شبهة حول دليل التمانع

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ورد في أدلَّة عدم تعدُّد واجب الوجود ما اصطُلح عليه بدليل التمانع وهو ما جاء به الكتاب العزيز، فعند المطالعة للدليل انقدحت في فكري شبهةٌ وهي بما أنَّ دليل التمانع قائمٌ على فرضٍ وهو أنَّه لو تعدَّد الواجب لزم منه تنازعُهما، ولازمُ التنازع فسادُ الكون، ونحن بالوجدان نرى عدمَ فسادِه، فبطلان لازمِ اللازم يقتضي بطلانُ اللازم إلا أنَّ التنازع مجرَّد فرضٍ لا غير بل قام الدليلُ العقليُّ على أنَّ الواجب لا بدَّ أنْ يكون حكيماً فمع تعدُّدِهما وحكمتِهما لن يقع تنازع وبالتالي لن يكون ثمة فساد، وبذلك يكونُ الاستدلال بدليل التمانع غيرَ تامٍّ، أزيحوا عنَّا هذه الشبهة جزاكم الله عن الإسلام خير الجزاء.

الجواب:

تحريرُ موضوع الاستدلال في الآية المباركة:

حتى يتَّضح الجواب عن الإشكال المذكور لا بدَّ من الوقوف على موضوع الدليل في الآية المُشار إليها أعني قولَه تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(1) فالآيةُ المباركة في مقامِ الاستدلال على فساد ما يعتقد به الوثنيُّون، فهم لا يُنكرون وجودَ الله تعالى وأنَّه وحدَه الصانعُ لهذا الكون، وانَّ الذي ينكرونَه هو وحدة الربِّ المعبود المعبَّر عنه بالإله، فهم وإنْ كانوا يعتقدون بوحدة الصانع جلَّ وعلا إلا انَّهم في ذاتِ الوقت يعتقدون بتعدُّد الآلهة، لذلك وردَ في القرآن الكريم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾(2) ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾(3).

فالوثنيُّون إذن يعتقدونَ بوجود الله تعالى وإنَّه وحده الخالقُ والصانعُ لهذا الكون إلا انَّهم يعتقدون أيضاً انَّ الله تعالى فوَّض تدبيرَ هذا الكون إلى وجوداتٍ ساميةٍ وشريفة ومقرَّبة منه تعالى، فهي التي تُدبِّر شئون هذا العالم، ولذلك يعبدُها الوثنيُّون لتُقرِّبهم إلى الله تعالى زلفى كما أفاد القرآنُ الكريم ذلك على لسانِهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى﴾(4).

فالآيةُ المباركة بصددِ بيان فساد هذه العقيدة، وهي انَّ لهذا الكون أرباباً متعدِّدين وأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم جزءً من هذا الكون يتولَّى شئونَ تدبيرِه، وأنَّ اللهَ تعالى لا شأنَ له بتدبير هذا الكون، ولهذا تصدَّى القرآن الكريم لتفنيد هذه الدعوى الباطلةِ في آياتٍ عديدة، منها قولُه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾(5).

الجواب على دعوى تعدّد الأرباب:

فإذا اتَّضح موضوعُ الاستدلال يتَّضح الجواب عن الإشكال الذي ذكرتموه، فالموجوداتُ التي يعتقدُ الوثنيُّون أنَّها أربابٌ ومعبوداتٌ ليست واجبة بل هي مربوبةٌ لله تعالى وإنْ كانت أرباباً لما دونِها بنظرهم، فإذا كانت هي موجوداتٌ متباينة في حقائقِها أي أنَّها متغايرة ولكلٍّ منها حقيقةٌ وجوديَّة غير حقيقةِ الوجود الآخر، ولكلٍّ منها إرادةٌ مستقلَّة وتدبيرٌ مستقلٌّ فهذا يقتضي فسادَ النظام الكونيِّ لأنَّ كلَّ إلهٍ سوفَ يُدبِّر الجزءَ الذي هو ربٌّ له بما يُريدُ بقطع النظر عن تدبيرِ الآخر لما هو ربٌّ له، وهذا يقتضي بطبيعة الحال أنْ ينعكس أثرُ تدبيرِ الأول على الشيءِ الذي هو خارج عن تدبيرِه وكذلك العكس، وحينئذٍ لن نجدَ هذا الكون منتظماً والحالُ أنَّنا نجدُه منتظماً في قوانينِه وعللِه ومعلولاتِه وهو ما يكشفُ عن وحدةِ المُدبِّر.

