أيُّهما خُلق أولاً الأرض أو السماء؟

شبهة مسيحي:

ورد في القرآن في سورة البقرة قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1) ولكنَّه في سورة النازعات يقول: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أم السَّمَاء بَنَاهَا / رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا / وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا / وَالأرضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا / أَخْرَجَ مِنْهَا ماءهَا وَمَرْعَاهَا / وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا / مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾(2).

 

فبين الآيتين تناقض لأنَّ الأولى ذكرت أنَّ الله خلق ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء فسواهُنَّ سبعاً، وفي الثانية أكمل السماء ثم هبط إلى الأرض فدحاها، فما الصحيح يا تُرى؟! وهكذ فإنَّه ذكر في سورة فُصِّلت أنَّ الأرض هي التي خُلقت أولاً كما في سورة البقرة: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ / وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ / ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ / فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾(3) أليس ذلك من التناقض؟!

 

السؤال الثانى:

الجبال التي هي الرواسى هل خُلقت أولاً قبل السماء كما في سورة فُصِّلت أو أنَّ السماء خُلقت أولاً قبل الجبال كما في سورة النازعات؟!

 

الجواب:

منشأ الإشكال هو استظهار تأخُّر خلق السماء زماناً من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ بعد قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرضِ جَمِيعاً﴾ في سورة البقرة، وبعد قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الأرضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ في سورة فصلت، فلو أنَّ هذا الاستظهار قد تمَّ إسقاطه إما بإثبات عدم إرادة التأخُّر الزماني من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ وإمَّا بإثبات الإجمال فيما هو المراد منه فحينئذٍ ينتفي الإشكال من أساسه، فلا يكون ثمة من منافاة بين ماورد في سورتي البقرة وفُصِّلت وبين ما ورد في سورة النازعات.

 

ذلك لأنَّ ماورد في سورة النازعات إذا كان صريحاً في أنَّ السماء خُلقت أولاً وأنَّ خلق الأرض ودحوها وقع ثانياً فإنَّ ذلك لن ينافي ماورد في سورتي البقرة وفُصِّلت بعد أنْ لم يكن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ ظاهراً في تأخُّر خلق السماء عن خلق الأرض، فما تُثبته سورة النازعات لا تنفيه الآيتان من سورتي البقرة وفُصِّلت، فلا تناقض بين الآيات الثلاث.

 

وبيان ذلك:

إنَّ حرف العطف "ثم" وإنْ كان يُستعمل غالباً في إفادة الترتُّب والتأخُّر الزماني عن المعطوف عليه، فإذا قيل: جاء زيد ثم عمرو كان معنى ذلك أنَّ عَمراً جاء ثانياً أي جاء متأخِّراً زماناً عن مجيئ زيد، فحرفُ العطف "ثم" وإنْ كان يُستعمل غالباً في إفادة هذا المعنى إلا أنَّ ذلك ليس مطِّرداً، فقد يُستعمل حرف العطف "ثم" مجرَّداً عن إفادة التأخُّر الزماني فيكون مدلوله متمحِّضاً في إفادة معنى التشريك أو إفادة معنى التشريك والمُهلة بين المعطوف والمعطوف عليه بقطع النظر عن أنَّ المعطوف عليه وقع أولاً أو المعطوف وقع أولاً أو يُستعمل في إفادة التأخُّر البياني، فاستعمال "ثم" في هذه المعاني وماهو قريبٌ منها لدى العرف ليس عزيزاً بل هو شائع في الاستعمال العربي، ويتمُّ استظهار هذه المعاني وغيرها دون المعنى الأولي لحرف العطف "ثم" من ملاحظة القرائن المحتفَّة بالكلام المُستعمل فيه حرف العطف "ثم". 

