حديث حول سورة المدثر -10

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

كنا قد توقَّفنا في جلسةٍ سابقة عند قوله تعالى على لسان المجرمين من سكنة جهنم: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾(1)، وهذا هو السبب الثالث من أسبابٍ أربعة أجاب بها المجرمون حين سئلوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾(2). ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾(3) هذا هو السبب الأول. ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ هو السبب الثاني ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ هو السببُ الثالث، وأما السببُ الرابع فهو قولهم: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾(4).

معنى الخوض في الباطل:

وقد تحدَّثنا فيما سبق عن معنى قوله تعالى على لسان المجرمين: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾، وذكرنا عدداً من مظاهر الخوض مع الخائضين. والخوض -كما لعلَّه واضح- يعني الغور في الشيء والولوج فيه، وكثيراً ما يُستعمل في خوض القدم في الماء والطين وفي المستنقعات وشبهها.

فكأنَّ القرآن الكريم أراد من التعبير عن الدخول في مجالس الباطل بالخوض تشبيهَ ذلك بولوج الرجل في مستنقعٍ ملوَّثٍ وهو ما يترتَّب عليه تلوُّث قدميه وثيابه بقاذورات ذلك المستنقع أو طينه، فالولوج والدخول في مجالس أهل الباطل يشبه الخوض في المستنقعات القذرة، فكما أنَّ كلَّ أحدٍ يخوض في مستنقَعٍ فإنَّه لابدَّ وأن يعلُق في قدميه شيءٌ من تلك القاذورات، أو شيءٌ من ذلك الطين، ويتلوَّث جسده، وتتقذر ثيابه فكذلك مَن يخوض في الباطل لابد وأن تتلوَّث نفسُه، ويتلوَّث خُلقه، بذلك الباطل الذي قد خاض فيه.

موارد من استعمال القرآن لكلمة الخوض:

هذا وقد استعمل القرآن كلمة الخوض في المعنى الذي بيَّناه في آيات عديدة:

منها: قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ﴾(5). والخطاب موجَّهٌ لليهود المعاصرين للنبيِّ الكريم (ص) فهم قد خاضوا في مثل ما خاض فيه اليهود الذين سبقوهم من تحريف كتاب الله، والعبث بآيات الله، وإخفاء ما يصطدم بمصالحهم وأهوائهم من التوراة وإظهار ما يوافق أهواءهم. فالقرآن يُخاطب اليهود بقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(6).

وكذلك استعمل القرآن الكريم الخوض في آية أخرى وأراد منه ذات المعنى المذكور أو قريباً منه وهو قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(7). فهم يتوهَّمون أنَّ ولوجهم في الباطل ينشأ عنه ترويحاً للنفس وتنفيساً للخواطر وجلباً للمصالح، وذلك محضُ توهُّم، لذلك ذرهم، في غمار غفلتهم فسوف يلاقون غبَّ ما يفعلون يوم القيامة.

من مظاهر الخوض مع الخائضين:

المظهر الأول: مجالس اللهو:

ذكرنا فيما سبق أنَّ من مظاهر الخوض في الباطل هو الدخول والمشاركة -أو حتى مع عدم المشاركة- في مجالس اللهو والطرب، واللعب، والقمار، وشرب الخمر، والغناء، وما أشبه ذلك، فهذا مظهر من مظاهر الخوض في الباطل، والذي هو سببٌ من أسباب دخول المجرمين في سقر.

المظهر الثاني: مجالس الغيبة والسخرية:

ومن مظاهر الخوض مع الخائضين هو الدخول في مجالس الغيبة، والنميمة، والاستنقاص، والسخرية منهم، والاستهزاء بهم، والتهكم عليهم.

فثمة مجالس تتعاطى مثل هذا السلوك المشين، فقد لا يكون الغرض من عقدهم لهذه المجالس هو الاجتراح لهذه المعاصي ولكنَّهم ينجرُّون إلى ذلك، فيكونون مصداقاً للخوض في الباطل والخوض مع الخائضين. فيجلسون ويذكرون هذا، ويعيبون على ذاك، ويتهكَّمون من هذا، ويسخرون من ذاك، ويستصغرون هذا ويحتقرون ذاك، ولا يكاد يسلم من سُخريتهم واستنقاصهم واستهزائهم وتهكُّمهم أحد. مثل هذه المجالس يصدق عليها انَّها من مجالس الباطل، فارتيادها والمشاركة فيها يُعدُّ من مظاهر الخوض مع الخائضين كما ذكرنا.

