجلٌ ثوابه، وما كان من شديدة فتمحيصهُ من ذنوبه ليردَ الآخرة نقيَّاً نظيفا مستحَّقًا لثواب الأبد، لامانع له دونه"(18). وبالنسبة للكافر لماذا يسهل عليه النزع؟
أفاد الإمام (ع) أنَّ ذلك عطاءٌ له؛ جزاءَ ما فعل من الخيرات، فالكافر قد يصنع بعض الخيرات فيجزيه اللهُ عز وجل، ولأنَّ الله لا يجزي الكافرين الجنة، فيجزيهم في دنياهم، ومِن جزائهم أنَّه يُخفِّف على بعضهم سكرات الموت.
العديلة وسوء الخاتمة:
بعد ذلك نتحدث عن موضوعٍ آخر، وهو أنَّه ثبت في الروايات أنَّ الانسان المسلم أو المؤمن قد تسوء خاتمتُه آخر عمره، وهذا ما يُعبَّر عنه بالعديلة عِند الموت، لذلك ورد في الروايات استحباب أن يُكرِّر الانسان هذا الدعاء وهو "اللهم اني أعوذ بك من العديلة عند الموت"(19)، لأنَّه قد يُصاب الانسان عند الموت بالعديلة، أي بالانحراف عن الإيمان بالله وبرسوله وبأهل بيته (ع)، وهذا مايُعبَّر عنه بسوء الخاتمة. وورد: "قلب ابن آدم أسرع تقلُّبا من القدر إذا استجمعت غليا"(20) ما معنى ذلك؟
لاحظوا القدر الموضوع على النار إذا بلغ درجة الغليان، هذا الماء تلاحظونه ينقلب عاليه إلى سافله، ويصير سافله إلى عاليه، وهكذا، فلا يستقرُّ الماء على حالةٍ نتيجةَ الغليان، قلبُ ابن آدم هكذا، لذلك ينبغي على الإنسان المؤمن أن يكون دائماً على حذرٍ، وأنْ يفعل الأمور التي تُوجب ثبات إيمانه وثبات عقيدته، لأنَّ قلبه كماء القدر الذي يكون على النار فهو يضطرب، فقد يركس الإنسان في آخر عمره فيتحول إلى كافرٍ بعد أنْ كان مؤمناً.
ورد في رواياتٍ عديدة أنَّ إبليس وأعوانه يجلسون عند الإنسان حال احتضاره، فتلك آخر محاولةٍ لإبليس، لعل هذا الإنسان يُصبح مطيعاً له، فقد يكون عاصياً لأبليس طيلة عمره إلا أنَّ إبليس لا ييأس، يظلُّ يوسوس له إلى آخر لحظة، فلعله يتمكَّن من دينه وعقيدته، ورد أنَّه يأتي إليه فيقول: انك ستموت، وإنَّ أفضل الأديان هو دين اليهود، فاعتقد به قبل أن تموت، أو يقول له إنَّ أفضل الاديان هو دينُ النصارى، فاعتقد به قبل أن تموت، لذلك أوصت الروايات أنْ لايُترك الميَّت حال احتضاره وحيداً لأنَّ الشيطان يعبث به (1)، والإنسان في تلك الفترة ضعيف العقل، ضعيف القوى، قد ينتابه شعور فيكون هذا الشعور مفضياً إلى هلاكه -والعياذ بالله- لذلك يستحب أن يجلس أهلُ الميت عند رأسه، ويُلقنونه الشهادتين مرةً بعد اخرى، ويقرأون عليه القرآن، سورة يس وسورة الصافات؛ حتى لا يعبث الشيطان بعقله ويُوسوس في قلبه.
ورد في الروايات كما عن الشيخ الطوسي (قد) يقول: "إنَّ رجلاً دخل على الإمام الصادق (ع) فقال له: إنَّ شيعتكم يقولون: إنَّ الإيمان قسمان: مستقر وثابت، ومستودع يزول، فعلِّمني دعاءً اذا قرأته كمُل إيماني واستقر"، هناك روايات كثيرة تقول: إنَّ الايمان قسمان: مستقر ومستودع، أما المستودَع فبأقلِّ شبهةٍ أو عثرة أو مصيبة يزول، وأما المستقِّر فهو أثبتُ من الرواسي -كما ورد في الرويات-، قد تزول الرواسي أو قد يُقتطع منها، ولا يزول من إيمان المؤمن شيء، هذا هو الإيمان المستقر.