 

ومثال استعمال حرف العطف "ثم" مجرَّداً عن إفادة معنى التأخُّر الزماني ما لو عاب أحدهم زيداً أمامك فلم تقبل بذلك فأجبته: "إنَّ زيداً هذا شريكي في التجارة ثم إنَّه أخي وابن أبي" فإنَّ حرف "ثم" لم يُستعمل في هذه الجملة لإفادة معنى التأخُّر الزماني، إذ أنَّ الأخوة ليست متأخرة قطعاً عن الشراكة في التجارة بل هي متقدِّمة زماناً عليها.

 

وكذلك حينما يُعاتبك أحدهم على إيذائك لزوجتك فيقول: "إنَّ هنداً زوجتك وأم أبنائك ثم هي إنَّها إنسان تجب الرعاية لمشاعره" فإنَّ حرف ثم لم يُستعمل في التأخُّر الزماني، إذ أنَّ الإنسانيَّة ليست متأخِّرة عن الزوجيَّة كما هو واضح.

 

ومن أمثلة ذلك أيضاً: "بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمس أعجب".

 

ومثالٌ رابع: ما لو أحسنت إلى أحدهم فقابَلَ إحسانك بالإساءة فوبَّخته بقولك: هل نسيتَ إحساني إليك فإنِّي قد وهبتُك مسكناً تأوي إليه ثم إنِّي أنفقتُ عليك وعلى أبنائك ثم انِّي زوَّجتُك وحبوتُك الكثير من الأموال ثم إنِّي ربَّيتك حين كنتَ صغيراً.

 

فالواضح من استعمال حرف العطف "ثم" في الخطابات المذكورة في المثال لم يكن إلا لغرض تعداد مظاهر النعم والإحسان للمخاطَب، وليس المقصود منها بيان الترتيب الزماني بين هذه المِنَح.

 

ومن الأمثلة على استعمال حرف العطف "ثم" في إفادة غير التأخُّر الزماني قول الشاعر العربي:

 

ولقد سادَ، ثم سادَ أبوه، ** ثم قد سادَ قبل ذلك جدُّه

 

وكذلك فإنَّ القرآن الكريم استعمل حرف "ثم" في إفادة غير التأخُّر الزماني، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾(4) فإنَّ الهداية المنوط بها إدراك المغفرة وقبول التوبة ليست متأخرة زماناً عن التوبة والعمل الصالح بل هي مصاحبة ومزامنة لهما.

 

ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ / فَكُّ رَقَبَةٍ / أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ / يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ / أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ / ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ / أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾(5) أي إنَّ الإنسان لا يكون مُقتَحِماً للعقبة متجشِّماً الالتزام بتكليف ربِّه إلا بمثل فكِّ الرقبة وتخليصها من رقِّ العبودية والأسْر وبمثل إطعام اليتيم والمسكين وذوي القرابة في ظرف جوعهم وحاجتهم ثم كان من اللذين آمنوا أي لا يكون كذلك مقتحماً للعقبة إلا بأن يكون مؤمناً، فالإيمان شرط سابقٌ ومصاحبٌ لتحقَق اقتحام العقبة بفكِّ الرقبة والإطعام، لا أنَّ المقتحِم للعقبة هو الذي يفكُّ الرقبة ويُطعم ثم بعد فعل ذلك يُؤمن بالله بل إنَّ الإيمان يجب أنْ يُزامن فعل فكِّ الرقبة والإطعام أو يكون سابقاً ومصاحباً لهما، فحرفُ ثم استُعمل في إفادة غير معنى التأخُّر الزماني.

 

أو أنَّ المعنى هو أنَّ الإنسان لا يكون مقتحماً للعقبة ولا يكون من اللذين آمنوا إلا بفكِّ الرقبة والإطعام، وعلى كلا التقديرين يكون الحرف "ثم" استُعمل في غير التأخُّر الزماني.

