حدُّ الرَّجم ضرورةٌ فقهيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

السؤال:

ما هو جوابُكم على ما أثاره أحدُهم من إنكار حدِّ الرجم في الشريعة مدَّعيًا أنَّ الحكم بالرجم على الزاني المُحصن هو من شريعة اليهود ومؤكِّدًا دعواه بأنَّ الحكم بالرجم لم يرد في القرآن الكريم، والوارد فيه إنَّما هو الجلد؟

الجواب:

حكم الرجم من الضرورات الفقهيَّة:

الحكم باستحقاق الزاني المُحصن للرجم يُعدُّ من الضرورات الفقهيَّة، وقد نصَّت الرواياتُ الواردة عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيتِه (ﻉ)(1) على ذلك، وهي رواياتٌ كثيرة يفوق مجموعُها حدَّ التواتر، فلا مجال للتشكيك في صدورِها كما أنَّ وضوحها يمنعُ من التشكيك في دلالتها.

هذا مضاف إلى أنَّ إقامة حدِّ الرجم على الزاني المُحصن كان قد فعله الرسول الكريم (ص) في أكثر من واقعة، وقد تناقل ذلك الصحابةُ وقد وصلنا ذلك عنهم بأسانيد معتبرة ومعتمدة عند المسلمين، وقد استنَّ بذلك من كان في موقع الخلافة بعد الرسول (ص) من الصحابة(2) دون ريبٍ أو شكٍ من أحد، وقد ثبت عندنا نحن الإماميَّة كما ثبت ذلك عند الفريق الآخر أنَّ الإمام على بن أبي طالب (ع) قضى في المُحصن الرجم(3)، وعندئذٍ كيف يسوغُ التنكُّر لهذا الحكم لمجرَّد أنَّ القرآن الكريم لم يتصدَّ لبيانه؟! وهل تصدَّى القرآن الكريم لبيان تفاصيل الأحكام حتى يكون إغفاله لهذا الحكم معبِّرًا عن عدم ثبوته في الشريعة؟!

أكثر الأحكام الشرعية لم يتصدّ القرآن لبيانها:

إنَّ أكثر الأحكام الشرعية لم يتصدَّ القرآن لتبيانِها وإنَّما الذي تصدَّى لذلك هو السنَّة الشريفة، وحتَّى الأحكام التي ذكرها القرآن لم يتولَّ شأنَ تفصيلها وبيان حدودِها وضوابطِها بل ترك ذلك للسنَّة الشريفة.

فحتى الصلاة التي هي عمودُ الدين لم يتعرَّف المسلمون على أعدادها وشرائطها وأجزائها إلا بواسطة الرسول الكريم (ص).

إشكالٌ وردّ:

قد يقال إنَّ عدم تصدِّي القرآن لبيان تفاصيل الأحكام وإنَّ من تصدى لذلك هو السنة الشريفة أمر مسلَّم إلا أنَّ مورد البحث مما تصدَّى القرآن لبيانِه حيث ورد في سورة النور قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾(4) وإذا كان القرآن قد بيَّن حكم الزاني وأنَّ العقوبة المقرَّرة في حقِّه هي الجلد فما يردُ من رواياتٍ منافيًا لما أفاده القرآن يلزم عدم الاعتناء به، وذلك لأنَّ كلَّ حكم منافٍ ومناقضٌ لما ورد في القرآن الكريم فهو ساقط عن الاعتبار والحُجِّيَّة كما هو مقتضى الضرورة الدينيَّة.

فلأنَّ دعوى استحقاق الزاني المُحصن للرجم منافٍ لما أفادته الآية من سورة النور لذلك يلزم عدم الاعتداد بهذه الدعوى والبناء على أنَّ الروايات المنسوبة للنبيِّ (ص) في ذلك مكذوبة.

