سبب نزول: ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قول الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾(1) ماهو سبب نزول هذه الآية المباركة وفيمَن نزلت؟

الجواب:

وقت الصوم قبل نزول الآية:

كان الصيام في أول فرضه على الناس في شهر رمضان يبدأ من حين الشروع في النوم بعد صلاة العشاء الآخرة، فلو نام المكلَّف بعد صلاة العشاء دون أنْ يفطر حرم عليه بعد استيقاظه ليلاً تناول المُفطِر من الطعام والشراب إلى غروب اليوم الثاني، وكان النكاح مُحرَّماً في شهر رمضان ليلاً ونهاراً حتى بعد غروب الشمس وقبل صلاة العشاء الآخرة، وبحسب بعض الروايات فإنَّ النكاح كان محرَّماً في شهر رمضان بعد الشروع في النوم شأنُه شأن الطعام والشراب، وفي بعض الروايات أنَّ تناول المُفطِر يكون محرماً بعد أداء صلاة العشاء سواءً نام المكلَّف أو لم ينم.

وكيف كان فإنّ الحكم بحرمة تناول المفطر من الطعام والشراب والجماع بعد أداء صلاة العشاء أو بعد الشروع في النوم ظلَّ مفروضاً على المسلمين إلى أنْ نزلت هذه الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إلى الَّليْلِ﴾(2).

سبب نزول: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ: 

ومنشأ نزول هذه الآية أنَّ عدداً من الصحابة لم يصبروا وفيهم عمر بن الخطاب عاشر زوجته بعد حلول وقت فرض الصيام ليلاً، ومن جهةٍ اخرى فإنَّ أحد الصحابة لم يتهيأ له تناول الطعام قبل النوم حيثُ ذهبت زوجتُه لمعالجة الطعام فنام قبل إحضاره فالتزم بالامساك عن الطعام، وكان فيمَن يحفرُ الخندق صباحاً مع المسلمين فأصابته مشقَّةٌ لشدَّة الجوع والظمأ الذي انتابه نتيجة عدم تناوله المُفطِر ليلاً فكان يُغشى عليه، فلهذا وذاك نزلت الآية المباركة لتنسخ الحكم بوجوب الصوم بعد العشاء الآخرة وتفرضُه من حين طلوع الفجر.

فمنشأ النزول أنَّ عدداً كانوا يختانون أنفسهم فيعاشروا زوجاتِهم في ليالى الصيام وأنَّ أخرين كان يفوتهم الإفطار قبل العشاء أو قبل النوم فيشقُّ عليهم الصبر إلى غروب اليوم الثاني.

وما ذكرناه في سبب نزول قوله ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ قد ذكره أكثرُ مفسِّري العامَّة فقد رُوي -ذلك كما أفاد العيني في عمدة القاري- عن مجاهد وعطاء وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب"(3).

وفي جامع البيان للطبرى بسنده عن مجاهد في قوله تعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ﴾ قال: كان الرجل من أصحاب محمَّد (ص) يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع، فإذا رقد حرم ذلك كلُّه عليه إلى مثلها من القابلة، وكان منهم رجالٌ يختانون أنفسهم وكان عمر بن الخطاب ممَّن اختان نفسه فعفا الله عنهم، وأحلَّ لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كلِّه"(4).

وروى بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ﴾ قال: أولُ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصومُ يومه حتى إذا أمسى طعِم الطعام فيما بينه وبين العتمة حتى إذا صُلِّيت حرم عليهم الطعام حتى يمسي من الليلة القابلة، وإنَّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوَّلت له نفسُه فأتى أهله لبعض حاجته فلمَّا اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشدِّ ما رأيتُ من الملامة ثُم أتى رسول الله (ص) فقال: إنِّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنَّها زيَّنت لي فواقعت أهلي، هل تجدُ لي من رخصةٍ يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر، فلمَّا بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آيةٍ من القرآن"(5).

وروى الطبرى أيضاً بسنده عن ثابت: أنَّ عمر بن الخطاب واقع أهله ليلةً في رمضان فاشتدَّ ذلك عليه فأنزل الله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ﴾(6).

وروى أحمد في مسنده بسنده عن كعب بن مالك عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب من عند النبيِّ (ص) ذات ليلة وقد سهر عنده فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت إنِّى قد نمت قال: ما نمتِ ثم وضع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبيِّ (ص) فأخبره فأنزل الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا﴾(7).