 

إذا اتَّضح ماذكرناه يتَّضح أنَّ معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ لا يتعيَّن مدلوله في إفادة التعقيب والتأخُّر الزماني عن خلق الأرض، فقد يكون مراد الآية متمحِّضاً في بيان خلق الله تعالى للأرض والسماء للتذكير بعظمته وسعة قدرته وعلمه وشمول امتنانه على عباده، حيثُ خلَق لهم ما في الأرض جميعاً وخلَق لهم السماوات السبع وما هي مشتملةٌ عليه من أفلاكٍ وأجرام، فالآية بصدد البيان لذلك وليست في مقام البيان لما تمَّ خلقه أولاً وما تمَّ خلقه ثانياً، وكذلك هي الآيات من سورة فُصِّلت فإنَّها بصدد البيان لمراحل خلق الأرض والسماء وما فيهما ولم تكن بصدد البيان لما خُلق أولاً وما خلقَه اللهُ تعالى ثانياً.

 

فحرفُ العطف "ثم" لا يتعيَّن استعماله في الموردين لإفادة معنى التعقيب والتأخُّر الزماني، فقد يكون مُستعمَلاً لعطف جملةٍ على جملة لإفادة اشتراك كلا الفعلين -المعطوف عليه والمعطوف- في أنَّهما منتسبان لله جلَّ وعلا كما يقال: زيد يُصلي ثم هو يصوم ويحج، فحرف "ثم" لم يُقصد منه أنَّ الصوم والحج وقعا من زيد في وقتٍ متأخِّرٍ زماناً عن الصلاة، فقد يُزامن فعل الصوم أداء الصلاة وكذلك الحج، فالمقصود من حرف "ثم" في المثال هو عطف جملة على جملة لإفادة اشتراك هذه الأفعال من جهة انتساب صدورها إلى فاعلٍ واحد هو زيد.

 

وعليه فحرفُ العطف "ثم" في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ ليس متعيِّناً في إفادة معنى التعقيب والتأخُّر الزماني بل هو متعيِّن في إفادة معنى العطف والتشريك محضاً، نظراً لقيام القرينة على ذلك.

 

فإنَّ حرف "ثم" إنَّما يُفيد معنى التعقيب والتأخُّر الزماني عند عدم قيام القرينة على إردة خلاف ذلك، وأمَّا مع قيام القرينة على إرادة معنىً آخر فإنَّ الظهور يكون تابعاً لما تقتضيه القرينة كما هو الشأن في كلِّ لفظٍ وُضع لمعنى، فإنَّ إفادته لذلك المعنى إنَّما يكون في فرض عدم قيام القرينة على إرادة غيره.

 

فلفظ الأسد مثلاً وإنْ كان موضوعاً للحيوان المفترس إلا أنَّه لا يصحُّ البناء على إرادة الحيوان المفترس من لفظ الأسد عندما يكون الاستعمال للفظ الأسد مكتنفاً بقرينةٍ على عدم إرادته، فلو قال المتكلِّم: رأيتُ أسداً يرمي بالنبل ويضرب بالسيف فإنَّه لا يصحُّ البناء على أنَّ مراده من لفظ الأسد هو الحيوان المفترس رغم أنَّ هذا اللفظ موضوعٌ للحيوان المفترس، ومنشأ عدم صحَّة البناء على إرادة المتكلِّم للحيوان المفترس من لفظ الأسد في الجملة المذكورة هو أنَّها مشتملة على قرينةٍ تقتضي إرادة معنىً آخر من لفظ الأسد.

 

وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ فإنَّ حرف "ثم" وإنْ كان بحسب ظهوره الأولي مقتضياً لإفادة معنى التعقيب والتأخُّر الزماني إلا أنَّه ونظراً لقيام القرينة على عدم إرادة هذا المعنى يتحتَّم استبعاد هذا الاستظهار وتعيُّنه فيما يُناسب القرينة.