والجواب:

عدم التنافي بين الاطلاق والتقييد:

انَّه لا منافاة بين الآية الشريفة وبين الروايات الواردة عن النبيِّ (ص) وأهل بيتِه (ﻉ) في عقوبة الزاني المُحصن، وذلك لأنَّ العلاقة بين الآية الشريفة ومفاد الروايات هي علاقة الإطلاق والتقييد أو العام و الخاص -بحسب الاختلاف في الاصطلاح- والعُرف في مثل ذلك لا يرى أيَّ تنافٍ بين الخطابين بل يبني على حمل المطلق على المقيَّد بمعنى أنَّه يستظهر عدم الإرادة الجدِّية للإطلاق من الخطاب الأول وأنَّ المراد الجدِّي للمتكلم من الخطاب الأول هو أنَّ الحكم المتضمِّن له لا يشمل مورد الخطاب الثاني.

وهذا النحو من الجمع بين الخطابات التي تكون العلاقة بينها هي علاقة العام والخاص أو الاطلاق والتقييد مضافًا إلى أنَّه المتبانى عليه في عرف أهل المحاورة والكلام هو موردٌ للتَّسالم بين علماء الأصول على اختلاف مشاربِهم ومذاهبِهم وهو مورد اعتماد فقهاء القانون أيضًا.

فحينما تردُ مادَّةٌ في القانون مفادها مثلاً أنَّ جناية القتل العمدي عقوبتُها السجن المؤبَّد، وترد بعد ذلك في فصلٍ آخر من القانون مادَّةٌ أخرى مفادُها أنَّ عقوبة القتل العمدي مثلاً عشر سنوات إذا كان القتلُ دفاعًا عن حقٍّ مالي.

فإنَّ فقهاء القانون لا يرون أيَّ تنافٍ بين المادَّتين، ويرون أنَّ المقنِّن أراد من المادة الأولى بيان حكم القاتل المتعمد الذي لا يكون قتلُه دفاعًا عن حقِّه المالي.

ولذلك فهم يعتمدون الحكم الوارد في المادَّة الثانية لو ثبت أن القتل كان دفاعًا عن الحقِّ المالي.

جواب نقضي:

ثم أنَّه يمكن النقض على دعوى التنافي والتناقض بين آية الزنى وبين ما ورد في السنَّة الشريفة من حكم الزاني المُحصن يُمكن النقضُ على هذه الدعوى بما اشتمل عليه القرآنُ الكريم من آياتٍ بينها علاقة الاطلاق والتقيد فإذا كان ذلك من التناقض فمعناه أنَّ آيات القرآن الكريم متناقضة فيما بينها، ولا أظنُّ أحدًا يؤمنُ بالله عزَّ وجلَّ يلتزم بذلك.

ولكي يتَّضح الأمرُ نذكر له نموذجين:

النموذج الأول: قوله تعالى من سورة الطلاق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ..﴾(5).

فإنَّ مفاد هذه الآية المباركة هو أنَّ كلَّ امرأة طُلقت فإنَّه يلزمُها أن تعتدَّ عدَّة الطلاق فلا يجوز لها أنْ تنكحَ زوجًا آخر ما لم تنتهِ عدَّتُها من زوجها الأول الذي طلَّقها، فظاهرُ الآية الشريفة هو الإطلاق بمعنى أنَّه لا فرق في لزوم الاعتداد على المرأة المطلقة بين كونها ممَّن تم الدخول بها أو ممَّن لم يتم الدخول بها، فكلُّ امرأة طلَّقها زوجُها فإنَّه يلزمُها الاعتداد بمقتضى ظهور الآية الشريفة في الإطلاق.

وفي سورة الأحزاب يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِلاً﴾(6).

ومفادُ هذه الآية المباركة هو أنَّ المرأة المُطلَّقة غير المدخول بها لا يلزمُها الاعتداد رغم أنَّ مقتضى الآية من سورة الطلاق هو لزومُ الاعتداد على كل مطلَّقة سواءً كانت ممَّن تمَّ الدخولُ بها أو لا.

فهل يرى العرفُ المتلقِّي لهذين الخطابين تناقضًا وتنافيًا بين الآيتين أو أنَّه يجمع بينهما بحمل المطلق على المقيَّد واستظهار أنَّ الإطلاق في الآية الأولىلم يكن مُرادًا من أول الأمر بالإرادة الجدِّية وذلك بقرينة الآية الأخرى المُفيدة لعدم وجوب الاعتداد على المُطلَّقة غير المدخول بها، وبذلك يكون مفادُ المجموع من الآيتين هو أنَّ كلَّ امرأةٍ طُلِّقت فإنَّه يلزمُها الاعتداد من زوجها إلا أن تكون ممَّن لم يتم الدخول بها فإنَّه ليس عليها عدَّةٌ تعتدها.

