حديث حول سورة المدثر -11
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا.
اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ / فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ / عَنِ الْمُجْرِمِينَ / مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ / وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ / وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ / حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ / فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾(1)
صدق الله مولانا العلي العظيم
كنَّا قد توقَّفنا في جلسةٍ مضت عند قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾، وقلنا إنَّ الآية ليست بصدد نفي الشفاعة يوم القيامة كما توهَّم بعضُ أبناء العامة، بل هي بصدد نفي انتفاع البعض من الشفاعة، فثمة من لا تنفعهم الشفاعة، وذلك لعدم تأهُّلهم للانتفاع منها. فمَثلهم -كما قلنا- مثَل النبتة الميِّتة التي فقدت الحياة، فمثل هذه النبتة لو صببت عليها الماء العذب ووفَّرت لها تربةً خصبة فإنَّها لن تنمو، فلا ينفعها الماء ولا تنفعها الأرض الخصبة، وهذا لا يعني أنَّ الماء ليس بنافع، وأن الأرض الخصبة ليست نافعة لإنماء النبات، بل إنَّ معنى ذلك أن هذه النبتة ليس لها قابلية النمو لأنَّها فقدت الحياة. وعلى خلاف ذلك النبتة الذابلة التي فقدت القدرة على مقاومة الأجواء ولكنَّ فيها بقيةَ حياة، فعندما نسكب الماء على مثل هذه النبتة ونوفر لها البيئة المناسبة والمناخ المناسب فإنَّ الحيوية والنشاط والقدرة على النمو كل ذلك يعود إليها. فالشفاعة كالماء بالنسبة للنبتة التي فيها بقية حياة.
فمعنى قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ هو معنى ما يتداول بيننا من التعبير عن أن هذا المريض لا ينفعه الدواء، فليس معنى ذلك أنَّ الدواء ليس بنافع، فالدواء في حدِّ نفسه له صالح لنفع المصاب بهذا الداء ولكنَّ هذا المريض -أجاركم الله- بلغ به المرض حداّ لا ينفع معه الدواء، فالنفي هنا لم ينشأ عن أنَّ الدواء ليس له صلاحيَّة النفع، وإنما هو نفي لأهليَّة هذا المريض لأنْ ينتفع بالدواء، وذلك لأنَّ المرض قد استفحل في جسده حتى بلغ حداً فقد معه الجسد قابلية الإستجابة للعلاج، هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾. فهؤلاء الذين ماتت قلوبهم وخلت من الإيمان كل الإيمان فهم يكذبون بيوم الدين بعد أن كانوا يسخرون من فرائض الله عزوجل وأوامره وبعد أن تجاوزوا زواجر الله وتخطوها، هؤلاء ليست لهم قابلية الانتفاع من الشفاعة، هذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾.
ويمكن التنظير لذلك بما ورد من استغفار النبيِّ (ص) للمذنبين فإنَّ القرآن الكريم قد نصَّ على أنَّ المؤمنين لو اجترحوا ذنباً فاستغفروا ثم قصدوا النبيَّ (ص) وطلبوا منه أنْ يستغفر لهم فإنَّ الله تعالى سوف يغفر لهم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾(2)، إذن فاستغفارهم لأنفسهم واستغفارُ النبيِّ (ص) لهم ينتهي إلى أنْ يغفر اللهُ عزوجل لهم، هذا هو مفاد الآية الشريفة، لكنه في مقابل ذلك نجد آيةً أخرى تنفي الجدوى من استغفار النبي (ص) ولو تكرر ذلك منه سبعين مرةً أو أكثر قال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾ لماذا؟ هل لأنَّ استغفار النبيِّ (ص) لا ينفع ولا يقبل؟ حاشا لله، ليس الأمر كذلك، بل لأنَّ هؤلاء وهم المنافقون فقدوا القابليَّة لأنْ تُفاض عليهم المغفرة، لأن يمنحوا المغفرة، فهؤلاء لا أهلية لهم لأن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله.