 

والقرينة هي الآيات من سورة النازعات، وهي قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا / رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا / وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا / وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فإنَّ هذه الآيات صريحةٌ في أنَّ خلق الأرض ودحوها قد تمَّ بعد خلق السماء، ومقتضى الجمع بين مفاد هذه الآيات وبين قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ هو حمل حرف "ثم" في الآية على إرادة العطف والتشريك محضاً، وذلك لقاعدة حمل الكلام الذي يحتمل أكثر من معنى على ما يتناسب مع الكلام الآخر الصريح إذا كان كلا الكلامين صادراً من متكلمٍ واحد، فلا تصل النوبة للبناء على التناقض بين الكلامين إذا كان أحدهما محتملاً لأكثر من معنى وكان أحد هذه المعاني غير متنافٍ مع صريح الكلام الآخر لذات المتكلم، فإنَّ الكلام الصريح للمتكلِّم يكون بمثابة المفسِّر للكلام الآخر المحتمِل لأكثر من معنى.

 

ونظير ذلك ما لو قال المتكلِّم في مجلس: جاء زيد وخالد، وقال في مجلسٍ آخر جاء زيد وجاء بعده خالد، فإنَّ العرف لا يرمي المتكلِّم بالتناقض، فإنَّ الواو في الجملة الأولى وإنْ كانت مفيدة لمعنى المعيَّة والتزامن بحسب ظهورها الأولي إلا أنَّها محتملة لإرادة الإفادة لتحقُّق المجيئ محضاً دون النظر لإفادة معنى التزامن، فحيثُ كان هذا المعنى محتمل الإرادة وكان الكلام الآخر للمتكلِّم صريح في عدم إرادة التزامن لذلك يلزم حمل كلامه الأول على عدم إرادة التزامن واعتبار الكلام الثاني مُفسِّراً للكلام الأول وأنَّ مراده منه هو الإفادة لتحقُّق المجيئ محضاً وأنَّه لم يقصد من كلامه الأول مجيئهما في عرضٍ واحد.

 

فالمتكلِّم العاقل لا يُكذِّب نفسه وليكن منشأ ذلك الخشية من الافتضاح والتهمة بعدم المصداقية، واحتمال نسيانه لكلامه الأول غير متعقَّل في مثل القرآن، فإنَّه ليس من قبيل ما يكتبُه أحدهم في بعض صحائفه ثم يُهمله فينسى ما كان قد كتبه فيُتعقَّل في حقِّه الكتابة بعدئذٍ لشيءٍ مناقض لما كان قد كتبَه أولاً إذا لم يكن صادقاً مع نفسه ومع الآخرين إلا أنَّ القرآن ليس من هذا القبيل، ذلك لأنَّ آياته تُتلى ليل نهار في الصلوات اليوميَّة الخمس وفي النوافل وفي المحافل والخلوات، وكان الكثير من المسلمين يحفظونه عن ظهر قلب، فكلَّما نزلت آيةٌ عمدوا إلى حفظها والتيمُّن بالمداومة على تلاوتها رجاءَ الثواب والإتِّعاظ، وكان النبيُّ (ص) يحضُّهم على ذلك ويحضُّ كتَّابه على تدوينها والناسَ على استنساخها من الكُتَّاب وتداولها وحملها إلى كلِّ بقعةٍ أسلم عليها رجلٌ أو إمرأة، فالآيات التي نزلت في أوائل المبعث النبوي الشريف شأنُها شأنُ الآيات التي نزلت بعد الهجرة، فليس شيءٌ منها إلا وهو يُتلى على نحو الدوام ليلَ نهار في المحافل والخلوات وفي الفرائض والنوافل وفي الحضر والسفر، فليس من المُتعقَّل أنْ لا يلتفت النبيُّ (ص) والمسلمون مجتمعين طوال عقدين من الزمن إلى ماورد في الآية من سورتي البقرة وفُصِّلت وما ورد في سورة النازعات.