فإنْ قلت: إنَّنا لماذا لا نفترضُ فيهم الحكمةَ المقتضية للتنسيق والتوافق؟

قلنا: مِن أين لنا ان نُثبتَ لهم الحكمةَ المقتضية لذلك، وهم موجوداتٌ ممكنة وليست واجبةً، فإذا كانوا كذلك فبطبيعة الحال سوف يرى كلُّ واحدٍ منهم انَّ ما يُبرمُه من تدبيرٍ أصحُّ مما يُبرمُه الآخر، وإنَّ الذي يجبُ أنَّ يقع خارجاً هو ما يُبرمُه هو دون ما يُبرمُه غيره لأنَّه الأصحُّ، فإمَّا أنْ يتنازعا فلا يغلبُ أحدُهما الآخر وإمَّا أنْ يغلبَ أحدُهما الآخر وعلى كلا الفرضين سوف يظهرُ الفسادُ في الكون.

ففي فرض عدم الغلبة لأحدِهما على الآخر سوف ينتجُ انَّه كلَّما دبَّر أحدُهما شيئاً يتنافى مع تدبيرِ الآخر فإنَّ الآخر سيعمدُ إلى نقض ما دبَّره الأولُ وهكذا العكس.

وفي فرض الغلبة لأحدِهما على الآخر سنجدُ ان الجزء الذي يُدبِّره المغلوبُ في انتقاضٍ دائمٍ، فكلَّما أصلحَه نقضَه تدبيرُ الآخر.

بمعنى انَّ الآخر لن تكونَ غلبتُه مقتضية لإلغاء ذلك الإله المغلوب لانَّه مثله إله ومفوَّض فسيبقى على تدبير ما هو ربٌّ له ولكنَّه عاجز عن حماية ما يُدبِّره لانَّ تدبيره منافٍ لتدبير الغالب.

فإذا قلتَ: لماذا لا يأمرُهما ربُّ الأرباب بالتنسيق قلنا: إنَّ هذا خلاف ما يعتقدونه من التفويض التامِّ للأرباب، فإذا افترضنا تدخُّل ربِّ الأرباب لفرض إرادتِه فهما إذن غير مفوَّضين وحينئذٍ لن يكونا ربَّين لأنَّهما لن يكونا في الفرض المذكور مدبِّرين بل سيكونان ممتثلين لتدبيرِ الله وهو خُلف الفرض.

الجواب بتقرير آخر:

وبتقرير آخر: هنا عدَّةُ افتراضاتٍ للمسألة، وهي:

الافتراض الأول: افتراض وجود أرباب متعدِّدين وأنَّ لكلِّ واحدٍ مُطلق التفويض في تدبير شطرٍ من الكون بحيث تكون قوانينُ ذلك الشطر وعللُه ومعلولاته وكلُّ ما هو مشتمل عليه من وجودات خاضعاً لمشيئة ربِّ ذلك الشطر وتدبيره، بحيث يكون هو المقنِّن وهو المشرف على إجراء ما قنَّن.

الجواب: فلو كان الأمر كذلك لما وجدنا اتِّحاداً في قوانين هذا الكون بحيث يتشكلُ منها منظومةٌ متناسقة واقعةٌ ضمن سلسلة علل ومعاليل لا تتخلَّف ولا تنتقض، فلو افترضنا كما هم يفترضون انَّ ثمة رباً لنوع الحيوان وربَّاً لنوع النبات وربَّاً للنار وربَّاً للسماء ورباً للأرض لكان مقتضى ذلك استقلال كلِّ شيءٍ من هذه الأنواع بمنظومةٍ من القوانين، وهذا يقتضي بطبيعته التصادم لانَّ هذه الأنواع متداخلة فيما بينها فإذا كان لكل واحدٍ من هذه الأنواع قوانين مستقلَّة فسوف يقعُ التصادم حتماً.