النموذج الثاني: قولُه تعالى من سورة البقرة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾(7)، ومفاد هذه الآية الشريفة هو أنَّ المدَّة التي يلزم المطلَّقةُ أن تعتدَّ فيها هي ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار أو ثلاث حيضات على الخلاف، ومقتضى اطلاق هذه الآية الشريفة هو أنَّه لا فرق في هذا الحكم بين مطلَّقة وأخرى، فكلُّ مَن وقع عليها الطلاق لزمها الاعتداد ثلاثة قروء.

وفي سورة الطلاق يقول تعالى: ﴿وَالْلاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ..﴾(8).

ومفاد هذه الآية الشريفة أن المُطلقة إذا كانت ممن بلغت سنًا لا تدري معه أنَّ ما تراه من دمٍ هو دم الحيض أو لا -وذلك هو معنى الارتياب- فوظيفتُها الاعتداد ثلاثة شهور، وكذلك الحال بالنسبة للمُطلقة التي لا تحيض وهي في سنِّ من تحيض فإنَّ وظيفتها الاعتداد ثلاثة شهور، وأما المطلقة الحامل فإنَّ عدَّتها تنتهي بوضع الحمل بلغ ما بلغ من الوقت.

فرغم أنًّ هذه الأصناف الثلاثة من المُطلَّقات مشمولة لإطلاق الآية الواردة في سورة البقرة، إذ المفترض أنهنّ مطلَّقات، وقد أفادت الآية من سورة البقرة أنَّ المطلقات يتربَّصن ثلاثة قروء، إلا أنَّ الآية من سورة الطلاق أفادت أنَّ ثمة أصنافًا من المُطلَّقات لا تكونُ عدَّتُهن بالأقراء الذي قد يزيد على ثلاثة شهور وقد ينقص وإنما تكون عدَّتهن بالشهور أو بوضع الحمل.

فبناءً على دعوى التنافي بين الإطلاق والتقييد والعام والخاص يكون بين الآيتين تناف وتناقض؟!

النتيجة:

وباتِّضاح ما ذكرناه من جوابٍ يتبيَّن فسادُ دعوى التنافي بين آية الزنا وبين ما ورد في السُنَّة الشريفة وأنَّ مقتضى الجمع العرفي بينهما هو البناء على أنَّ عقوبة الزاني غير المُحصن هو الجلد وأمَّا عقوبة الزاني المُحصن فهو الرجم وإلا فمع عدم الالتزام بذلك تكون النتيجة هي التنكر لحجيَّة السنَّة الشريفة وأنَّها أحد مصدري التشريع خصوصًا وأنَّ مورد البحث من موارد القطع بالصدور والدلالة كما اتَّضح ذلك مما تقدم، فالروايات المُثبِتة لاستحقاق الزاني المُحصن للرجم واضحةُ المضامين ومتواترةُ الاسناد.

ولا ريب في صلاحيتها لتخصيص وتقييد عمومات واطلاقات الكتاب المجيد.

بل لا ريب في صلاحيَّة الروايات الصحيحة غير البالغة مرتبة التواتر في مثل الفرض لتخصيص وتقييد عمومات وإطلاقات الكتاب المجيد، وذلك لعدم التنافي بين الخطابات المُطلقة والمقيَّدة بحسب المتفاهم العرفي، فبعد أنْ قام الدليل القطعيُّ على حجِّية الروايات الصحيحة لا يكون ثمة مانع من العمل بمقتضاها إلا دعوى التنافي فإذا ثبت عدم التنافي بين المطلق والمقيَّد لم يكن ثمة ما يُوجب إسقاط الروايات الصحيحة المفيدة للتقييد.