المظهر الثالث: الحديث حول المسائل الخادشة للحياء:

وكذلك من مظاهر الخوض مع الخائضين هو ما تتعاطاه بعض المجالس من الحديث حول المسائل التي تخدش الحياء، ففيها يتمُّ الحديث حول مسائل لا تليق بالعفيف الذي يحمل في قلبه سجيَّة الحياء، والذي أفادت الروايات انَّه من شعب الإيمان. فلا يليق بالمؤمن-والذي لا يستحق وسام الإيمان إلا أن يكون واجداً لصفتي الحياء والعفة- لا يليق به أن يتفوَّه بمثل هذه الأحاديث، أو يتلفَّظ بألفاظ الفحش التي يتنزَّهُ عن التلوُّثِ بها أهلُ الدين والعفاف.

فثمة مجالس تتعاطى مثل هذه الأحاديث، وهي من مجالس أهل الباطل، ولهذا فالحضور إلى هذه المجالس والأُنس بها يُعدُّ من الخوض مع الخائضين والذي هو من أسباب الاستحقاق لدخول سقر نستعيذ بالله تعالى منها.

المظهر الرابع: المجالس التي تستهزئ بآيات الله تعالى:

ومظهرٌ رابعٌ ولعلَّه أسوأ الأربعة التي ذكرناها هو الخوض في المجالس التي تستهزئ بآيات الله عزَّ اسمه وتقدَّس. فيستعرضون أحكام الله، ومفاهيم الدين، والمسائل الاعتقادية في مجالسهم، لغرض السخرية منها والاستهزاء بمضامينها، وإيراد الشبهات والطعون عليها من أجل التضليل والتوهين لدين الله جلَّ وعلا، مثل هذه المجالس هي التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾(8). فحقُّ هذه المجالس أنْ تُهجر وأنْ يتمَّ الإعراض عنها والمجافاة لها، فليس للمؤمن الذي يخشى الله تعالى أن يرتاد مثل هذه المجالس.

وقد قلنا فيما سبق أنَّ المجالس التي تتعاطى الإستهزاء بآيات الله لا تختصُّ بالمجالس التي يجتمع فيها الناس على الهيئة المتعارفة، بل هي تصدق على مثل المنتديات والمواقع الإلكترونية التي تتعاطى مثل هذه المسائل، فالدخول إلى هذه المواقع يُعدُّ من الخوض في المجالس التي تستهزئ بآيات الله تعالى، فكلُّ محفلٍ أو منتدى يُورد الضلالات والشبهات والطعون في الإسلام أو في آيات الله عز وجل أو يطعن في أولياء الله ورموز الدين كالنبيِّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع) أو حتى علماء الدين فإنَّ ذلك المحفل وذلك المنتدى مشمولٌ للنهي الوارد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾.

﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾:

ثمَّ قال تعالى على لسان هؤلاء في مقام البيان لأسباب الدخول في سقر: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾(9)، هذا هو السبب الرابع الذي كان منشأً لدخولهم في جهنم، فالسبب الأول انَّهم لم يكونوا من المصلِّين وقد أوضحنا ما هو المراد من ذلك، وكانوا لا يطعمون المسكين، وكانوا يخضون مع الخائضين، وكانوا يكذِّبون بيوم الدين.

ما هو المراد من يوم الدين؟

يوم الدين هو يوم القيامة وسمِّي بيوم الدِّين لأنَّه يوم الحساب ويوم الجزاء، ويوم القضاء، ويوم المحكمة الكبرى، هذا هو منشأ تسميته بيوم الدين.

فهؤلاء الذين استحقَّوا الدخول في سقر كانوا يُكذِّبون بذلك اليوم الذي أفاد القرآن بأنَّه لا ريب فيه، ولا شكَّ يعتريه، لكن هؤلاء يشكُّون، بل ويجحدون بيوم الدين، ومن المعلوم أنَّ الإيمان بيوم الدين هو من أصول العقيدة، وأنَّ كلَّ مَن يكفر ويجحد بيوم الدين فهو منكرٌ لأصلٍ من أصول العقيدة، فأصول العقيدة هي التوحيد والنبوَّة والمعاد، فالتوحيد ويُلحق به العدل، والنبوة ويُلحق بها الإمامة، والمعاد هي أصول الدين، فمن أنكر التوحيد مثلاً فقد خرج من ربقة الدين، وكذلك فإنَّ مَن أنكر المعاد فهو خارجٌ من ربقة الإسلام، لذلك فهو ليس من الدين في شيء.