فالحيوانُ يعيشُ على الأرض وله ارتباطٌ وثيق بقوانينِها، فكلُّ صنفٍ منها متناغم مع طبيعة الأرض التي هو عليها، والنباتُ ينمو في الأرض وله ارتباط وثيق بقوانينِها والتأثيرُ بينهما متبادل، وهو يحتاج إلى ماء السماء، والأرضُ لها ارتباط وثيق بقوانين السماء وأجرامِها من الشمس والقمر والنجوم، فلا الحيوان مستغنٍ عن النبات ولا النبات مستغنٍ عن الحيوان، وكلٌّ منهما غير مستغنٍ عن الأرض والثلاثة غير مستغنين عن السماء، والسماء ينتظم أجرامُها في منظومة متناغمة متناسقة ويترتب على تناسقها الكثير من الآثار مثل تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة ونمو النبات والحيوان وتموُّج البحار وتبخُّرها.

وحينئذٍ كيف نفترض لكلِّ نوع ربَّاً مستقلاً يدبِّر شئونه بمشيئةٍ وإرادةٍ مستقلَّة ثم يتَّفق أنْ تكون الإرادات المتباينة مُنتجة لمنظومةٍ متناسقة، إنَّ ذلك لا يمكن تعقّلُه، لأنَّه ما من نوعٍ من هذه الأنواع إلا وله أثرٌ على نوعٍ آخر، وكلٌّ منها يتكامل بالآخر، وحينئذٍ فإنْ كان لجميع هذه الأنواع ربٌّ واحد يُدبِّر شئونها جميعاً ثبت المطلوب، وإن كان لكلِّ نوع ربٌّ مستقل في إرادته وتدبيره فإمَّا أنْ يقع التصادم والفساد لو أبى كلُّ واحدٍ منهم أن يستفيد النوع الذي يُدبِّره الآخر من النوع الذي هو ربٌّ له، وهذا الفرض خلاف ما نجدُه من التأثير والتأثُّر بين الأنواع.

الافتراض الثاني: أنْ يُفترض انَّ كلَّ نوع كائن بمنأىً عن النوع الآخر ولكلٍ نظامُه ولا ربط لنوعٍ بآخر.

الجواب: وهذا الفرض مخالفٌ لما نجدُه من الترابط بين الأنواع، فالحيوانُ يعيش على الأرض والنباتُ ينمو عليها والأرضُ تدور حول الشمس وكلٌ منهما في فلكٍ يسبحون.

الافتراض الثالث: أنْ يُفترض أنَّ أرباب الأنواع متوافقون على التأثير والتأثُر بين الأنواع التي يدبِّرون شئونها.

الجواب: أن هذا مخالف لمقتضى الفرض، لأنَّه يقتضي أن يكون التدبير مشتركاً بين أرباب الأنواع، فليس لأحدٍ أن يدبِّر شأن نوعِه مستقلاً عن بقية الأرباب، فلو كان هذا الفرض متعيِّناً لكان مقتضاه أن يكون ربُّ الأرباب إما عابثاً أو جاهلاً، لانَّه لا معنى لأنْ يُفرض لكلِّ نوعٍ ربٌّ ومدبِّرٌ وهو عاجز عن التدبير باستقلالِه ودون مراجعة بقيَّة الأرباب.

فإمَّا ان يكون ربُّ الأرباب مُدركاً لعدم قدرة كلِّ ربٍ من أرباب الأنواع على التدبير المستقل ومع ذلك فرضه مدبِّراً مستقلاً وهذا من العبث، لانَّه يأمر بشيءٍ يُدركُ انّه غير مُستطاع، وإمّا أن يكونَ غافلاً عن عدم قدرة كلِّ ربٍّ على التدبير المستقلف هو قد أعطى لكل واحدٍ صلاحية التدبير المستقل غافلاً عن عدم قدرة كل واحدٍ على ذلك، وهذا الفرض يقتضي نسبة الجهل لربِّ الأرباب.

الفرض الرابع: أن يُفترض أنَّ التأثير بين الأنواع حتميّ ورغم ذلك نفترض انَّ كلَّ ربٍّ من أرباب الأنواع مستقلاً في إرادته وتدبيره لنوعه.