لابد أن نبحث عن كلِّ وسيلة لنجعل من إيماننا ايماناً مستقراً ثابتاً لا ايماناً مستودعاً، هذا الرجل يقول أنا سمعتُ من الشيعة هذا الكلام، وأنا خائف أن يكون إيماني مستودعاً يزول لأقلَّ شبهةٍ، علِّمني شيئاً تكون عاقبتُه أن يمنحني اللهُ عز وجل استقرار الإيمان، فقال له الصادق (ع): "قل بعد كلَّ فريضة: رضيت بالله ربّاً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلةً، وبعلي ولياً وإماماً، وبالحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم، اللهم إني رضيتُ بهم أئمة فارضني لهم، إنك على كل شئ قدير"(21) هذا يُعبَّر عنه العلماء بدعاء العديلة، إذا واظب عليه المؤمن بعد كلَ فريضة رزقه الله الثبات على الإيمان، ولُقِّن الشهادة عند موته، إنْ كان أحدٌ عنده لقَّنه، وإنْ لم يكن عنده أحد جاءه ملك ولقَّنه.
المؤسف أننا تركنا هذه الآداب فأصبحنا نتهاون في هذه السُنَّة، وتلك السُنَّة، وما ندري ما لهذه السُّنن من آثارٍ وعواقب، ينبغي للمؤمن أن يُلقِّن نفسه هذه الأصول الاعتقادية في كلَّ يوم. يقول فخر المحققين ابن العلامة الحلي: (على المؤمن أن يستحضر في كلِّ يوم هذه العقائد) ثم يقول: (اللهم يا أرحم الراحمين، إني قد أودعتُك يقيني وثباتَ ديني، وأنت خير مستودَع، وقد أمرتنا بحفظ الودائع فردَّه عليَّ وقت حضور موتي) لأنَّه قد لا يوفَّق لنطقِ الشهادتين عند الموت.
من قصص العديلة وسوء العاقبة:
هناك مواقفُ ومشاهدُ يذكرها العلماء يذكرون أنَّ أبراراً وعلماءَ أتقياء يُلقِّنونهم فلا يتلقنون ولا ينطقون، لعلَّ ذلك من سوء العاقبة نتيجةَ بعض الذنوب، تمنعه هذه الذنوب أن يتلقَّن الشهادتين، هناك رجل حضره أهله وبعض الأخيار من جيرانه عند موته، فكانوا يقولون له: يا فلان قل لا اله الا الله. وهو يأبي أن يقول، فكلما قيل له: قل: لا اله الا الله لا ينطق! فجزعوا وتأثروا لأنَّه لم يوفَّق للنطق بالشهادتين، بعد ذلك قال لهم: أعطوني المصحف. ففرحوا، وجاؤوا اليه بالمصحف، فحمله ثم قال: اشهدوا بأني كافرٌ بربَّ هذا المصحف! ثم فاضت روحه، فاستغربوا واستوحشوا، وقالوا: ماذا عمِل هذا الرجل حتى يتفوَّه بهذه العظيمةِ المُوبِقة.
وآخر يحكي أنَّهم كانوا ثلاثة، وكان سبيلهم الغيّ، وكان من أفعالهم الشنيعة أنهم يختطفون النساء ويذهبون بهنَّ إلى بعض المزارع البعيدة ويفجرون بهن، ويشربون الخمر ثم يُطلِقون النساء، وفي ليلة من الليالي اختطفوا بنتاً وجاءوا بها إلى تلك المزرعة، يقول: فوجدنا كلَّ شي موجوداً إلا العشاء نسينا أن نشتريه، فبعثنا أحدنا ليشتري العشاء، ذهب ليشتري العشاء عند الساعة السابعة، انتظرناه فلم يأتِ، يقول فذهبت أبحثُ عنه، وفي الطريق وجدتُ سيارةً مقلوبة، يقول أنا فزعت، ورحتُ لأتفقَّد مَن بها، فوجدتُه صاحبي وقد بقي به رمق، يقول فأخرجته، وكان ينظر إليَّ بحسرة ويقول: النار النار، لا مفرَّ من النار، ثم مات. لاحظوا هو ينظر إلى النار كما قلنا البارحة: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(22) ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ / وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾(23) يقول الإمام (ع) ينظرون إلى أيَّ شيئ؟ الكافر والمذنب ينظر إلى ما ادَّخره الله له من عذاب، والمؤمن ينظرالى ما ادَّخره الله له من ثواب ورحمة.