التكذيبُ العملي ليوم الدين:

والتكذيب -أيُّها الأخوة- بيوم الدين قد يكون تكذيباً عقائدياً، وهو أنْ يجحد الإنسان بيوم القيامة فيقول لا وجود لهذا اليوم وأن الناس إذا ماتوا فقد انتهى كلُّ شيء، هؤلاء يكفرون بيوم الدين عقائدياً، وهم الأسوأ. ولكن التكذيب بيوم الدين لا ينحصر بالتكذيب الاعتقادي ليوم الدين، فهناك تكذيبٌ عملي ليوم الدين أشار إليه القرآن في بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾(10)، مَن؟ قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾(11). فلعلَّ هذا الذي يدعُّ اليتيم ويُعنِّفه ويظلمه ويسلبه حقَّه ويستطيل على أمواله، لعلَّه يؤمن بالله ويُصلِّي ويصوم ويحج بيت الله تعالى، ويؤدي الفروض التي عليه، ولكنَّ القرآن عَدَهُ فيمَن يُكذِّبُ بيوم الدين، إذن فالذي يدعُّ اليتيم ويظلم اليتيم هو في عداد مَن يُكذِّب بيوم الدين. وهو تكذيبٌ عملي وليس تكذيباً اعتقادياً، فلو سألتَه هل يُؤمن بيوم المعاد؟ لأجاب بنعم، ولكنَّه عملاً لا يؤمن بيوم المعاد. لأنَّ الإيمان الحقيقي بيوم الدين يكون رادعاً للمؤمن عن أن يرتكب الحرام أو أن يُصرَّ -لا أقل- على الحرام، فيوم الحساب يخلق هاجساً على الدوام في قلب المؤمن، فكلّما أراد أن يُقدم على عملٍ تذكَّر ذلك اليوم، فيتأمل فيما هو الأثر الذي سوف يترتَّب عن ارتكاب هذا الفعل يوم القيامة؟ ثمَّ على هذا الأساس يُقرِّر الفعل أو الإعراض عن الفعل. أما الذي لا يكترث ولا يُبالي ولا يخطر ذلك اليوم في خلَده أصلاً، فهذا لا يؤمن واقعاً بيوم الدين وإنْ كان يدَّعي الإيمان بيوم الدين.

فالإيمان إذن بيوم الدين الذي كان عدمه منشأً لدخول سقر، لا يختصُّ ظاهراً بمن يُكذِّب تكذيباً عقائدياً بيوم الدين بل يشمل كلَّ مَن يُمارس بنحوٍ دائمٍ سلوكاً لا يفعله إلا مَن كان يجحد بيوم الدين. تصوروا لو انَّ أحداً كان في بلدٍ لها عددٌ من القوانين والضوابط وكان عارفاً بها، ورغم ذلك يتجاوز هذه القوانين ويتجاهلها ولا يكترث بها وبالجزاءات المترتِّبة على مخالفتها، فمثل هذا السلوك لا يصدر إلا ممَّن لا يعترف بتلك القوانين.

يوم الدين هو الباعثُ على المحاذرة من الذنوب:

فيومُ الدين هو الوازع والرادع الذي تنشأ عنه المحاذرة من ارتكاب المعاصي والذنوب والفواحش، فإذا وجدتَ أحداً لا يتورَّع عن مقارفة الذنوب كشف لك ذلك عن عدم ايمانه عمليَّاً بيوم الدين. لأنَّ أحداً لا يُريد أنْ يدخل جهنم، ولا يُريد أنْ يحترق بالنار، ولا يُريد أن يخلد في الجحيم، ولا يقبل أحدٌ لنفسه أنْ يظلَّ مخلَّداً في جهنم يكتوي جلده ولحمه بسعيرها فـ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾(12) فليس من عاقل يقبل لنفسه هذا المصير البائس، فإذا وجدت عاقلاً يجترح موجبات الدخول في جهنم فهو إذن لا يؤمن بحتميَّة المآل لهذا المصير.

فلذلك على الإنسان الذي يدَّعي الإيمان بيوم الدين وهو يُكثر من ارتكاب الذنوب أنْ يُراجع إيمانه:

هل هو مؤمنٌ فعلاً بيوم الدين أو مجرَّد لقلقة لسان؟

هل يؤمن واقعاً بيوم الحساب؟

إذا كان يؤمن بيوم الحساب فلماذا يظلم؟!