الجواب: هنا سيقع التصادم حتماً وافتراض غلبة نوع على الأنواع الأخرى يقتضي إما انْ يكون مقتدراً على تدبير بقية الأنواع بعد الغلبة أو يكون غير مقتدرٍ فإن كان مقتدراً فهو ربٌّ لكل الأنواع لانَّه المدبِّر لها وهو خلف الفرض، وانْ كان غير مقتدرٍ أدى ذلك إلى اختلال نظام الكون، لانَّ الأرباب المغلوبة غير قادرة على إنفاذ إرادتها بعد فرض مغلوبيتها ولانَّ ربَّ النوع الغالب غير قادر على تدبير الأنواع الأخرى وحينئذٍ يتعطَّل نظام الأنواع وينتقض، وهذا هو الفساد الذي يُكذِّبه الواقع.

الجواب على فرضية تعدّد الواجب:

ولو فرضنا جدلاً انَّ الآية بصدد نفي تعدُّد الواجب بالذات وهو الخالق وليست بصدد نفي الشرك في الربوبيَّة فإنَّه يمكن الجواب عن الإشكال المذكور بهذا البيان:

وهو انَّه لو افترضنا تعدُّد الواجب فما هو مظهر هذا التعدُّد فإنَّ إفتراض عدم وجود مظهرٍ لتعدُّد الواجب مستحيلٌ لأنَّ تعدُّد الواجب يعني أنَّ ثمة وجودين لكلٍّ منهما إرادة، فإن كانت إرادة أحدهما مُطلقة وإرادة الآخر ليست مطلقة فهذا معناه أنَّ الذي ليست إرادته مُطلقة ليس واجباً وانَّ الواجب هو خصوص مَن كانت إرادته مُطلقة، وإنْ افترضنا انَّ كليهما ليست له إرادة مُطلقة فكلاهما ليس واجباً، وإنْ افترضنا انَّ لكلٍّ منهما إرادة مطلقة فهذا مستحيل لانَّ الإرادة المُطلقة تعني مُضي إرادتِه حتى وإن كانت على خلاف إرادة الآخر، فلو كانت إرادتُه ماضية فهذا معناه انَّ إرادة المخالف ليست ماضية فكيف يصحُّ افتراضها ماضية مُطلقاً وكذلك العكس، فالفرض الثالث مستحيل، والفرض الثاني يقتضي أن لا يكون ثمة واجب لذاته فيتعيَّن الفرض الأول وهو انَّ أحدهما واجب والآخر ليس واجباً.

والفساد الذي ينشأ عن التنازع بين الإرادات إنَّما يكون بناءً على الفرض الثاني، وهو ان تكون إرادة كلٍّ منهما ليست مطلقة وذلك التنازع لن يكون بين واجبين لانَّ الواجب إرادته لا تكون إلا مُطلقة ﴿كُن فَيَكُونُ﴾(6).

وأما بناءً على الفرض الأول وهو أن تكون إرادةُ أحدهما مُطلقة وإرادة الآخر غير مُطلقة فلن يقعَ التنازع لانَّ الثاني ليس واجباً فلنْ تقع إرادتُه في مقابل إرادة الأول.

وبهذا يتبين انَّه لا معنى لافتراض الحكمة المقتضية للتوافق، لانَّه في الفرض الأول تكون إرادة ذي الإرادة المطلقة نافذة دون أن يستطيع الآخر نقضَها، وفي الفرض الثاني سوف يقعُ تنازعٌ ولكن لن يكون بين واجبين لانَّ كلاً منهما ليس ذو إرادة مُطلقة فهما من الوجودات المُمكنة وهو خلف الفرض والثالث مستحيل.

وبتعبير آخر: إنَّ افتراض التنازعِ لا يكون إلا بناءً على الفرضِ الثاني وهو افتراض ان يكون كلا الإلهين ليسا ذا إرادة مُطلقة.

وهذا الفرض يقتضي أن يكون كلا الإلهيين غير واجبين، وحينئذٍ لا يصحُّ افتراضهما واجدين للحكمة المُطلقة المقتضية لعدم التنازع.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأنبياء / 22.

2- سورة الزخرف / 9.

3- سورة الزخرف / 87.

4- سورة الزمر / 3.

5- سورة الزخرف / 84.

6- سورة البقرة / 117.