فإنَّ العقلاء وأهل المحاورة يرون أنَّ الخطابات المقيِّدة قرينةٌ عرفية على عدم إرادة العموم والاطلاق من الخطابات المُطلقة وأنَّ مرادَ المتكلِّم الجدي من خطابه المطلق غيرَ شامل لمورد الخطاب المقيِّد، ولأنَّ القرآن الكريم يجري في خطاباته وتفهيم مقاصدِه وفق ما عليه العقلاء وأهل المحاورة، لأنَّ الأمر كان كذلك لا يكون ثمة مانعٌ من العمل بالروايات التي ثبتت حجِّيتها لمجرَّد أنَّها تقتضي تقييد الحكم المُفاد بواسطة اطلاقات الكتاب المجيد.

حدُّ الرَّجم من شريعة اليهود!!

وأما دعوى أن الحكم بالرجم للزاني المُحصَن هو من شريعة اليهود فذلك لا يمنع من أنَّه من شريعة الإسلام أيضًا، فليس كلُّ ما في شريعة اليهود منافٍ لما هو في شريعة الإسلام فكلا الشريعتين جاءت من عند الله جلَّ وعلا، غايتُه أنَّ ثمة أحكامًا كانت في شريعة اليهود جاء الإسلام ونسخَها لانتهاء أمدِها، وثمة أحكامٌ لم تكن في شريعة اليهود اقتضت الحكمة الإلهيَّة تشريعها.

فالإسلامُ لم يأتِ مُكذِّبًا لما كانت عليه الشرايع السماويَّة السابقة وإنَّما جاء مصدِّقًا لما بين يديه من التوراة والانجيل، فما كان من التشريعات السماويَّة واجدًا لملاك جعله وتشريعِه ولم يطرأ عليه ما يقتضي تبديله وكان متوفِّرًا على ما يستوجب تأبيده أقرَّه الإسلام فأصبح ضمن شريعتِه الخالدة، وأما التشريعات التي انقضى عنها ملاكُ جعلها فإنَّ الإسلام جاء ليُخبر عباد الله بأنَّه قد تمَّ نسخُها فلا يجوزُ التعبُّد بها.

على أنَّ مجرد تبنِّي أهل ديانةٍ باطلة لحكمٍ من الأحكام أو مُعتقَدٍ من المعتقدات لا يُعبِّر بالضرورة عن خطأ ذلك الحكم أو ذلك المُعتقَد، فقد يتَّفق أن يكون حكمٌ أو معتَقدٌ معتمَدٌ عندهم صائبًا رغم فساد دينهم.

فاليهود مثلاً يعتقدون بنبوَّة موسى ونحن أيضًا نعتقدُ بذلك.

إذن لا يصحُّ الاستناد في مقام الإنكار لحكمٍ أو مُعتقَد إلى ثبوت التزام أهل ديانةٍ باطلة به، إذ ليس كلُّ ما هو ملتزَمٌ به عند أهل ديانةٍ باطلة يكون خاطئًا بالضرورة.

نعم يمكن تقريب هذا الدليل بوجهٍ آخر، وذلك بأن يُقال إنَّ ما ثبت عن السنَّة الشريفة هو أنَّ النبيَّ (ص) رجم امرأةً ورجلاً كانا من اليهود زنيا محصَنَين، فهو إنَّما رجمهما نظرًا لكون الرجم هو مقتضى الشريعة التي يؤمنان بها، فالحكم بالرجم لا يشملُ المسلمين إذن.

إلا أنَّ هذه الدعوى ساقطةٌ جزمًا، وذلك لأنَّه كما ثبت عن الرسول (ص) أنَّه قد رجم اليهوديَّيْن(9) ثبت عنه أيضًا أنَّه أمرَ برجم غيرهما وهما ماعز بن بكر والغامديَّة في قضيتين منفصلتين(10).

كما ورد أنَّه رجم امرأةً من جُهينة(11).

هذا مضافًا إلى الروايات الكثيرة المبيِّنة لحكم الزاني المُحصَن مثل رواية عبادة بن الصامت أنَّ النبيَّ (ص) قال: خذوا عنِّي، قد جعل اللهُ لهنَّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، الثيِّب بالثيب جلد مائة والرجم"(12)، ولولا خشية الإطالة لاستعرضنا الكثير منها.