ومن هنا يتضح أيها الأخوة الأعزاء أنَّ الشفاعة لا تنفع كلَّ أحد، فثمة من الناس مَن لا تنفعهم الشفاعة وإنْ شفعت لهم ملائكةُ الله المقربون، وإنْ شفع لهم أنبياءُ الله وشفع لهم أوصياءُ الرسل، أو شفع لهم الشهداءُ، والعلماءُ، ومطلق الشافعين، هؤلاء لن يشفعوا ولكن لو شفعوا فإنَّ شفاعتهم لن تُقبل في حقهم، ثمة من الناس من هم كذلك، وقد أشارت الآيات المباركة التي تلوناها إلى صنفٍ من هؤلاء الذين لا تقبل فيهم الشفاعة ولا تنالهم الشفاعة.
أصناف من الناس لا تنالهم الشفاعة:
أهل الشرك والظالمون لا تنالهم الشفاعة:
وثمة أصناف أخرى تصدت الروايات للإشارة إليها، منها ما ورد عن الرسول الكريم (ص): "وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائر"(3) أصحاب الكبائر من الذنوب قد تنالهم شفاعة رسول الله (ص) فارتكاب الذنب الكبير ليس من موانع من قبول الشفاعة في حقِّ المرتكب للكبيرة، بل ورد في بعض الروايات أن الشفاعة إنَّما اُدّخرت لأصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم، هؤلاء لا تقبل فيهم الشفاعة حتى لو شفع لهم النبيُّ (ص)، والنبيُّ (ص) لن يشفع لهم، لأنَّه (ص) لن يشفع إلا لمَن كان مؤهلاً لأن يكون محلاً لهذه المنحة الإلهية قال رسول الله (ص) كما رُوي عنه: "وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم" فهذه الرواية الشريفة تكشف عن أنَّ واحداً من شرائط القبول للشفاعة هو أن يكون المشفوع له موحداً لله عزوجل وأن لا يكون ظالماً، فالظلم هو من أقبح الذنوب وأشدِّها عند الله عزوجل، فقد ورد في الحديث القدسي: "إن تجاوزت عن ظلم ظالم فأنا الظالم" تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وورد عن الرسول الكريم (ص) انَّه قال:"الشفاعة لا تكون لأهل الشك والشرك، ولا لأهل الكفر والجحود بل يكون للمؤمنين من أهل التوحيد"(4).
أعوان الظلمة والغلاة لا تنالهم الشفاعة:
وورد عن النبي الكريم (ص): "رجلان لا تنالهما شفاعتي -يعني صنفان من الناس- صاحبُ سلطانٍ عسوف غشوم وغالٍ في الدين مارق"(5).
هذان الصنفان لن تنالهما شفاعة النبيِّ الكريم (ص)، فالأول ليس هو السلطان الغشوم، فإنَّ من المفروغ عنه أنَّ السلطان الغشوم لن يحظى بشفاعة النبي الكريم (ص) بل ثمة آخرون سوف لن يحظوا بشفاعة النبي الكريم (ص) وهم أعوان الظلمة الذين يكونون في ركب السلطان الجائر ومن بطانته أو ممَّن يقوون سلطانه، فهؤلاء الذين يقوون سلطان الجائر سواءً باليد أو بالكلمة أو بتكثير السواد ويُعدَّون من رجاله أو من حاشيته وبطانته، هؤلاء لن تنالهم شفاعة النبي الكريم (ص). بل ورد في الروايات إنَّ عنوان أعوان الظلمة لا يختصُّ بمثل مَن يجلد بالسوط بين يديه أو يحمل السيف عنده، فلا يختصُّ هذا العنوان بالسجان والوزير والسفير والحاجب والعامل والجابي والعشَّار، فكلُّ هؤلاء من مصاديق أعوان الظلمة، ولكن ثمة مصاديق خفية لأعوان الظلمة أشارت إليهم الروايات: "من بري لهم قلما"(6) تعبيرٌ عن أقلِّ مستوىً من مستويات الدخول في ديوان أعوان الظلمة، فحتى من تكون وظيفته حقيرة جداً ولا تُساهم في المزيد من سلطان الجائر والتقوية البيِّنة لشوكته فإنَّه رغم ذلك يكون في أعوان الظلمة فيُحرم من شفاعة النبي الكريم (ص).