وفي كتاب العجائب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني قال: قال ابن عطية حكى النحاس ومكي أنَّ عمر نام ثم وقع بامرأته وهذا عندي بعيد على عمر، قلتُ ذكره ابنُ كثير من طريق موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس وهذا سند صحيح و لفظه: إنَّ الناس كانوا قبل أنْ ينزل في الصوم ما نزل يأكلون و يشربون ويحلُّ لهم شأن النساء، فإذا نام أحدُهم لم يطعم و لم يشرب ولا يأتي أهله حتى يُفطر من القابلة فبلغنا أنَّ عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ثم جاء إلى النبيِّ (ص) فقال: أشكو إلى الله و إليك الذي صنعتُ قال: وماذا صنعتَ قال: إنِّي سوَّلت لي نفسي فوقعتُ على أهلي بعدما نمت و أنا أُريد الصوم فزعموا أنَّ النبيَّ (ص) قال: ما كنت خليقاً على أنْ تفعل فنزل الكتاب ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ﴾(8).

وثمة رواياتٌ آخرى عديدة بهذا المضمون مذكورة في مثل تفسير الطبري وغيره.

هذا فيما يتصل بسبب نزول قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾.

سبب نزول الفقرة الثانية من الآية:

وأمَّا ما ورد في منشأ نزول الفقرة الثانية من الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ فمِن ذلك ما رواه البخاري بسنده عن البراء قال: كان أصحاب محمد (ص) إذا كان الرجل صائماً فحضر الافطار فنام قبل أنْ يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يُمسي وأنَّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فلمَّا حضر الافطار أتى امرأته فقال لها أعندك طعام قالت: لا ولكن أنطلق فأطلبُ لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأتُه، فلمَّا رأته قالت: خيبة لك، فلمَّا انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبيِّ (ص) فنزلت هذه الآية ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ﴾ ونزلت: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد﴾(9).

وروى الطبري بسنده عن معاذ بن جبل: قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتيان النساء، فكان رجلٌ من الأنصار يُدعى أبا صرمة يعمل في أرضٍ له قال: فلمَّا كان عند فطره نام فأصبح صائماً قد جهد، فلمَّا رآه النبيُّ (ص) قال ما لي أرى بك جهداً؟ فأخبر بما كان من أمره وأختان رجلٌ نفسه في شأن النساء فأنزل ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ﴾ إلى آخر الآية(10).

وروى الطبري أيضاً بسنده عن ابن عباس: أنَّ رجلاً قد سمَّاه من أصحاب رسول الله (ص) من الأنصار جاء ليلةً وهو صائم فقالت له امرأته: لا تنم حتى نصنع لك طعاماً فنام فجاءت فقالت: نمت والله فقال: لا والله، فقالت: بلى والله، فلم يأكل تلك الليلة وأصبح صائماً فغُشي عليه فأنزلت الرخصة فيه(11).

وأمَّا ما ورد في طرقنا فمنه ما رواه عليُّ بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني بسنده عن أمير المؤمنين (ع) قال: إنَّ الله لمَّا فرض الصيام فرض أنْ لا ينكح الرجلُ أهله في شهر رمضان لا بالليل ولا بالنهار، وكان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أنْ يفطر حرم عليه الأكل بعد النوم، وكان رجلٌ من الصحابة يُعرف بمطعم بن جبير شيخاً فكان الوقت الذي حُفر فيه الخندق حفر في جملة المسلمين، وكان في شهر رمضان فلمَّا فرغ من الحفر وراح إلى أهله صلَّى المغرب فأبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم فلمَّا أحضرت إليه الطعام انتبهته فقال: استعمليه أنت فإني قد نمتُ وحرم عليّ وطوى ليلته وأصبح صائماً فغدا إلى الخندق فجعل يحفر مع الناس فغشي عليه، فسأله رسول الله (ص) عن حاله فأخبره، وكان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سراً لقلَّة صبرهم فسأل النبيُّ (ص) الله في ذلك فأنزل الله ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إلى الَّليْلِ﴾ فنسخت هذه الآية ما تقدَّمها(12).

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البفرة / 187.

2- سورة البفرة / 187.

3- عمدة القاري -العيني- ج 10 / ص289.

4- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج2 / ص226.

5- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج2 / ص225.

6- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج2 / ص225.

7- مسند احمد -الإمام احمد بن حنبل- ج3 / ص460.

8- العجاب في بيان الأسباب -ابن حجر العسقلاني- ج1 / ص437.

9- صحيح البخاري -البخاري- ج2 / ص230.

10- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج2 / ص224.

11- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج2 / ص226.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 / ص114.