معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(1) وكيف صحَّ إرجاع ضمير الجمع ﴿أُولَئِكَ هُمُ﴾ على مفرد؟
الجواب:
الذي جاء بالصدق هم الأنبياء، جاءوا بالحقِّ والتوحيد والدينِ الخالصِ لله تعالى، والذي صدَّق به هم أتباعُ الأنبياء، فهؤلاء جميعاً هم المتَّقون، وعليه فالمرادُ من الاِسم الموصول "الذي" في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ هو الجنس أي العنوان العام الذي يصدق على أفراده، فمعنى الذي جاء بالصدق هو كلُّ مَن جاء بالصدق وهم الأنبياء، والذي صدَّق به هم أتباعهم، ولهذا صحَّ عودُ ضمير الجمع "أولئك" على كلمة" الذي" وذلك بلحاظ المعنون المُشار إليه بكلمة الذي وهم جماعة الأنبياء وأتباعهم.
وهذا الأسلوب مستعملٌ في كلام العرب كما في قول الشاعر العربي:
إنَّ الذي حلَّت بفلجٍ دماؤهم ** هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
فهو قد استعمل كلمة "الذي" في كلِّ مَن حلَّت بفلج دماؤهم، ولهذا جعل الضمير العائد عليهم ضمير جمعٍ فقال: "دماؤهم" و "هم القوم كلُّ القومِ يا أمَّ خالد".
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾(2) فالمقصود من الإنسان ليس هو الفرد وإنَّما هو جنس الإنسان أي كل فردٍ صدق عليه عنوان الإنسان، ولهذا صحَّ استثناء الجمع من الإنسان لأنَّ المراد من الإنسان كلُّ أفراد الإنسان، فكلُّ هؤلاء في خُسرٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فكلمةُ الذي وإنْ كانت تُستعمل في المفرد الشخصي لكنَّها تُستعمل في الجنس أيضاً، ويُعرفُ ذلك من القرائن المُكتنفة بالكلام مثل عود ضمير الجمع عليها، فإذا وجدنا أنَّ الضمير العائد على كلمة الذي ضمير جمع فإنَّ ذلك يكشف عن أنَّ المتكلم أراد من كلمة الذي الجنس والعنوان العام القابل للصدق على كثيرين وأنَّه أراد من كلمة الذي أفراد العنوان المشار إليه بكلمة الذي، وإذا وجدنا أنَّ الضمير العائد على كلمة الذي مفرداً فذلك يكشف عن أنَّ كلمة الذي أستُعملت في المفرد.
والمتحصَّل من معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ هو أنَّ الذي جاء بالصدق وهم الأنبياء والذي صدَّق به وهم أتباعهم هؤلاء هم المتقون ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾(3) والذي يؤيِّد هذا الاستظهار أنَّ هذه الآية والتي قبلها كانت بصدد تصنيف الناس إلى فريقين، فريق كذَبَ على الله وكذَّب بالصدق والحق، وهؤلاءِ وصفتهم الآيةُ الأولى بالكافرين وأفادت أنَّ مثواهم جهنم، والفريق الآخر جاء بالصدق وصدَّق به، وهؤلاء هم المتَّقون: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾(4).
وثمة معنىً آخر للآية استظهره بعضُ المفسِّرين وهو أنَّ المقصود مِن الذي جاء بالصدق في الآية هو النبيُّ محمَّد (ص) ومَن صدَّق به هم أتباعه، فهؤلاء هم المتَّقون، وهذا المعنى وإنْ كان يجيب على منشأ عود ضمير الجمع على الاسم الموصول، لكنَّ المعنى الأول هو الأنسب بحسب سياق الآيات وأنَّها بصدد تصنيف الناس في مختلف المراحل إلى فريقين.
نعم، طبَّقت العديدُ من الروايات الواردة من طُرقِنا هذه الآية الشريفة على النبيِّ محمَّد (ص) وعليِّ بن أبي طالبٍ (ع)، فالذي جاء بالصدق من عند الله تعالى هو النبيُّ محمد (ص) والذي صدَّق به هو أميرُ المؤمنين عليٌّ (ع).
فمن ذلك ما أورده في كتاب تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة نقلا عن تفسير محمد بن العباس بسنده عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه﴾ قال: "الذي جاء بالصدق: رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله)، وصدَّق به: عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)"(5).