 

فلو كانوا قد فهموا من مجموعها ما فهمه صاحب الشبهة لكان التناقض والتكاذب بينها بيِّناً لا يخفى، فحتى لو فرضنا جدلاً أنَّ النبيَّ الكريم (ص) لم يكن نبيَّاً وأنَّ القرأن كان من تأليفه كما يزعمون فإنَّه لا يقبل لنفسه الفضيحة وذلك بأنْ يُخبر المسلمين تارةً بأنَّ الله تعالى قد خلق السماء قبل الأرض ويُخبرهم تارةً أُخرى بأنَّ الأرض خُلقت قبل السماء، إنَّ مثل هذا التكاذب في الإخبار لا يصدر من عاقلٍ حريصٍ على المصداقية خصوصاً إذا كان يسعى جاهداً من أجل التثبيت لدعواه إنَّ ذلك يُعبِّر بجلاء عن أنَّ مفاد الآيات من السِوَر الثلاث لم يكن بالنحو الذي فهمه صاحب الشبهة.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الآيات التي وردت في سورة النازعات لمَّا كانت صريحةً في أنَّ السماء خُلقت قبل الأرض فذلك يقتضي رفع اليد عن استظهار تأخُّر خلق السماء عن الأرض من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ وذلك لاحتمال عدم إرادة التعقيب والتأخُّر الزماني من حرف العطف "ثم" إذ أنَّه كثيراً ما يُستعمل في غير هذا المعنى، وذلك وحده كافٍ في التثبُّت من عدم إردة هذا المعنى ممَّا ورد في سورتي البقرة وفُصِّلت بعد التصريح من المتكلِّم نفسه في سورة النازعات أنَّ السماء خُلقت قبل خلق الأرض، فما ورد في سورة النازعات يكون مفسِّراً وشارحاً لما ورد في سورتي البقرة وفُصِّلت ومبيِّناً لما هو المراد من حرف العطف "ثم" وانَّهما إستعملته لإفادة معنى العطف والتشريك محضاً.

 

ولو قيل: إنَّ قوله تعالى في سورة النازعات: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ ليست صريحةً أيضاً في البعدية الزمانية، قلنا لا مانع من القبول بذلك جدلاً، فإمَّا أنْ يُدَّعى صراحةَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ في التأخُّر الزماني أو يُدعى عدم صراحتها، فإنْ أُدُّعي صراحتها في التأخُّر الزماني كان ذلك مقتضياً للبناء على صلاحيتها لصرف الآية من سورة النازعات عن الظهور في البعدية الزمانية، فتكون النتيجة المتحصَّلة من ملاحظة مجموع الآيات حينئذٍ هي أنَّ الأرض خُلقت قبل السماء ولا محذور عندنا في ذلك.

 

وبتعبير آخر: إنَّ الصريح من الآيات يكون مفسِّراً لغير الصريح، وبذلك ينتفي التناقض المتوهَّم بعد حمل غير الصريح على ماهو مناسب للصريح كما هو مقتضى القاعدة الأصولية، وهو مقتضى ما عليه العقلاء من أهل الكلام والمحاورة، فهم حين يتلقَّون خطابين من متكلِّم واحد، أحدهما صريحٌ في معناه والآخر ظاهرٌ في معنىً منافٍ بدواً لما هو صريح الخطاب الأول ولكنَّه محتمِلٌ لمعنىً غير منافٍ للخطاب الأول الصريح فإنَّهم يستظهرون الإرادة الجدِّية للمعنى غير المنافي لصريح الخطاب الأول ويعتبرون الخطاب الأول الصريح مفسِّراً وشارحاً لما هو المراد الجدِّي من الخطاب الثاني.

 

فهذه الطريقة في التعاطي مع الفرض المذكور هي المُعتمَدة عند فقهاء القانون في مقام المعالجة للنصوص القانونية، وهي الطريقة المُعتمَدة لدى القضاة اللذين ينظرون في مثل الوصايا والوثائق، وهي الطريقة المُعتمَدة عند شرَّاح النصوص العلميَّة والأدبيَّة بل وحتى التأريخيَّة، فإنَّ كلَّ هؤلاء يُفسرون النصَّ الذي يَحتمِل أكثر من معنى بالنصِّ الصريح في فرض اتِّحاد المتكلم.