وورد أنَّ مَن بنى لهم مسجداً، فليس مَن بنى لهم سجناً وحسب، أو بنى لهم قصراً، أو داراً، أو كان في شُرطِهم وفي ما يُعزِّز سلطانهم، فهؤلاء من أعوان الظلمة دون إشكال إلا انَّ عنوان أعوان الظلمة يشمل بحسب بعض الروايات حتى هؤلاء الذين يبنون لهم مسجداً.
يقول النبي الكريم (ص) -بحسب هذه الرواية-: "رجلان لا تنالهما شفاعتي صاحبُ سلطانٍ عسوف غشوم"، فالنبيُّ الكريم (ص) سوف يشفع لأصحاب الكبائر، وهذا معناه انَّ الدخول في أعوان الظلمة كبيرةٌ تفوق الكثير من الكبائر، فأنْ يكون الإنسان في ركب الظالم ومن أعوان الظلمة فهذه من الكبائر التي تفوق الكثير من الذنوب الكبيرة.
"وغالٍ في الدين مارق" وهو الثاني ممَّن لن تناله شفاعة النبي (ص). والمبتلى بالغلو هو المتجاوز للحدود التي حدَّها الدين، ورسمها وبينها نبيُّ الاسلام، فالمشرِّعون والمبدعون، والذين يزايدون، كل هؤلاء قد يدخلون تحت هذا الصنف.
المستخفُّ بالصلاة محروم من الشفاعة:
وورد عن النبيِّ الكريم (ص) -هذا صنف آخر-: "لا ينال شفاعتي من استخفَّ بصلاته، ولا يرد عليَّ الحوض، لا والله"(7). فالنبي (ص) يؤكد بأنَّ المستخفَّ بالصلاة لا يرد عليه الحوض فهو (ص) يقسم على ذلك. فالحوض الذي أفادت بعضُ الروايات أنَّ مَن شرب منه ارتوى، ومَن لم يشرب لم يروَ أبداً، هذا الحوض لا يرده المستخف بصلاته، ولا تناله شفاعة النبي الكريم (ص).
وورد في رواياتٍ أخرى عن الإمام الصادق (ع) انَّه في حال احتضاره وقبيل رحيله إلى ربِّه، جمع كلَّ قرابته، فبعث إلى من لم يحضر وطلب منه أن يحضر، فحين اجتمعوا حوله قال: "إنَّ شفاعتنا لن تنال مستخفاً بالصلاة"(8).
من هو المستخف بالصلاة؟
وقد بيَّنا ذلك في أحاديثَ سابقة معنى الاستخفاف بالصلاة، وقلنا إنَّ من مصاديق المستخف بالصلاة هو من لا يعتني بأوقات الصلاة، فلا يكترث كثيراً في أيِّ وقتٍ صلَّى في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره،، فكلُّ ذلك سيَّانٌ عنده، فقد يرجئُ الصلاة ويُقدِّم عليها غيرها من شؤوناته، فليست الصلاة من العظمة في قلبه بحيث يُقدِّمها على كلِّ شؤوناته، بل كلما عرضت له حاجة وإنْ كانت حقيرة فإنَّها تكون مُقدَّمة على أداء الصلاة، هذا من الاستخفاف بالصلاة، ومن الاستخفاف بالصلاة عدم الإقامة لحدودها وشرائطها وأجزائها وعدم الضبط لأحكامها، فمن كان كذلك فهو مستخفٌ بصلاته، ذلك لأنَّ المؤمن الذي للصلاة موقع في قلبه ويعلم أنَّها عمودُ دينه، وأنَّها إنْ قُبلت قُبل ما سواها، مثل هذا المؤمن الذي تكون الصلاة عظيمةً في قلبه يحرص على أن يعرف حدود هذه الصلاة، وشرائطها، وأجزاءها، وموانعها، وقواطعها، حتى يتحفَّظ على كل ذلك، أما الذي لا يُبالي فهو ممَّن لا شأن للصلاة في قلبه، وهو معنى الاستخفاف. وكذلك فإنَّ مَن لا يُبالي صلَّى في أول الوقت أو في آخره أو في خارج الوقت فإنَّه من مصاديق المستخف بصلاته. فالنبيُّ الكريم (ص) يقول: إنَّ شفاعتي لن تنال المستخف بالصلاة وكذلك فإنَّه لن يرد عليه الحوض، وإذا ورد فإنَّه سوف يُحال بينه وبين الشرب منه كما تُحال الإبل الغريبة عن وروود الماء.