وإذا كان يؤمن بيوم الحساب فلماذا يرتكب الفواحش؟!

وإذا كان يؤمن بيوم الحساب فلماذا يتطاول على أموال الناس أو أعراضهم أو دمائهم؟!

وإذا كان يؤمن بيوم الحساب فكيف لم يردعه ذلك عن الكذب والنميمة والبهتان؟!

فليُراجع مثل هذا دينه، وليمحِّص عقيدته، ليعرف أنَّه مؤمنٌ واقعاً بيوم الحساب أو لا؟

يوم الحساب هاجسٌ حاضرٌ في قلب المؤمن:

فالإيمان بيوم الحساب يخلق هاجساً في قلب المؤمن لا يكاد يُبارح خلَده، فهو حاضر في شعوره حتى لا يكاد يغفل عنه. لذلك فهو حين يُصلِّي يكون باعثه على الصلاة هو التذكُّر لما يترتَّب على فعلها وتركها من أثرٍ في ذلك اليوم، وكذلك عندما يصوم ويُزكِّي. وهكذا فكلُّ شؤوناته مبنيَّةٌ على مقاييس ذلك اليوم، فهو يفعل الطاعات يبتغي منها مقاماً مشرِّفاً في ذلك اليوم، ويترك الذنوب حذراً من العذاب الذي ينتظر المذنبين في ذلك اليوم، فحياته كلُّها مبنية على مقاييس ذلك اليوم. لذلك قال أمير المؤمنين (ع) "إنَّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الفزع الأكبر"، هذا هو الهاجس الذي يكون حاضراً قلب المؤمن. نعم هذا الهاجس تتفاوت شدَّتُه وضعفه بتفاوت القابليَّات ودرجات الإيمان، ولكن أضعف الإيمان هو انْ يكون هذا الهاجس حاضراً حين الرغبة في ارتكاب شيئاً من الذنوب الكبيرة.

ليس لعليٍّ (ع) من نظير:

وأمُّا عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) فالأمر معه مختلفٌ تمام الإختلاف، ذلك لأنَّ يوم الفزع الأكبر حاضرٌ في قلبه وكأنَّه يراه رأيَ عَيْن، لذلك هو لا يفعل حتى ما يُنافي الأولى فضلاً عمَّا يُكره أو يحرم.

من هنا حين قدَّمت له ابنتُه السيدةً أمُّ كلثوم طعامَ الإفطار بعد صلاة العشاء، ولم يكن ذلك الطعام سوى قدحٍ من لبنٍ، وحفنةٍ من ملحٍ، وقرصٍ من شعير، فأخذ ينظر إليه، فما لبثَ أنْ فاضت عيناه بالدموع، ثمَّ قال: يا بُنيَّة أتُريدين أنْ يطول وقوف أبيك بين يدي الله، - نفسٌ لا يملك إنسانٌ إلا أن يَنحني أمامها إكباراً لسموِّها- أتُريدين -يابُنيَّة- أنْ يطول وقوفي غداً بين يدي الله عزَّ وجل يوم القيامة .. يا بُنيَّة ما من رجلٍ طابَ مطعمُه ومشربُه وملبسُه إلاّ طال وقوفُه بين يدي اللهِ عزّ وجلّ يوم القيامة، يا بُنيّة إنّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب .. يا بُنيَّة والله لا آكل شيئاً حتى ترفعين أحد الإدامين"

هذا المستوى من الحضور الراسخ ليوم الفزع الأكبر وهذا الوهَج الروحي المتألق الذي ينطوي عليه قلبُ عليِّ بن أبي طالب (ع) ليس له مثيلٌ في هذا الكون إلا ما كان من شأنِ رسول الله (ص). هذا المستوى الذى لا يُطاول من التقوى لا يقوى عليه أحد إلا انَّه كما أفاد أميرُ المؤمنين "إنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونا بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد". فما هو فوق ذلك قد يشقُّ على عموم الناس التزامُه فلا أقل من أن يكون الوجل من يوم الفزع الأكبر حاضراً في قلب المؤمن عندما تعنُّ له معصية أو تستحثُّه رغبة على مجاوزةِ حدٍّ من حدود الله تعالى.