ومنه: ما أورده في كتاب تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة نقلاً عن تفسير محمد بن العباس بن ماهيار بسنده الصحيح عن عبد الله بن سليمان قال: شهدتُ جابر الجعفي عند أبي جعفر (عليه السلام) وهو يُحدِّث أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وعليَّاً (عليه السلام) الوالدان، قال عبد الله بن سليمان: وسمعتُ أبا جعفرٍ (عليه السلام) يقول: منَّا الذي أُحلَّ له الخمس، ومنَّا الذي جاء بالصدق، ومنَّا الذي صدَّق به، ولنا المودةُ في كتاب الله عزَّ وجل .."(6).
ومنه: ما أورده ابن شهر آشوب: عن علماء أهل البيت، عن الباقر، والصادق، والكاظم، والرضا، وزيد بن علي (عليهم السلام)، في قوله تعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قالوا: "هو عليٌّ (عليه السلام)"(7).
ومنه: ما أورده في روضة الواعظين، قال ابن عباس: والذي جاء بالصدق محمَّد (صلى الله عليه وآله)، وصدَّق به عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)(8).
ويُؤيِّده ما نُقل من طرف العامَّة بطرقٍ متعددة عن مجاهد في قوله عز وجل: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قال الذي جاء بالصدق رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدَّق به عليُّ بن أبي طالب".
وكذلك أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل من أكثر من طريق عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قال: هو النبيُّ جاء بالصدق، والذي صدَّق به عليُّ بن أبي طالب(9).
وأخرج من طريقٍ عن أبي الطُّفيل عن عليٍّ قال: "والذي جاء بالصدق رسولُ الله. وصدَّق به أنا، والناس كلُّهم مكذِّبون كافرون غيري وغيره"(10).
وفي الدرِّ المنثور للسيوطي قال: وأخرج ابنُ مردويه عن أبي هريرة: "والذي جاء بالصدق قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدَّق به قال عليُّ بن أبي طالب"(11).
وذكر الآلوسي في تفسيره روح المعاني قال: قال أبو الأسود ومجاهد في روايةٍ وجماعة من أهل البيت وغيرهم: الذي صدَّق به هو عليٌّ (ع). وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(12).
فهذه الروايات والمأثورت إنَّما هي بصدد بيان أكمل مَن تصدقُ وتنطبقُ عليهم الآيةُ المباركة، فأكملُ مَن جاء بالصدق على الإطلاق هو النبيُّ محمد (ص) وأكملُ من صدَّق بالصدق على الإطلاق هو أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (ع).
ويؤكِّد ذلك ما ورد مستفيضاً من طرق الفريقين بألسنةٍ متقاربة عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: "إنّ سُبّاق الأُمم ثلاثةٌ لم يكفروا طرفة عين: عليُّ بن أبي طالب، وصاحبُ ياسين، ومؤمنُ آل فرعون، فهم الصدِّيقون، وعليٌّ أفضلهم"(13).
وكذلك ما ورد مستفيضاً من طرق الفريقين -كما في سُنن النسائي وسُنن ابن ماجه والآحاد والمثاني والمصنَّف والسنَّة لابن أبي عاصم والمُستدرَك على الصحيحين وغيرها- عن عليٍّ (ع): "أنا عبدُ الله وأخو رسولِه (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وأنا الصدِّيقُ الأكبر، لا يقولُها بعدي إلا كاذباً، صلَّيتُ قبل الناس بسبعِ سنين"(14).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الزمر / 33.
2- سورة العصر / 2-3.
3- سورة الزمر / 34.
4- سورة الزمر / 32-34.
5- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة -السيد شرف الدين علي الحسيني الأستر آبادي - ج2 / ص517.
6- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة -السيد شرف الدين علي الحسيني الأستر آبادي - ج1 / ص426، ولاحظ مرآة العقول- العلامة المجلسي- ج8 / ص410.
7- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج2 / ص288.
8- روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص104.
9- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل -الحاكم الحسكاني- ج2 / ص181.
10- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل -الحاكم الحسكاني- ج2 / ص181.
11- الدر المنثور في التفسير بالمأثور -جلال الدين السيوطي- ج5 / ص328.
12- تفسير الآلوسي -الآلوسي- ج24 / ص3.
13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج38 / ص230، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص102، المعجم الكبير -الطبراني- ج11 / ص77، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل -الحاكم الحسكاني- ج2 / ص292.
14- السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص107، سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص44، الآحاد والمثاني -الضحاك- ج1 / ص149، المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج7 / ص498، السنة -ابن أبي عاصم- ص584، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص112.