 

ففقهاء القانون مثلاً عندما يرد عليهما نصَّان من قانونٍ واحد أحدهما صريح في معناه والآخر يحتمل أكثر من معنى إلا أنَّ الاحتمال الراجح بقطع النظر عن النصِّ الآخر منافٍ لصريح النص الأول فإنَّهم في مثل هذا الفرض يستبعدون الاحتمال المنافي للنصِّ الصريح ويُفسِّرون النصَّ الثاني بما يتناسب أو لا يُنافي النصَّ الصريح، فيكون النصُّ الصريح بمثابة المفسِّر والشارح للنصِّ المحتمِل في نفسه لأكثر من معنى.

 

وعليه فسواءً قيل بأنَّ النصَّ الصريح من الآيات هو ما ورد في سورتي البقرة وفصلت أو أنَّ الصريح هو ما ورد في سورة النازعات فإنَّ المعنى المتعيَّن من ملاحظة مجموع الآيات هو المعنى المناسب لما هو الصريح، ولا تصل النوبة للحكم بالتناقض بين الآيات. كذلك هي طريقةُ العقلاء في التعاطي مع النصوص.

 

وأمَّا لو قيل بأنَّ الآية من سورة النازعات ليست صريحة في تأخُّر خلق الأرض عن خلق السماء وإنَّما هي ظاهرةٌ في ذلك أي أنَّ الراجح هو افادتها لتأخُّر خلق الأرض عن خلق السماء، وكذلك فإنَّ الآية من سورتي البقرة وفُصِّلت ليست صريحة في تأخُّر خلق السماء عن خلق الأرض وإنَّما هي ظاهرة في ذلك بمعنى أنَّ الاحتمال الراجح هو إفادتها لتأخُّر خلق السماء عن خلق الأرض، فلو كان الأمر كذلك فإنَّه لا يصحُّ الحكم بالتناقض بين الآيات أيضاً، وذلك لأنَّه لا جزم بحسب هذا الفرض بما هو مُراد المتكلم، ولا يصحُّ الحكم على أحدٍ بأنَّ كلامه يناقض بعضُه بعضاً والحال أنَّه لا علم لنا بما هو مراده، فإنَّ الحكم على كلامين لمتكلمٍ بالتناقض إنَّما هو فرع العلم بماهو مراده من الكلامين الصادرين عنه، وأما إذا كان كلامه مجملاً ولو بالعرَض فإنَّ وسيلة الوقوف على مُراده لا يتم إلا بالاستيضاح منه، فإن أمكن وإلا فالعقلاء يكون بناؤهم في مثل هذا الفرض هو التوقُّف وليس الحكم بالتناقض.

 

وبما ذكرناه يتَّضح الجواب عن السؤال الثاني، فإنَّه إذا بنينا على على صراحة الآية من سورة النازعات في أنَّ الأرض خُلقت بعد السماء فإنَّ ذلك مقتضياً لصراحتها أيضاً في أنَّ الجبال خُلقت بعد خلق السماء، وأما الآية من سورة فُصِّلت فظهورها في أنَّ الجبال خُلقت قبل السماء فمبنيٌّ على استظهار التأخُّر الزماني من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ﴾ وقد اتَّضح أنَّ افادة التأخُّر الزماني غير متعيَّن من مفاد الآية المباركة، فهو وإنْ كان محتملاً إلا أنَّ هذا الاحتمال لا بدَّ من طرحه بعد قيام القرينة على عدم إرادته، وهذه القرينة هي سورة النازعات الصريحة في تقدُّم خلق السماء على خلق الأرض والجبال.

 

ومع دعوى العكس وأنَّ الآية من سورة فُصِّلت هي الصريحة دون الآية من سورة النازعات ينسحب الكلام الذي تقدَّم بيانه، وكذلك ينسحب الكلام المتقدِّم لو قيل بعدم صراحة مجموع الآيات، فلاحظ.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة البقرة / 29.

2- سورة النازعات / 27-33.

3- سورة فصلت / 9-12.

4- سورة طه / 82.

5- سورة البلد / 11-18.