وأما معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾(13) فهو انَّه قد امتدَّ الخوض في الباطل عندهم، والتكذيبُ ليوم الدين إلى أنْ حضر وقت الأجل المحتوم، فلم تقطعه توبة. فالمراد من اليقين في الآية الشريفة هو الموت.

لماذا عبَّر القرآن عن الموت باليقين؟

لأنَّه ما من شيءٍ يشترك في اليقين به كلُّ أحدٍ أوضح من الموت، فليس من مسلمٍ أو كافرٍ إلا وهو على يقينٍ بأنَّ الموت قادم، وانَّه قدرٌ حتمي لا يَستثني أحداً من ولد آدم، فالكافر على يقينٍ بأنَّه سيموت، والمؤمنُ على يقينٍ بأنَّه سيموت، لذلك يُعبَّر عن الموت باليقين.

وهذا هو المراد من اليقين في الزيارة المأثورة: "وعبدتَ الله مخلصاً حتى أتاك اليقين"(14) يعني حتى أتاك الموت. والمراد من هذه الفقرة انَّه امتدَّ إخلاص الإمام الحسين (ع) وعبادته وطاعته وجهاده، امتدَّ من أول نشأته حتى وافاه الأجل المحتوم. وأما هؤلاء الذين سلكهم الله تعالى في سقَر فهم على نقيضٍ من ذلك، فلقد كان من شأنهم انَّهم خاضوا مع الخائضين، وكذَّبوا بيوم الدين، ولم يحضُّوا على طعام المسكين، وامتدَّ ذلك السلوكُ بهم حتى أتاهم اليقين، أي الموت.

الإنتفاع بالشفاعة منوطٌ بالأهليَّة:

﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ / وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ / حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ / فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾(15).

هؤلاء لا يتأهَّلون للشفاعة، فالشفاعةُ سوف تنال الكثير من عباد الله، ولكن ثمة مَن لنْ يحظى بها، لأنَّ الشفاعة لا تُعطى جزافاً واعتباطاً وعبثاً، فالنبيُّ الكريم (ص) وأهلُ بيته (ع) إنَّما يشفعون لمَن له الأهلية واللياقة لتلقِّي هذه المنحة الإلهيَّة، وأمَّا الفاقدون للأهليَّة فلا يحظون بالشفاعة لأنَّهم لا ينتفعون منها، فهي أشبه شيءٍ بالماء الذي تسكبه على النبتة التي فيها بقيةُ حياة ولكنَّها ذابلة أو مازالت برعماً صغيراً، فهي قابلة لأنْ تنمو، لذلك يفعل الماء فعله في نموها. أما النبتة الميِّتة فإنَّه لو صببت عليها من ماء الفرات العذب ووضعتها في تربةٍ خصبة فإنَّها لن تنمو لعدم قابليَّتها للنمو. هكذا هي الشفاعة إنَّما تنفع المؤمنين المقصِّرين الذين أدركهم الضعف فاجترحوا بعض الذنوب لكنَّ قلوبهم عامرة بالإيمان وهم في ذات الوقت يعملون الصالحات ولكنَّهم خلطوا بها أعمالاً سيئة، فأمثال هؤلاء تنفعهم الشفاعة نظراً لأهليَّتهم وقابليَّتهم للإنتفاع بها كما هو الشأن في النبتة الذابلة فإنَّ الماء والتراب والمناخ المناسب ينفع كلُّ ذلك في انتعاشها وتقويمها واشتداد عودها وإنَّما تنتفع من ذلك لأنَّها لم تفقد القابليَّة لتلقِّي أسباب النمو، كذلك المؤمن ينتفع بالشفاعة لأنَّه يتحلَّى باللياقة التي تُؤهِّله لتلقِّي أثر الشفاعة. لذلك فالشفاعة حين يحظى بها تدفع عنه الكثير من أخطار يوم القيامة وأهوالها.

وللحديث تتمة نستعرضها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 45.

2- سورة المدثر / 42.

3- سورة المدثر / 43.

4- سورة المدثر / 44-46.

5- سورة التوبة / 69.

6- سورة التوبة / 69.

7- سورة الأنعام / 91.

8- سورة الأنعام / 68.

9- سورة المدثر / 46.

10- سورة الماعون / 1.

11- سورة الماعون / 2.

12- سورة النساء / 56.

13- سورة المدثر / 45-47.

14-مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص402.

15- سورة المدثر / 45-48.