حديث حول سورة المدثر -9
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ / إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ / فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ / عَنِ الْمُجْرِمِينَ / مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ / وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ / وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ / حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾(1)
صدق الله مولانا العلي العظيم
معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾:
الرهينة من الرهن، والرهن يعني الحبس. كما يقع ذلك في العقود والمعاملات، فلو أنَّ أحداً أقرض آخر قرضاً، وأراد أن يستوثق لماله حتى لا يضيع، فإنَّه يُطالب المقترِض برهنٍ كعقارٍ -مثلاً- يحبسه في يده فلا يتمكَّن مالكه من التصرف فيه من بيعه، أو هبته، أو ما إلى ذلك من أنحاء التصرف. فهذا العقار يظلُّ محتبِساً في يد المقرض، فإنْ وفى المقترض بالدين الذي عليه وسدَّده للمقرِض فكَّ بذلك الرهن، ورجع العقار الذي يملكه إلى يده، فيتمكن بعد ذلك من التصرف فيه كيفما شاء. فالرهن هو حبس المال وغير المال، ويُستعمل عادةً في الفقه لحبس المال لغرض الاستيثاق على الدين الذي للمرتهِن على المقترِض. هذا هو المراد من الرهن.
تعلمون أيها الأخوة أنَّ بعض المعاملات أو بعض ما يكتسبه الإنسان وبعض ما يفعله ينتج عنه احتباس شيءٍ من ماله، كالقرض مثلاً فإنَّه يترتب عليه أن يُحبس شيءٌ من مال المقترض فلا يتمكن من التصرف فيه إلا بعد أداء القرض الذي عليه.
وبعض الأفعال الذي يرتكبها الإنسان في الدنيا ينتج عنها أن تُحبس نفسه، فلا يفي شيء من ماله بما فعل، كالذي يقتل نفساً محترمة متعمِّداً مثلاً، أو يجترح جرماً لا يُستوفى بمال وإنَّما يُستوفى بحبس المرتكب للجرم فمثلاً إذا كان قد ارتكب جريرةً معينة كما لو اعتدى على آخرين فهو يحبس بالحق العام مدةً من الزمن، فكانت نفسه هي التي وفت بجريرته، ولا يفي مال ولا شفاعة ولا شيء آخر للجريرة التي ارتكبها.
وبتعبيرٍ آخر: هناك بعض الأفعال يفي عنها أن يُحبس شيءٌ من مال الإنسان أو يُقتطع شيءٌ من ماله عوضَ ما فعل، وبذلك يكون ذلك المال المحتبَس أو المقتَطع قد وفى بما قام به هذا الإنسان من فعل، وهناك بعض الأفعال التي يرتكبها الإنسان تُستوفى من نفسه، فهو إما أن يقتل وإما أن يُخلَّد في الحبس أو يحبس زمنا طويلاً أو قصيراً ليستوفى بحبسه مقدار ما ارتكبه من فعل.
الآية المباركة أفادت أنَّه ليس من شيءٍ يُحبس غير نفس الإنسان في مقابل كسبه وفعله عند الله عز وجل، فالمحتبس هو نفس الإنسان، فالإنسان هو نفسه الذي يُطوَّق بفعله ويحبس بفعله، فإما أن يفك هذه النفس المحتبسة عند الله عزوجل بعدد من الأفعال التي يقوم بها وبعض الأوامر والطاعات التي خوطب بها وأُمر بها، أو أنه يظلُّ محتبساً لا يمكن أن يُفكَّ حبسه بل هو نفسه يحبس بعد ذلك في جهنم والعياذ بالله. هذا هو المراد من قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ يعني أن الأفعال التي تكتسبها النفس تحبس بها ذات النفس، فهي التي تُرتهن فلا يشفع عن فعلها الذي ارتكبته مالٌ، ولا يشفع شفيعٌ، ولا أي شيءٍ آخر، وإنما هي النفس المجترحة للفعل، فهي التي تحاسب يوم القيامة على ما اجترحت وما فعلت من طاعات أو من ذنوب ومعاصي.