الجاحد لشفاعة النبيِّ (ص) محرومٌ من الشفاعة:
وثمة صنفٌ آخر محروم من شفاعة النبيِّ (ص) يوم القيامة، رُوي عن النبيِّ الكريم (ص) انَّه قال: "مَن لم يُؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي"(9). ومعنى ذلك انَّ الذي يجحد للنبيِّ (ص) هذا المقام المحمود الذي عبَّر عنه القرآن -المقام المحمود في القرآن هو الشفاعة كما نصت على ذلك الروايات- الذي يجحد للنبيِّ (ص) هذا المقام فلا أناله الله شفاعة النبيِّ (ص).
وفي روايةٍ أخرى: "شفاعتي يوم القيامة حق فمن لم يؤمن بها لم يكن من أهلها"(10). وورد في مضمون رواية ثالثة: إنَّ من أنكر شفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي". روايات الحوض من الروايات التي تفوق بمراتب حدَّ التواتر، وروايات الشفاعة تفوق وتفوق وتفوق حدَّ التواتر بمراتب. ورد عندنا ما يزيد على الألف رواية في الشفاعة ومعنى ذلك أنَّ مسألة الشفاعة من ضرورات الدين. فمن لم يُؤمن بشفاعة النبيِّ الكريم (ص) بعد كثرة هذه الخطابات وهذه النصوص التي صدرت في القرآن وعن النبيِّ الكريم (ص) وعن أهل بيته (عليهم السلام) فمثله لا يستحق بأن يحظى بشفاعة النبيِّ الكريم (ص). وأما المؤمن بشفاعة النبيِّ (ص) الراجي لها، الذي يدأب في سؤال ربِّه كلَّ حين أن يمنَّ عليه بشفاعة النبي الكريم (ص) وشفاعة أهل بيته (عليهم السلام) فإنَّه يُرزق إنْ شاء الله هذه النعمة يوم القيامة.
الأولون والآخرون بحاجة لشفاعة النبي (ص):
فإنَّه ورد في الروايات عن الإمام الباقر (ع) أن كلَّ أحدٍ من عباد الله تعالى من الأولين والآخرين يحتاج يوم القيامة إلى شفاعة النبيِّ محمد (ص)، ما من نبيٍّ ولا رسولٍ ولا وصيٍ ولا ملكٍ مقرَّبٍ ولا وليٍّ ولا من سائر عباد الله عزوجل إلا وهو بحاجة إلى شفاعة النبيِّ الكريم (ص). ليس لدخول الجنة وحسب وليس للنجاة من النار وحسب، وإنما للتخفيف من أهوال يوم القيامة التي يطول أمدُها إلى مقدار حده القرآن بخمسين ألف سنة فيُكربون.
فالناس تستشعر الكرب والأذى والعناء والنصَب فتلجأ -كما ورد في الروايات- إلى آدم (ع) فيقول: لستُ بصاحبكم، اذهبوا إلى نوح (ع). فيلجؤون إلى نوح فيقول: لستُ بصاحبكم، اذهبوا إلى إبراهيم (ع)- أصحاب الشرائع- فيقول: لستُ بصاحبكم، اذهبوا إلى موسى كليم الله (ع). فيقول: لستُ بصاحبكم، اذهبوا إلى عيسى روح الله(ع) فيقول: لستُ بصاحبكم، اذهبوا إلى محمد (ص). فيأتي إليه وفودٌ من الناس في صعيد المحشر يسألونه الشفاعة، فيقول: أنا لها ولا فخر، أنا لها ولا فخر، وهذا هو المقام المحمود. فيمشي رسول الله (ص) فيقف عند باب الجنة، ثم يسجد سجدةً لا يرفع رأسه حتى يُقال له: يا محمد ارفع رأسك وسل تُعطى، واشفع تُشفَّع، عندها يفتح النبيُّ (ص) باب الشفاعة لسائر الأنبياء والأولياء والأوصياء والمؤمنين والشهداء والعلماء.
