معنى قوله تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد 

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم (ع): ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾(1)؟

 

الجواب:

السرابيل جمع سربال وهو القميص، وهو يصدقُ على كلِّ ثوب يكون لبسُه بنحو الدخول فيه سواءً كان يسترُ تمام البدن إلى أسفل الساقين أو كان يسترُ ما بين العنق إلى أسفل الظهر، وهو يصدق على المتَّخَذ من القماش، ويصدق على المتَّخَذ من الجلد أو الصوف أو غيرها من الأجناس، فهو يصدقُ على مثل المتَّخذ من الحديد المسمَّى بالدرع.

 

وأمَّا القَطِران فهو في استعمال العرب يُطلق مادةٌ صمغية لزِجة تُفرزها شجرة يُقال لها شجرة الأبهل، وهذه المادة سوداء ومنتنة وقابلة للِاشتعال السريع نظراً لدهنيتها، وهي ذات طبيعة حادَّة و لاسعة يشعرُ من يتفق له مسُّها بالحرارة في جوفه، وتُستعمل هذه المادَّة بعد طبخها لطلي الإبل المصابة بالجرب باِعتقاد أنَّ ذلك يترتَّب عنه احتراق مواضع الجرب نظراً لكون هذه المادَّة شديدة اللسع والحرارة.

 

فالناقة الجرباء حين يُطلى تمامُ بدنها بهذه المادة السوداء واللزجة تُصبح وكأنَّها قد سُربلت بقميص، فيُقال سُربلت الناقةُ بالقطران.

 

وعليه فالقطران الذي توعَّد الله به أهل النار وإنْ كنَّا لا نُدرك كنهه وحقيقته ولكنَّ الظاهر بمقتضى المدلول اللُّغوي للفظ القطران أنَّه يُحمل ذات الخصائص لمادة القطران التي يُطلى بها الإبل مع التفاوت الشديد في المرتبة والذي يقتضيها التفاوت بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فالقطران الذي توعَّد اللهُ به أهل النار مادةٌ لزجةٌ سوداء شديدة النتَن ولاذعة وقابلةٌ للاشتعال تُطلى بها جلود أهل النار، فتكون هي لباسُهم وسرابيلهم في جهنَّم، فهي مضافاً لكونها وحدها عذاباً لا يُطاق فإنَّها تجتذب النار إلى أجسادهم وتزيد من اشتعالها والتصاقها بجلودهم، فلو حاولوا الفرار فإنَّ النار تظلُّ ملتصقة بهم وملازمة لهم حيث اتَّجهوا.

 

هذا وقد فُسِّر القطِران في بعض الروايات بالصفْر أو النحاس المُذاب الذي بلغ مداه في الحرارة، أي أنَّه بلغ أعلى درجةٍ تصل إليه حرارة الصفر والنحاس المُذاب. فيكون طلاء أهل النار هو ذلك النحاس المُذاب.

 

وهذا التفسير يُناسب ما قِيل من أنَّ كلمة "قطران" مركَّبةٌ واقعاً من كلمتين "قطر" و"آن" ولذلك قرأ عددٌ من القرَّاء القطران في الآية على أنَّها كلمتان منونتان فقالوا هي: "من قطرٍ آنٍ".

 

والقطر هو النحاس أو الصفر المذاب كما في قوله تعالى على لسان ذي القرنين: ﴿آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾(2) فالقِطْر في الآية الشريفة هو النحاس المُذاب أفرغه ذو القرنين بين ثنايا صفائح الحديد ليلتحم بعضُه ببعض، فلا يُتاح بعدئذٍ لقبيلتي يأجوج ومأجوج نقبُ أو اقتحامُ ذلك السدِّ الحديدي الذي وضعه بين الصدفين أي الجبلين، لذلك قال تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾(3).

 

واستُعملت كلمة القطر وأُريد بها النحاس في آيةٍ أخرى أيضاً، وهي قوله تعالى في مقام البيان لأحوال نبيِّ الله سليمان (ع): ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ...﴾(4) فمعنى أسلنا له عين القطر هو أنَّه أذبنا وأظهرنا له مادَّة النحاس فصارت بين يديه وفي مملكته كالعين الجارية يستعين بها على بناء وتشييد الصروح.

 

وأمَّا كلمة "آن" فهي تعني منتهى ما تبلغُه درجة الحرارة كما هو مفاد قوله تعالى يصف أحوال أهل جهنم: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ / يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ﴾(5) فالحميم الآن هو الذي بلغ أقصى مداه في الحرارة، وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً / تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ﴾(6) فالعين الآنية هي التي بلغت منتهى ما تكون عليه حرارة الماء.

 

وعليه فمعنى كلمة قطر هو النحاس المُذاب، ومعنى توصيفه بكلمة آن هو أنَّه بلغ مداه في الحرارة.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة ابراهيم / 50.

2- سورة الكهف / 96.

3- سورة الكهف / 97.

4- سورة سبأ / 12.

5- سورة الرحمن / 43-44.

6- سورة الغاشية / 4-5.