لا يُدان الإنسان بجريرة غيره:
هنا نريد أن نشير إلى أمرٍ أكَّد عليه القرآن الكريم وهو من المفاهيم القرآنية الراقية والتي هي أحد أصول العدالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان، فثمة آيات عديدة مضافاً الى هذه الآية تقرِّر أنَّ كل إنسان فهو مرتهِنٌ بفعله وليس من إنسانٍ آخر يُحاسب على فعل غيره، فالنفس دون غيرها هي التي تحاسب على ما تفعل، فلا يُحاسب على فعل هذه النفس قريبٌ لها أو صديق، فلا يُحاسب الأب بجريرة ابنه، ولا الرجل بجريرة زوجته، ولا الابن بجريرة أبيه، ولا الصديق بجريرة صديقه، كلٌ مرهونٌ بعمله، ولا يتعدَّى أثر عمله غيره، هذا قانونٌ إلهي، وهذه سنة إلهية، وهي مظهر من مظاهر العدالة الإلهية، ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(2).
هذه السنَّة الإلهية قد نتجاوزها في كثير من شؤوناتنا، فالسلطان يُنكِّل بأسرةٍ كاملة لأنَّ واحداً من أبناء هذه الأسرة يراه مجرماً في حقِّه، وأما بقية الأسرة فلا شأن لهم بذلك، ورغم ذلك فهذا السلطان ينكِّل بأسرة كاملة، وقد ينكِّل بقبيلة كاملة من أجل النكاية بواحدٍ من أبناء هذه الأسرة أو من أبناء هذه القبيلة هو بنظره مجرمٌ في حقه.
وليس السلطان هو من يفعل ذلك وحسب، نحن أيضاً في تعاطينا لشؤوناتنا اليوميَّة قد نتعامل مع من لا ذنب له معاملةَ المذنب، ليس لشيء إلا لأنَّ المذنب في نظرنا هو قريب لهذا الإنسان. فنرى أنَّه له لو خرج من أسرة رجلٌ سيء يفعل القبائح ويرتكب الذنوب الكبيرة والموبقات فإنَّ المجتمع يهجر كلَّ أبناء تلك الأسرة التي ينتمي إليهاذلك الفاسق. لماذا؟! لأن هذا الفاسق ينتمي لهذه الأسرة!! أيُّ ذنبٍ لهذه الأسرة أن خرج منها رجلٌ يرتكب الذنوب؟! حتى نسوغ لأنفسنا أن نهجر أو نقاطع أو نترخَّص لأنفسنا فنتنقِّص كلَّ أبناء الأسرة ونبيح أعراضهم والحديث عنهم بسوء والتهكُّم بهم أو اغتيابهم لمجرد أنَّ واحداً منهم سيء أو أن امرأةً منهم سيئة.
فهؤلاء مِثلُ سلاطين الجور الذين يعاقبون أسرةً كاملة من أجل واحدٍ فيها. فيأخذون الأب والابن ويودعونهم في السجن. لماذا؟ لأنَّ أحد أبناء هذا الأب معارض لهذا السلطان. هكذا يفعل سلاطين الجور، فيقتحمون بيتاً فيه مَن لا شأن له بهذه الأمور، فيه النساء، وفيه الأطفال، وفيه الصغار، وفيه الشيوخ، وفيه العجائز، وكبار السن، وفيه من لا ربط له بهذه الأمور وإن كان شاباً، فينكلون بالجميع، ويروعون الجميع، ويُساء إلى الجميع، من أجل واحد. هكذا يفعل سلاطين الجور، كذلك نفعل نحن.