والعجيب أنَّ الكثير من عباد الله تعالى من الأولين والآخرين تنالهم شفاعة النبي (ص)، وثمة مَن يُحرم. فالعادة انَّ الشي العزيز المحدود لو حُرم منه البعض فإنه غير مستغرَب يشعر، وأما الشي المبذول فإنَّ الحرمان منه حسرة لا تُضاهيها حسرة، ومن المعلوم انَّ رحمة النبي (ص) ورأفته -التي سوف تتجلَّى في شفاعته -أمر مبذول، والنبيُّ (ص) ادَّخر دعوته المجابة إلى يوم القيامة ليشفع بها لأمته عند ربِّه فقال (صلى الله عليه وآله): "لكل نبيٍّ دعوة قد دعا بها وقد سأل سؤلاً، وقد خبأتُ دعوتي لشفاعتي لامتي"(11) ورغم ذلك فإنَّ أصنافاً من أُمته لا يحظون بشفاعته فينقلبوا خائبين لا ينالهم الله برحمته، نستجير بالله تعالى.
الناصب العداء لأهل البيت (ع) محروم من الشفاعة:
وثمة صنفٌ آخر نصَّت الروايات المتواترة على انَّه محرومٌ من الشفاعة يوم القيامة، وهم النواصب، فمن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (ع): "لو أنَّ الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين شفعوا في ناصبٍ ما شفعوا"(12) فالذي ينصب العداء لعليِّ بن أبي طالب وأهل البيت (عليهم السلام) مثله لو شفعَ له كلُّ ملائكة الله تعالى، وشفع له كلُّ أنبياء الله ورسله، فإنَّ الشفاعة في حقه لا تُقبل، ذلك لأنَّ من نصب العداء لعليٍّ (ع) ليس مؤهلاً لتلقِّي هذه المنحة الإلهيَّة، لماذا؟ لأنَّ مَن نصب العداء لعليٍ فإنه لم يذق طعم الإيمان كما نصَّ على ذلك النبي الكريم (ص) في الروايات التي صحت عن الفريقين قال: "انه لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق"(13) فمَن أحبَّ علياً (ع) فهو مؤمن، ومن أبغضه فهو منافق، والمنافق ليس مؤهلاً لأن يحظى بالشفاعة كما أفاد القرآن أن مَحِله الدرك الأسفل من النار قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾(14). فليس للمنافق من نصيرٍ وشفيع.