إشكال آخر: لا وجه لتنصيف عقوبة الأَمَة لو كانت هي الرجم

بقي في المقام اشكالٌ نذكرُه ونجيبُ عنه استكمالاً للبحث، وحاصله:

انَّه ورد في القرآن أنَّ الأمَة إذا زنت فإنَّ العقوبة التي تستحقُّها حينئدٍ هي نصف ما على المحصنات من العقوبة، فلو كانت عقوبةُ المُحصنات هو الرجم فإنَّ ذلك يقتضي استحقاق الأمَة الزانية نصف الرجم وهو غير معقولٍ لأنَّ الرجم لا يقبل التنصيف، وبذلك يثبتُ أنَّ عقوية المُحصنات الزانيات هو الجلد مائة جلدة إذ أنَّها العقوبة القابلة للتنصيف.

قال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾(13).

والجواب:

إنَّ المراد من المُحصنات في قوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ هو الحرائر غير المتزوِّجات، إذ انَّ المُحصنات في هذه الفقرة هنَّ أنفسهُنَّ المُحصنات في صدر الآية ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ ولأنَّ المراد من المُحصنات في صدر الآية الشريفة هو الحرائر بقرينة المقابلة مع الإماء المستفاد من قوله ﴿فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ فيتعيَّن من ذلك أنَّ المراد من معنى المُحصنات في فقرة ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ هو عينُه المراد من المحصنات في صدر الآية الشريفة.

وأما أنَّ المراد منهنَّ غير المتزوِّجات فبقرينة قوله تعالى في صدر الآية ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ ولا يصحُّ لأحدٍ أن ينكح المتزوِّجة، فالمُحصنات في فرض الآية هنَّ الحرائر غير المتزوِّجات، وعليه يكون معنى قوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ هو أنَّ العقوبة المفروضة على الاماء إذا زَنَيْنَ هو نصف الحدِّ المفروض على الحرائر غير المتزوجات، فلأنَّ الحدَّ المفروض على الحرائر غير المتزوِّجات إذا زَنَيْنَ هو الجلد مائة جلدة يكون ما على الإماء من العقوبة في حال الزنا هو خمسون جلدة وبذلك ينتفي الإشكال.

عنوان المحصن استُعمل في عدَّة معانٍ:

وحتى يُصبح الجواب أكثر استئناسًا نقول إنَّ لفظ الإحصان أو المُحصنات استُعمل في القرآن الكريم في عدَّة معانٍ يُعرفُ كلُّ معنىً بواسطة القرائن المُحتفَّة بالآية التي استُعمل فيها لفظ الإحصان أو المحصنات.

ففي سورة التحريم وردت هذه الآية الشريفة وهي قولة تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ فالمرادُ من الإحصان في هذه الآية هو العِفَّة وليس المراد منه الزواج لوضوح أنَّ مريم (ع) لم تكن قد تزوَّجت.

وفي سورة المائدة قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾(14)، والمراد من المحصنات في الآية هو العفيفات غير ذوات الأزواج إذ أنَّ الآية كما هو واضح في مقام بيان مَن يحلُّ نكاحهن، فمفاد الآية الشريفة هو حليَّة التزوُّج من العفيفات المسلمات والعفيفات من أهل الكتاب، وهذا المعنى لا يُناسب المتزوجات، إذ كيف يصحُّ التزوج بالمتزوجات، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي استظهار معنى العفيفات غير المتزوِّجات من كلمة المُحصنات في الآية الشريفة.

وأما قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(15)، فإن المراد من المُحصنات هو الأعمُّ من المتزوِّجات وغير المتزوِّجات فإنَّ من غير المحتمل أن يكون قذف المتزوِّجات بالزنا محرمًا دون قذف غير المتزوِّجات، فمناسبة الحكم والموضوع قرينةٌ على أنَّ المراد من المُحصنات في الآية الشريفة هو مطلق العفيفات من النساء سواءً كنَّ متزوِّجات أو غير متزوجات.