هذه سياسة فرعون في مقابل العدل الإلهي، فالنظام الفرعوني حين آمن بموسى بعضُ بني إسرائيل ماذا كان جزاؤهم من فرعون؟ ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ﴾، أي شأن لأبنائهم؟! ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾(3)، هذا الجور الفرعوني المقابل له العدل الإلهي. الذي أفاد بأنه ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾(4). نحن في بعض سلوكياتنا وتعاطينا في شؤوناتنا أيضاً نتعامل كما يتعامل فرعون عندما يكون له خصم، فحينما نختلف مع آخر معه في في معاملة، أو في مسألة من المسائل الاجتماعية، أو نختلف معه في الفكر أو في الرأي، أو نختلف معه في العقيدة فإننا نستبيح عرض كل من ينتمي لهذا الفرد من أقرباء، وأصدقاء، وزملاء، فأقاطع الجميع، واتنقص من الجميع، وأُرخِصُ لنفسي الحديث والاغتياب للجميع. هكذا نفعل نحن.
فنحن إذن على سنَّة فرعون، لنبحث هذا الأمر في داخلنا وحينذاك سنجد أنفسنا على سنة فرعون في تعاطينا لهذا الشأن ولسنا على سنة الله عزوجل الذي أفاد بأنه ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾.
الإنسان مُحتبِسٌ بعمله:
فالآية المباركة في الوقت الذي تُؤكِّد على أنَّ الإنسان سيظلُّ محتبساً ومرتهناً بعمله لا يفكه منه سوى الصالحات من الأعمال وإلا سيظلُّ مرتهناً بهذا العمل إلى أن يقوده هذا العمل إلى جهنم، وفي الوقت ذاته تشير الآية إلى المعنى الذي ذكرناه.
العمل يظلُّ ملازماً للإنسان حتى بعد موته:
وقد أكدت العديد من الروايات على هذا العمل الذي يقوم به الإنسان يُمثل طوقاً محيطاً به، ومحاصِراً له، وحابساً له، ولا يتمكن من الخروج منه، وكما ورد في الروايات، أن كلَّ شيءٍ يتَّصل بالإنسان يفارقه عند موته، فيصحب الإنسان إلى قبره ثلاثة: اثنان ينصرفان عنه بعد أن يُدفن في قبره، وثالثٌ يظلُّ ملازماً له، مطوِّقاً له. هذا الطوق إمَّا أن يكون واقياً له ممِّا يعترضه من أمور وطوارئ وآفات، وإمَّا أن يكون هذا الطوق هو سبب شقائه، فهو يتعذب به ويتأذى منه-، فالثالث الذي لا يفارق الإنسان حتى في قبره هو العمل كما أفادت الروايات.
والقرآن قد أشار إلى ذلك في بعض الآيات، ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾(5)، هي تحيطك، وتدور حولك، وتطوقك. وفي آية أخرى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(6) سيُطوقون بهذه الكنوز التي اكتنزوها، فالكنوز تصبح أشبه شيءٍبالطوق والسلاسل والأغلال والقيود التي تُلفُّ حول أجسادهم فتحبسهم وتمنعهم من أن يتمكنوا من التأهل لدخول الجنة، لا نريد الإطالة في هذه الفقرة من الآية المباركة، لأننا نُريد التركيز على المسألة الأخرى التي أفادتها الآية.