أهل البيت (ع) يشفعون لشيعتهم:
في رواية انَّ سماعة بن مهران دخل على الإمام الصادق (ع) فسأل الإمام الصادق سماعة: يا سماعة، من شر الناس عند الناس؟ -يعني مَن هم أسوأ الناس بنظر عموم الناس، يقصد عموم الناس الذين كانوا معاصرين للإمام الصادق(ع)-. فأجابه سماعة، قال: نحن يا ابن رسول الله. نحن شر الناس عند الناس، فغضب الإمام (ع) حتى احمرَّت وجنتاه ثم استوى جالساً وكان متكئً، فقال: يا سماعة مَن شر الناس عند الناس؟ يقول سماعة، فقلت: يا بن رسول الله ما كذبتُك، نحن شرُّ الناس عند الناس، لأنَّهم سمونا كفاراً، ورافضة، فنحن شرُّ الناس عندهم، نحن الكفار، نحن الرافضة. فنظر إليَّ ثم قال: كيف بكم إذا سِيق بكم إلى الجنَّة، وسِيق بهم إلى النار، فينظرون إليكم فيقولون: ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ﴾(15)، يا سماعة، إنَّه من أساء منكم إساءةً مشينا إلى الله بأقدامنا فنَشفع فيه فنُشفَّع، والله لا يدخل النار منكم عشرةُ رجال، والله لا يدخل النار منكم خمسة رجال، والله لا يدخل منكم ثلاثةُ رجال، والله لا يدخل منكم رجلٌ واحد، فتنافسوا في الدرجات -أنتم سوف تتفاوتون في درجاتكم في الجنة، فليكن التنافس على الدرجات- واكمدوا عدوكم بالورع(16). -لكنَّ الخطاب للشيعة الذين عرفهم الإمام الصادق والإمام الباقر (عليهما السلام)-: "إنما شيعتنا من أطاع الله"(17)، إنما "شيعتنا أهل الورع"(18). فالشيعي بحسب هذه الروايات ليس هو المتولِّد من أبوين معتقدين بأحقية أهل البيت (عليهم السلام) في الإمامة والولاية. هؤلاء على خير، ولكنهم ليسوا هم المعنيين بمثل هذه البشائر، والمعنيون هم الذين تكون عقيدتهم كذلك ويكونون ذات الوقت ملتزمين بفرائض الله تعالى ولا يتجاوزون حدوده، نع قد يخطئون، وقد يرتكبون بعض الذنوب، ولكنهم يبادرون للتوبة الصادقة.
فاطمة (ع) تشفع في نساء امة النبي (ص):
في الرواية الشريفة أن النبي كان يخاطب فاطمة (عليها السلام) -يتحدث عن النساء- فيقول: "أيُّما امرأةٍ من نساء أمتي صلَّت فرائضها وصامت شهر رمضان وأدَّت الزكاة المفروضة عليها وحجَّت بيت الله عزوجل إن استطاعت ووافقت زوجها ولم تؤذه نالتها شفاعة ابنتي فاطمة يوم القيامة". نساء هذه الأمة تشفع لهم فاطمة (عليها السلام) ولكن ليس كلُّ نساء هذه الأمة تنالهم شفاعة فاطمة (ع)، وإنَّما هنَّ الملتزمات بالفرائض الإلهيَّة، فمناط الشفاعة إذن هو الإيمان في القلب والعمل بالجوارح، فإن أخطأ الواد لذلك وارتكب ذنباً واجترح خطيئة فإن الله عزوجل يأذن لنبيِّه (ص) ويأذن لأوصياء نبيِّه (ص) أنْ يشفعوا له.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المدثر / 39-48.
2- سورة النساء / 64.
3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص39.
4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص58.
5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج25 / ص269.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج17 / ص182.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص26.
8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج79 / ص236.
9- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص58.
10- كنز العمال -المتقي الهندي- ج14 / ص399.
11- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص34.
12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص42.
13- أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي (عليه السلام): "لا يبغضك إلا منافق ولا يحبك إلا مؤمن". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 29 ص 645.
14- سورة النساء / 145.
15- سورة ص / 62.
16- "دخل سماعة بن مهران على الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا سماعة، من شر الناس؟ قال: نحن يا بن رسول الله. قال: فغضب حتى احمرت وجنتاه، ثم استوى جالسا، وكان متكئا، فقال: يا سماعة، من شر الناس؟ فقلت: والله ما كذبتك يا بن رسول الله، نحن شر الناس عند الناس، لأنهم سمونا كفارا ورفضة، فنظر إلي ثم قال: كيف بكم إذا سيق بكم إلى الجنة، وسيق بهم إلى النار، فينظرون إليكم فيقولون. ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ﴾ يا سماعة ابن مهران، إنه والله من أساء منكم إساءة مشينا إلى الله يوم القيامة بأقدامنا فنشفع فيه فنشفع، والله لا يدخل النار منكم عشرة رجال، والله لا يدخل النار منكم خمسة رجال، والله لا يدخل النار منكم ثلاثة رجال، والله لا يدخل النار منكم رجل واحد، فتنافسوا في الدرجات واكمدوا عدوكم بالورع". الأمالي -الشيخ الطوسي- ص295.
17- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص273.
18- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص57.