وأما قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾(16)، فالمراد بالمُحصنات في هذه الآية الشريفة هو المتزوجات لأنَّ الآية في سياق تعداد مَن يحرم التزوُّج بهنَّ من النساء فذكرت الآية التي سبقت هذه الآية ثلاثةَ عشر موردًا وهذا هو المورد الرابع عشر، فقد قال تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ ..﴾ إلى قوله تعالى ﴿.. وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ ثم قال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء ..﴾ فمعنى الآية هو حُرِّمت عليكم المُحصنات من النساء، ولا ريب في عدم إرادة العفيفات غير المتزوِّجات إذ أنهنَّ القدر المتيقن دينيًا ممَّن يصحُّ التزوُّج منهنَّ كما أنَّ من غير المُحتمل أن يكون المراد من المُحصنات هو خصوص العفيفات المتزوِّجات إذْ لا ريب في حرمة الزواج من المتزوِّجات غير العفيفات، فالمرأة ذات البعل يحرم الزواج منها قطعًا حتى وإنْ كانت غير عفيفة، فالمتعيَّن هو إرادة مطلق المتزوِّجات من الآية الشريفة، فمعنى الآية الشريفة هو حرمة التزوج من المرأة المتزوِّجة سواءً كانت عفيفة أو لم تكن عفيفة.

وأما احتمال أن يكون المراد من المُحصنات في الآية هو الحرائر من النساء مقابل الإماء كما هو مقتضى المقابلة فبعيدٌ جدًا، وذلك لأنه يستلزم ضرورة تخصيص الآية إذ ليس كل حرَّةٍ يحرم الزواج منها بل الذي يحرم الزواج منها هي الحرَّة المتزوِّجة.

وبناءً على ذلك يلزم أن تكون الآية هكذا ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء﴾ أي الحرائر المتزوِّجات يحرم التزوُّج منهنَّ.

وهذا من غير موجب أي لا موجب لاستظهار الحرائر من لفظ المُحصنات في الآية ثم البناء على أنَّ المراد منهن خصوص المتزوِّجات، وهذا بخلاف ما لو استظهرنا من لفظ المُحصنات في الآية معنى المتزوِّجات فإننا لا نحتاج إلى تكلُّف التخصيص.

وكيف كان فلفظ المُحصنات استُعمل في القرآن في عدَّة معانٍ، وذلك يُعرف بواسطة القرائن كما اتَّضح ممَّا بيناه، فعليه لا يتعيَّن أنْ يكون المراد من المُحصنات في قوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ هو المتزوِّجات حتى يقال لا نتعقَّل التنصيف في الرجم بل المراد من المُحصنات في هذه الآية هو الحرائر غير المتزوِّجات كما أوضحنا ذلك.

جواب آخر على الإشكال:

ثم أنَّ هنا جوابًا آخر على الإشكال المذكور، وهو أنَّه لو لم يكن المرادُ من المُحصنات في قوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾، هو الحرائر غير المتزوِّجات لكان المراد من المُحصنات في الآية مطلق الحرائر وليس خصوص المتزوِّجات، لأنَّ مدَّعي نفي الحكم بالرجم لا يقول باختصاص الجلد بالزانية المتزوِّجة وإنِّما يقول إنَّ الحكم بالجلد ثابت لمطلق الزانية، وعليه يكون معنى الآية أنَّ الاماء إذا زَنَيْنَ فعليهنَّ نصف ما على النساء الحرائر من العذاب، وإذا ثبت أنَّ المراد من المحصنات في الآية الشريفة هو مطلق الحرائر فعندئذٍ لا يكون ثمة مانع من تقييد المُحصنات بغير المتزوِّجات إذا قام الدليل على أنَّ المُحصنات المتزوِّجات عقوبتُهن الرجم، نعم لو كان المراد من المُحصنات في الآية هو خصوص المتزوِّجات لكان بين ما ورد في السنَّة الشريفة وبين الآية تنافٍ، لأنَّ ما ورد في السُنَّة الشريفة هو أنَّ المتزوِّجة عقوبتُها الرجم إذا زنت والآية تقتضي أنَّ المتزوِّجة عقوبتُها الجلد كما هو مقتضى عدم تعقُّل التنصيف في الرجم، لكنَّه لما لم يكن المراد من المُحصنات خصوص المتزوِّجات قطعًا فأيُّ مانعٍ حينئذٍ من حمل المُحصنات على الحرائر غير المتزوِّجات بعد قيام الدليل القطعيِّ على أنَّ المتزوِّجات عقوبتُهن الرجم.