أصحاب اليمين هم مَن فكَّ الرهان:
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ / إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾
هؤلاء أعني أصحاب اليمين قد فكَّوا الرهان بواسطة طاعاتهم وأفعالهم الحسنة. أصحاب اليمين هم أصحاب العقائد الحقَّة والأعمال الصالحة، هؤلاء بما انطووا عليه من معتقدات وبما يمارسونه من صالح الأعمال قد فكوا الرهن. تلاحظون انَّ الإنسان الذي عليه دين، وقد أُخذ في مقابل الدين عقاره الذي يملكه، هذا الرجل يبذل كلَّ جهده من أجل التحصيل لقيمة الدين ليدفعه إلى المقرض حتى يفك الرهن فيرجع إليه عقاره. طوال عمل الإنسان في الدنيا يُعد من السعي في فكِّ الدين، فالإنسان يولد مرهوناً، كما أفادت الآية، فتارةً يتغافل عن ذلك فلا يعتني بالقيد المحيطِ به فينصرف إلى شؤونه إلى أن ما يموت وهو في إسار قيده مطوَّقاً به فيأتي يوم القيامة فيبحث عن من يفك عنه هذا القيد، ولكنَّه لن يجد، ففك القيد كان له ظرفٌ آخر وقد فات، فلا جدوى من السعي لفكِّ القيد في الآخرة، لأنَّ الآخرة هي وقت الاستحقاق، والمصيبة انَّ الرهن في الدنيا عقار أو متاع وأمَّا في الآخرة فالمرتهَن هي النفس، فلا شيئ يفي بدين الإنسان يوم القامة إلا نفسه، لذلك فنفسه هي من ستكابد عذاب جهنم، وفي مقابل هذا ثمة مَن كان يسعى طيلة وجوده في الدنيا لفكِّ هذا الرهان، وتمكن، وهم أصحاب اليمين، الذين كما قلنا أفادت بعض الروايات هم شيعة آل محمد (ص) هؤلاء هم أصحاب اليمين لأنَّهم توفروا على كلا الوصفين:
فأولاً: انطووا على معتقداتٍ مطابقة للحق، وهي التي جاء بها القرآن، وجاء بها الرسول (ص): الشهادة بالتوحيد، والشهادة بالنبوة للنبي الكريم محمد (ص)، والإقرار بولاية عليِّ بن أبي طالب والأئمة(ع) من بعده، والإقرار بالمعاد، والإيمان بأنَّ علي بن أبي طالب هو الإمام المفترض الطاعة وهو الإمام الحق بعد رسول الله (ص)، هكذا أفاد الرسول (ص) ونحن نتعبَّد بكلام الرسول(ص)، ولو نصب الرسول(ص) لنا غير عليٍّ (ع) لقبلناه، ولكنَّه نصب علياً (ع) فقبلناه، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾(7)، نحن تعبَّدنا بكلام الله جلَّ وعلا وكلام الرسول (ص)، الذي قال: مَن كنت أنا وليُّه فعليٌّ وليُّه(8)، فنحن قبلنا ذلك، لهذا فنحن أصحاب اليمين، هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: عمل الصالحات، فلا يكون من أحدٍ في أصحاب اليمين إلا بالعمل الصالح. ولذلك ورد عن الإمام الباقر(ع) انَّه قال: شيعتنا أهل الورع(9)، شيعتنا أهل التقوى، الذين لا يرتكبون محارم الله، ولا يتجاوزون حدود الله عزوجل، فهؤلاء هم أصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال.
أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين:
وقد تحدَّث القرآن عن أصحاب اليمين في آياتٍ عديدة، عَّبر عنهم في بعض الموارد بأصحاب الميمنة، وفي بعض الموارد بأصحاب اليمين، ووعدهم في آياتٍ عديدة بأجزل النعيم، قال تعالى في سورة الواقعة:
﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ / فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ / وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ / وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ / وَمَاء مَّسْكُوبٍ / وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ / لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ / وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ / إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء / فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا / عُرُبًا أَتْرَابًا / -لمن- لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾(10) لأصحاب اليمين.
في المقابل توعَّد أصحاب الشمال بقوله:
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴾(11)، هؤلاء الذين لم يفك رهانهم.