ينقل الشيخ عباس القمي (قد) قصةً عن البهائي، يقول: إنَّ رجلاً كان يحتضر فجلس عنده بعض أهله، وكانوا يلقِّنونه الشهادتين وهو لا ينطق، ثم سمعوه يقول: يارُبَّ قائلةٍ يوماً وقد تعبتْ أين الطريقُ إلى حمام منجاب) أخذ يكرِّر هذه الكلمات، فاستغربنا وقلنا: ما معنى هذا الكلام، لعلَّ هذا من هذيان المشرف على الموت، يقول حاولنا أن نتعَّرفَ سببَ ذلك فوجدنا أنَّ سببه هو أنَّ امرأةً خرجت لتستحم -سابقاً لم تكن الحمامات في البيوت، وهناك حمام يسمى حمام منجاب- هذه المرأة الفقيرة تعبتْ من البحث عن هذا الحمام، ثم رأت هذا الرجل في الطريق، قالت له: يا هذا أين حمام منجاب؟ فأشار إليها على باب داره، هذه الفقيرة دخلت، فأغلق الباب وأراد أن يفعل بها القبيح، هي أرادت أن تتخلص من ذلك، أبدتْ له السرور والقبول، ولكنها قالت لو جئت لنا بشيء من الطيب، واشتريت لنا شيئاً من الطعام قبل ذلك، يقول فخرج من داره، واستثمرت هي فرصة خروجه فهربت، لاحظوا هذا الرجل كان قد نوى المعصية ولم يقترفها، فكانت عاقبة هذه النيَّة السيئة أن حجب الله عنه القدرة على النطق بالشهادتين، وأخذ يقول: ياربَّ قائلةٍ يوماً وقد تعبتْ أين الطريقُ إلى حمامِ منجابِ).
هناك الكثير من المواقف التي تُعبَّر عن سوءِ الخاتمة والتي تنشأ نتيجة بعض المعاصي التي يرتكبها الإنسان في حياته. من ذلك نؤكد على أنَّ المعصية قد تسلب الانسان القدرةَ عند وفاته على أن ينطق بالشهادتين، وهذا هو الذي يُعَّبر عنه بالعديلة عند الموت.
كيف نحمي أنفسنا من العديلة عند الموت؟
بعد ذلك نتحدث عما يوجب استقرار الإيمان، وعدم حصول العديلة، بعد أن عرفنا أنَّ ثبات المؤمن على دينه ليس حتمياً، فقد ينحرف في آخر لحظات عمره.
إذن لابدَّ وأن نبحث عن وسائلَ نطمئنُ معها بعدم الانحراف والعديلة عند الموت، نذكر مورداً واحداً ونُرجىء الحديث إلى جلساتٍ قادمة -إن شاء الله تعالى-.
أولاً: المواظبة على الصلوات في أوقاتها:
في الروايات إنَّ من الأمور التي تمنع من العديلة عند الموت، المواظبة على الصلوات في أوقاتها، فإنَّ من واظب على الصلوات في أوقاتها لم يُصب بالعديلة عند الموت، روي أنَّه ليلة أُسري بالنبي (ص) إلى السماء مع جبرئيل (ع)، وَجدَ ملَكاً عاكفاً على صحيفةٍ، وعليه آثار الجِدّ فقلتُ: يا جبرائيل مَن هذا؟ قال: هذا ملكُ الموت، فذهبتُ فسلمتُ عليه -الرواية بالمعنى- فقلتُ له: يا ملَك الموت أتقبضُ أرواح كلِّ الناس؟ قال: نعم، ثم قال: إنَّ الدنيا عندي كالدرهم في يدِ أحدكم يقلِّبه كيف يشاء، ثم قال: إنَّني في كلِّ يوم أتصفَّحُ وجوه كلِّ أحدٍ، صغيرٍ وكبيرٍ، خمسَ مرات في أوقات الصلوات، ولأَنا أعلمُ بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم) الرسول (ص) يعلِّق بعدها على هذا الحوار الذي ينقله للمسلمين، أتدرون لماذا يتصفَّحهم خمس مرات في أوقات الصلوات؟ يقول: "إنَّما يتصفَّحهم في مواقيت الصلاة، فإنْ كان ممَّن يواظب على مواقيتها لقَّنه شهادة أنْ لا اله الا الله، وأنَّ محمداً رسول الله (ص)، ونحَّى عنه ملكُ الموتِ إبليس"(24).
هناك روايات أخرى أفادت أيضاً أن الملائكة تُلَقِّن المؤمن الشهادتين، وتطرد إبليس من عند رأسه، ذلك هو جزاء المحافظة على الصلوات في أوقاتها. ملك الموت يتصفَّح وجوهنا في كلَّ يومٍ خمس مرات، فمن جاء دوره اختطفه من بين أحبته، والناس عنده كالدرهم في يدِ أحدنا يقلِّبه، أو هم كالجفنة -كما في بعض الروايات، وهو إناء الطعام- بين يديه ينتقي منه ما يأذن الله في قبضه.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص105.
2- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص132.
3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص200.
4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص199.
5-بحار الأنوار ج6 / ص200.
6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص181.
7- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص229.
8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج89 / ص333.
9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص475.
10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج84 / ص5.
11- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص152.
12- سورة النحل / 32.
13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص152.
14- سورة المدثر / 42-46.
15- سورة الماعون / 1.
16- سورة الماعون / 2-7.
17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص153.
18- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص153.
19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج95 / ص381.
20- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج7 / ص211.
21- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج6 / ص463.
22- سورة ق / 22.
23- سورة الواقعة / 83-84.
24- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص109.