رسم المصحف وقواعده

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في القرآن الكريم في آية 90 من سورة يونس: ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾(1) ما هو الوجه في إضافة حرف الألف بعد كلمة (بنو) رغم انَّ قواعد الإملاء تقتضي خلاف ذلك أليس ذلك خطأ في رسم المصحف؟

 

الجواب:

قواعدُ الإملاء في عصر الصحابة:

المعهود في رسم المصحف العثماني الذي كتبه بعضُ الصحابة هو انَّ جمع المذكر السالم إذا كان في موقع الرفع وكان مضافاً إلى اسم فإنَّه يتم فيه إثبات ألفٍ بعد الواو خلافاً لما هو المُتعارف في قواعد الإملاء في الوقت الحاضر.

 

فإنَّ المتعارف من قواعد الإملاء هو عدم إضافة ألف بعد الواو فمثلاً: (مسلمو البلد) و(قاطنو المدينة) فمسلو جمع مذكر سالم محذوف النون لإضافته إلى اسم البلد وهو مرفوع بالواو لأنَّ جمع المذكر السالم يرفع بالواو وينصب ويجرُّ بالياء ولا يُضاف ألف بعد الواو بحسب قواعد الإملاء المتعارفة في الوقت الحاضر إلا انَّ ذلك لم يكن مُتعارفاً في عصر الصحابة.

 

فبنو إسرائيل الوارد في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾ فاعل للفعل ﴿آمَنَتْ﴾ وباعتباره مُلحق بجمعِ المذكَّر السالم أصله (بنون) لذلك فهو مرفوع بالواو ولأنَّه مضافٌ إلى الاسم ﴿إِسْرَائِيلَ﴾ لذلك حُذفت النون فكانت ﴿بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾.

 

وأما إضافة الألف فذلك هو ما كان مُتعارفاً في قواعد الإملاء في عصر الصحابة، ولهذا تجدُ انَّ جمع المذكر السالم في كلِّ موردٍ ورد في القرآن وكان في موقع الرفع ومضافاً إلى اسم فإنَّه قد أضيفت إليه الألف بعد الواو.

 

فمثلاً قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ﴾(2) فإنَّ ﴿مُّلاَقُوا﴾ وقعت في موقع الرفع لانَّها خبر (إنَّ).

 

ويمكن التمثيل أيضاً بقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾(3) فإنَّ الألف قد أُثبتت بعد كلمة ﴿أُوْلُوا﴾ رغم انَّ قواعد الإملاء في الوقت الحاضر تقتضي عدم إثباتها إلا انَّ الذي تقتضيه قواعد الإملاء في عصر الصحابة هو إثبات الألف بالتقريب الذي ذكرناه.

 

ثم إنَّ الأمر لا يختصُّ بهذا المورد فالكثيرُ ممَّا هو مُثبَت في الرسم العثماني للمصحف مغايرٌ لما تقتضيه قواعد الإملاء في الوقت الحاضر.

 

مثلاً كلمة (الرحمن) وكلمة (بسم) فإن قواعد الإملاء تقتضي إثبات ألف بعد الميم في كلمة (الرحمن) وإثبات ألف بعد الباء في كلمة (بسم) وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَـٰـثَةِ﴾(4) وكذلك في قوله تعالى: ﴿التَّـٰـئِبُونَ الْعَــٰـبِدُونَ الْحَـٰـمِدُونَ السَّـٰـئِحُونَ الرَّ ٰكِعُونَ السَّـٰـجِدونَ﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلـٰـمٌ﴾(6)، وقوله تعالى: ﴿فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(7) رغم ان القاعدة الإملائية في الوقت الحاضر تقتضي ان تكون التاء في كلمة (فطرت) مربوطة.

 

وهنا لابدَّ من التنبيه على أمرين:

الأمر الأول: (الإملاء من العلوم الآلية الاعتبارية)

إنَّ قواعد الإملاء من العلوم الآليَّة الاعتبارية، فهي تقوم على أساس التوافق والتعارُف شأنُها في ذلك شأن الرموز والإشارات، فليس للرمز والإشارة موضوعيَّة، فهما إنما يُجعلان لغرض التعبير عن المُشار إليه، فقد يتمُّ التوافق على انَّ السهم إذا كان عمودياً فإنَّه يُشير إلى انَّ الطريق سالكٌ، وقد يتمُّ التوافقُ بعد ذلك على انَّه يُشير إلى معنىً آخر، فلا يُقال عن الأول إنَّه خطأ، ولا يُقال عن التوافق الثاني إنَّه خطأ.

 

وهكذا هي الكتابة فإنَّها تُشير إلى الكلمات، فقد يُتوافق على إضافة حرف أو حذفه وقد يُرمز إلى كلمةٍ طويلة بحرفٍ واحد أو حرفين، فالموضوعيَّة إنَّما هي للمُشار إليه، والحروف المكتوبة إنَّما هي آلة ووسيلة لذلك، فلا ضير في أنْ يتمَّ التوافق على إضافة حرفٍ أو حذفه.

 

الأمر الثاني: (الإعجاز في النظم لا في الرسم)

إنَّ قراءة القرآن لم تكن تعتمدُ على الكتابة وإنَّما كانت تعتمدُ على التلقِّي من القرَّاء جيلاً بعد جيل، ولذلك لا تجدُ رغم استحداث قواعدَ جديدة للإملاء تختلفُ عمَّا كانت عليه قواعدُ الإملاء في عصر الصحابة بمستوىً ما إلا انَّه ورغم ذلك لا تجدُ اختلافاً في التلفُّظ بآياتِ القرآن.

 

فالقرآن أصلاً لم يكن منقَّطاً ولا مُعرَباً وإنَّما تمَّ استحداثُ ذلك في عصر التابعين رعايةً للناس بعد أنْ ضعُفتْ سليقتُهم.

 

ثم إنّ إعجاز القرآن ليس في رسمِه وإنَّما في صياغتِه وجوهر مضامينِه، والرسمُ والكتابةُ كانتا بواسطةٍ بشريَّة، فالقرآنُ لم يكن قد نزل مكتوباً في قرطاسٍ من السماء وإنَّما هو وحيٌّ أملاه رسولُ الله (ص) على الناس فكتبوه بالكيفيَّة المعهودة عندَهم، فالمناط فيما به الإعجاز هو الملفوظ من الآيات وليس ما هو مرسومٌ بالحروف.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة يونس / 90.

2- سورة البقرة / 46.

3- سورة الأحقاف / 35.

4- سورة التوبة / 118.

5- سورة التوبة / 112.

6- سورة يونس / 10.

7- سورة الروم / 30.