وأما أصحاب اليمين فقد أفاد القرآن أنهم ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾، وإذا استقروا وهدأوا واطمأنوا لرعاية الله لهم في جناته، اخذوا يتساءلون: كان بيننا رجال فإلى أين صاروا؟ هؤلاء الرجال الذين يتساءل عنهم أصحابُ اليمين هم المجرمون، ﴿يَتَسَاءلُونَ / عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾(12) فيكشف الله عزَّوجل لأصحاب اليمين عن المصير الذي آل إليه المجرمون فيجدونهم وهم يُعذَّبون في سقر، فيسألونهم سؤالَ توبيخٍ وتقريع: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ فيُجيبونهم بأنَّ أسباباً أربعة هي التي ساقتهم إلى سقر، سنذكرها ونعلِّق عليها بإيجاز:
لماذا صاروا إلى سقر؟
﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾
لذلك كانوا يرتكبون الفواحش والمنكرات، لأنَّ الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمنشأُ ارتكابهم للفواحش وللمنكرات من البغي والظلم والزنا والعبث والسرقة وغيرها هو أنَّهم لم يكونوا من المصلِّين، وإلا لو كانوا من المصلِّين لنهتهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر.
﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾
فلم نكن نطعمه ولا نراعاه، ولا نعتني بشأنه، ولا نعبأ به، ولا يهمنا أمره، ولا يُحرِّك جوعه لنا جفن، هكذا كنَّا في الدنيا لا نُعين ضعيفاً، ولا نقضي حاجةً لمحتاج، لذلك أصبح هذا هو مصيرنا. فالقرآن يريد الإشارة من بيان ذلك إلى انَّ دين محمدٍ (ص) قائمٌ على التعاون والتكافل، فلا يجوع أحدٌ بين أظهرنا ثم نقول إنَّا من أهل الإسلام. ليس منا -كما في الروايات- من بات شبعان وجاره جائع، هذا مظهرٌ من مظاهر التكافل، فإذا كان الناس في هذا الوقت شبعى، من حيث الطعام لكنَّ لهم حاجات. هل اعتنيت بها؟ وهل سعيت من أجل قضاء شيءٍ منها؟ عندئذٍ تكون ممن فكَّ رهانه يوم القيامة وإن لم تكن كذلك كنتَ ممن بقي رهانُه مطوِّقاً له.
﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾
لم نك من المصلين، وقد نصلي ولكن على غير النحو الذي أمر الله تعالىبه، فلذلك ورد في الرواية عن النبي (ص) انَّه لمَّا وجد رجلاً يصلِّي دون تأنٍ، فكان ينقرها كما ينقر الغراب الحب قال: نقرٌ كنقر الغراب لئن مات هذا الرجل وهو كذلك مات على غير ملتي(13). يعني ان هذا الرجل في عِداد من لم يكن يصلي، فصلاته كـلا صلاة، لذلك قد يدخل مثل هؤلاء ضمن مصاديق قوله تعالى: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ فليس لمثل هؤلاء أن يقولوا: اننا لسنا مشمولين لهذه الآية
الضابطة في أنك تُصلي أو لا تُصلي عرَضها القرآن في آيةٍ أخرى قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾(14). فإذا وجدتَ نفسك عندما يعنُّ لك منكرٌ فإنك تُحجم عنه فأنت تُصلي، وإذا وجدتَ نفسك أنَّه بمجرد أن تُحدِّثك نفسك إلى فحشاء تراها محجمة خشيةً من الله فأنت مصلٍ، وبمجرد أن تُساورك رغبةٌ في أن تتطاول على شيءٍ مما في أيدي الناس ثم تجد في نفسك ما يردعها فأنت مصلٍ، إن لم تكن كذلك فأنت لست مصلياً ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾.
ثم قال: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾
في بعض الأحيان يكون المسكين الذي لا اُطعمه هو ابن عمي أو أخي. قد أجد أخي يتضور جوعاً أو أجده في مأزق، وبمقدوري المساهمة في رفع عوزه، ولا أعبأ، فكيف بالغريب؟! وفي بعض الأحيان لا أدري عن حاجته لأنِّي لا أسأل، فأنا أجهل بحاله لأني لا أتحرَّى ظروفه وأحواله، فالكثير منا قد يُبرِّر عدم التصدي لحوائج اخوانه بالجهل بفقرهم وكأنَّ ذلك يعذره عند الله تعالى!! وانَّه في منأى عن المسئولية لمجرد الجهل، ليس الأمر كذلك فهو ليس في منأى عن المسؤولية حتى في ظرف الجهل بحاجة أخيه أو جاره أو صديقه أو أهل محلَّته.
﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾
هذا هو المنشأ الثالث من مناشئ وجود هؤلاء في سقر. فما هو الخوض مع الخائضين؟ الخوض مع الخائضين يعني المشاركة لأهل الباطل في باطلهم، ولذلك مظاهر كثيرة:
فالجلوس في مجالس اللهو والطرب والعبث والسمر يُعدُّ من الخوض مع الخائضين، فحينما أتراود على المجالس التي يُتلهَّى فيها بالغناء، والطرب، والموسيقى، والدفوف، والمزامير، ولعب القمار، وشرب الخمر، أو أدنى من ذلك، أو أعلى من ذلك، فأنا ممَّن يخوض مع هؤلاء الفساق -والعياذ بالله- فأهل الطرب واللهو والفسوق هم من أجلى المصاديق المعنيَّة من وصف الخائضين.
وكذلك فإنَّ مجالس الخائضين تشمل مجالس الغيبة، والنميمة، والتعيير، والتهكُّم، والسخرية بالآخرين، فالمجالس التي اعتاد روَّادها على السخرية من الناس والتنقُّص من شأنهم والنيل من أعراضهم هي من المجالس المشمولة للآية المباركة.
ومن المجالس التي يكون ارتيادها من الخوض مع الخائضينن هي مجالس الفحش والبذاء. والتي لا يفتأ روادها يتلفظون بالكلمات الفاحشة والخادشة للحياء، ثمة من يأنس بهذه الأحاديث الفاضحة والمخلَّة بالآداب، والتي يتنزَّه ذوو المروؤات عن تناولها حتى في الخلوات مع زوجاتهم، إلا نَّ هناك مجالس تُعقد ويكون غالب أحاديث روَّادها حول هذه البذاءات المعبِّرة عن خلو المتلفِّظ بها من أدنى مراتب الأدب، فارتياد المجالس التي يمتهن روادها الحديث عن مثل مسائل النساء أو التي يتم فيها التوصيف للأفعال المشينة أو التي يتم التناول فيها لأعراض الناس وخصوصياتهم ارتياد مثل هذه المجالس يُعدُّ من الخوض مع الخائضين. كما هي مجالس قوم لوط، صفير، وتصفيق، وقذف، وكلمات بذيئة، وأفعال وحركات مشينة وخادشة للحياء. مثل هذه الممارسات كانت واحداً من مناشئ سخط الله عزوجل عليهم حتى قذفهم من السماء بحجارةٍ من سجيل، ثم خسف بمدينتهم فجعل عاليَها سافلها، فكانت هذه الممارسات هي أحد مناشئ ما أوقعه بهم من عذاب كما قال تعالى: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾.
وأسوأ من كلِّ هؤلاء الذين ذكرناهم هم الذين يخوضون في آيات الله -كما صرح القرآن الكريم- ويستهزؤون بآيات الله وبمعالم دين الله، ويُثيرون الشبهات والضلالات على دين الله تعالى وقرآنه ورسوله الكريم (ص) وأهل بيته (ع) فارتياد مثل هذه المجالس هو من أجلى مصاديق الخوض مع الخائضين، ولذلك نصَّ القرآن على هذا المصداق وحذَّر منه ووصف أصحاب هذه المجالس بالظالمين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
نستكمل الحديث حول الآية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المدثر / 38-47.
2- سورة الأنعام / 164.
3- سورة الأعراف / 127.
4- سورة الطور / 21.
5- سورة البقرة / 81.
6- سورة آل عمران / 180.
7- سورة الأحزاب / 36.
8- "من كنت وليه فعلي وليه". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج37 / ص197.
9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص57.
10- سورة الواقعة / 27-38.
11- سورة الواقعة / 42.
12- سورة المدثر / 40.
13- "نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني". وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص32.
14- سورة العنكبوت / 45.