إشكال أخير: كيف يستعمل لفظ المحصنة في أكثر من معنى

قد يُقال كيف تُستعمل كلمة المُحصنات تارةً في خصوص الحرائر غير المتزوِّجات كما في الآية بحسب الدعوى وتُستعمل تارةً أخرى في خصوص الحرائر المتزوِّجات كما هو في السنَّة الشريفة.

والحال أنَّها كلمةٌ واحدة ينبغي أن تُستعمل في معنىً واحد.

والجواب:

أنه لا مانع من ذلك بعد اشتمال كلٍّ من الاستعمالين على قرينة تُحدِّد المراد منه، وهذا أمر متعارفٌ في استعمالات العرب فكثيرًا ما تُستعمل كلمة ويراد منها معنىً ثم تُستعمل في موردٍ آخر ويُراد منها معنىً آخر، مثلاً قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾(17).

وقوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ ..﴾(18).

فالفاحشة في الآية الأولى استُعملت في خصوص اللواط واستُعملت في الآية الثانية في خصوص الزنا وتمَّ التعرُّف على ذلك بواسطة القرينة.

وبما ذكرناه يتبيَّن فسادُ ما ادُّعي من أنَّ الرَّجم ليس عقوبةً للزَّاني المُحصن في شريعة الإسلام.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة باب 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، ومجموع الروايات يفوق الاربعين رواية. صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص20 13 كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا ح 19 / ص693، ابو داود ح 4425، الترمذي ج4 / ص35 / ح1427، النسائي في كبرى 4 / ص279 / ح7171، صحيح البخاري -البخاري- ج12 / ص117 / باب رجم المحصن 6812، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج1 / ص93، 107، 141، 153، الطحاوي في شرح معاني الآثار -أحمد بن محمد بن سلمة- ج3 / ص140 وغيرها.

2- راجع المغني -عبد الله بن قدامه- كتاب الحدود ج2 / ص2184، بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد الحفيد- ج2 / ص636.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- باب 1 من أبواب ح الزنا / ح2، 5، 12، 13، 16، سنن الدارقطني -الدارقطني- ج3 / ص123 / ح137، المحلى -ابن حزم- ج11 / ص234، الجامع لاحكام القرآن -القرطبي- ج5 / ص87، تلخيص الحبير -ابن حجر- ج4 / ص52 / ح1747، نيل الأوطار -الشوكاني- ص249، شرح معاني الآثار -أحمد بن محمد بن سلمة- ج3 / ص140، عمدة القاري -العيني- ج23 / ص291.

4- سورة النور / 2.

5- سورة الطلاق / 1.

6- سورة الأحزاب / 49.

7- سورة البقرة / 228.

8- سورة الطلاق / 4.

9- كتاب الموطأ -الإمام مالك- ج2 / ص8، 9 / حديث1،  صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص205، سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج4 / ص153.

10- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص1322، السنن الكبرى ج8 / ص212، سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج4 / ص146 / حديث4421 و4422، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص1322، سنن الدارقطني -الدارقطني- ج3 / ص121 حديث 131، سنن الترمذي -الترمذي- ج4 / ص42 السنن الكبرى ج8 / ص212.

11- نيل الأوطار-الشوكاني- ج7 / ص262، بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد الحفيد- ج2 / ص637.

12- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص1316 / حديث 12، 13، سنن الدارمي -عبد الله بن بهرام الدارمي- ج2 / ص181، سنن الترمذي -الترمذي- ج4 / ص41 / حديث 1434، سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج4 / ص144 / حديث 4415، سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج2 / ص852 / حديث255، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج5 / ص318، 320، 327، أحكام القرآن -الجصاص- ج3 / ص255، السنن الكبرى ج8 / ص210، 222.

13- سورة النساء / 25.

14- سورة المائدة / 5.

15- سورة النور / 23.

16- سورة النساء / 24.

17- سورة الأعراف / 80.

18- سورة النساء / 15.