اختلافُ جوابِ قومِ لوطٍ لنبيِّهم

شبهة مسيحي:

في جواب قوم لوطٍ لنبيِّهم حين كان يُجادلهم ويُحذِّرهم من الكفر والفسق أورد القرآن جوابين لقومه متناقضين، ففي سورة الأعراف قال: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(1). أمَّا في سورة العنكبوت فقال: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ما سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ / أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ / قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾(2). فما الصحيح يا تُرى هل هو ما ورد في سورة الأعراف أو الذي ورد في سورة العنكبوت؟؟

 

الجواب:

اختلافٌ وليس تناقضاً:

ليس بين الجوابين تناقضٌ وإنَّما كان بينهما اختلاف، فجوابُ قوم لوط لنبيِّهم في سورة الأعراف هو: ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ وجوابهم له في سورة العنكبوت هو: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فليس بين هذين الجوابين تناقضٌ كما هو أوضح من أنْ يحتاج إلى بيان، نعم ثمة اختلافٌ في مضمون الجوابين، وذلك لا محذور فيه إلا أنْ يتوهَّم صاحب الشبهة أنَّ القرآن في السورتين يحكي عن واقعةٍ واحدة وحوارٍ واحدٍ وقع بين قوم لوط ونبيِّهم، ولذلك ادَّعى التنافي بين الجوابين، لأنَّهم إمَّا أنْ يكونوا قد أجابوه بالجواب الوارد في سورة الأعراف أو يكونوا قد أجابوه بالجواب الوارد في سورة العنكبوت لكنَّه ليس في الآيتين ما يدلُّ على أنَّهما بصدد الإخبار عن واقعةٍ واحدة وحوارٍ واحد.

 

محاورتان و جوابان:

وعليه فإذا كانت الواقعة المحكيَّة في سورة الأعراف مختلفة عمَّا يُخبر عنه القرآن في سورة العنكبوت فما المحذور في أنْ يختلف الجواب من قوم لوط لنبيِّهم بأنْ يكون جوابُهم له في إحدى محاوراته لهم هو التهديد له بالطرد والإخراج له من قريتهم، ويكون جوابُهم في موردٍ آخر بنبرة التحدِّي له بأنْ يأتيهم بالعذاب الذي يُخوِّفهم به خصوصاً وأنَّ لوطاً (ع) كان قد مكث في قومه ردحاً طويلاً من الزمن، فمن الطبيعي أنْ تكون بينه وبيهم مخاطباتٌ ومحاورات، فما المحذور في أنْ يُجيبوه في بعض محاوراته لهم بجوابٍ ثم يُجيبونه في موردٍ آخر بجوابٍ آخر يرمون من وراء كلٍّ من الجوابين صرف نبيِّهم (ع) عمَّا يدعوهم إليه ويزجرُهم عنه، فهم تارةً يتحدَّونه لإظهار عجزه، وأُخرى يتوعَّدونه بالطرد من قريتهم، وكلُّ ذلك لغرض ثنْيه عن دعوته.

 

فدعوى التنافي بين الجوابين لو صحَّت فهي مع افتراض إتَّحاد الواقعة وأنَّ سورتي الأعراف والعنكبوت تُخبران عن حدثٍ واحدٍ وقع بين قوم لوط ونبيِّهم، وأمَّا لو كان ما تُخبر عنه سورة الأعراف مغايرٌ لما تُخبر عنه سورة العنكبوت فحينئذٍ يكون الإختلاف بين الجوابين هو المناسب لطبيعة الحال في مثل هذا الشأن، فلأنَّهم كانوا مصرِّين على العناد وقد ضاقوا ذرعاً بمواعظ لوط (ع) لذلك فإنَّ المناسب لمثلهم أنْ يعمدوا في كلِّ مرةٍ إلى جواب أشد وأبلغ في التعبير عن إصرارهم على العناد، إذ لعلَّ نبيَّهم بذلك ينتابه اليأس من استجابتهم فينصرف عنهم ويُريحهم من مواعظه.

 

مضمون الحوار يدلُّ على واقعتين:

والذي يُؤكِّد أنَّ السورتين تُخبر كلٌّ منهما عن واقعةٍ منفصلةٍ عن الأخرى هو أنَّ الحديث الذي خاطب لوطٌ (ع) به قومه في سورة العنكبوت مختلفٌ في أكثر مضامينه للحديث الذي خاطبهم به في سورة الأعراف، فهو في سورة العنكبوت نسب إليهم -مضافاً إلى إرتكاب فاحشة اللواط- قطع السبيل وتعاطي المنكرات في أنديتهم، قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ما سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾.

 

وقطعُ السبيل معناه التعرُّض للمسافرين وإيذاؤهم، إمَّا لمنعهم من استطراق الطرق التي تمرُّ من بلدهم أو لسرقة أمتعتهم وأموالهم، ومعنى أنَّهم يأتون في ناديهم المنكر هو انَّهم يتعاطون المنكر في أنديتهم ومواطن اجتماعهم، وقد ذكر أن المنكر الذي كانوا يتعاطونه مجالسهم كان يشتمل على أنواع من المناكير والقبائح، مثل الشتم، والسخف، والصفع، وحذف الأحجار على مَن مرَّ بهم، وضرب المعازف والمزامير ولعب القمار، وكشف العورات، ورُوي عن ابن عباس: "أنَّهم كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء، ورُوي: إنَّهم كانوا يأتون الرجال في مجالسهم، يرى بعضُهم بعضا".

 

فذلك كلُّه قد نسبه لوطٌ (ع) إلى قومه في سورة العنكبوت، وأمَّا الذي نسبه إليهم في سورة الأعراف فهو اقترافهم لفاحشة اللواط فحسب إلا أنَّه وصف فعلهم بغير المسبوق في الأمم الغابرة ولم يذكر لهم ذلك في سورة العنكبوت ووصفهم في سورة الأعراف بالمسرفين ولم يصفهم بذلك في سورة العنكبوت، قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ / إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ / وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(3) فهذا الإختلاف البيِّن بين مضامين الخطابين الصادرين من لوط (ع) لقومه يُؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ سورة الأعراف تحكي عن واقعةٍ منفصلةٍ عن الواقعة المحكيَّة في سورة العنكبوت.

 

يكفي الاحتمال في منع التنافي:

على أنَّه يكفي احتمال تعدُّد الواقعة للمنع من صحة إسناد التكاذب والتنافي بين الآيتين، فإنَّ أحداً لا يصحُّ له بنظر العقلاء نسبة الكذب إلى متكلِّمٍ جاء بخبرين مختلفين إذا كان ثمة احتمالٌ بأنَّ كلَّ خبرٍ يحكي عن واقعةٍ مغايرة للأُخرى خصوصاً إذا كانت شخصيات الخبرين من اللذين يكثر إلتقاؤهم وتخاطبهم، وخصوصاً إذا كان المُخبِر قد جاء بالخبرين في موردين مختلفين.

 

فلو أنَّ أحدهم أخبر أنَّ زيداً قال لجاره اليهودي: لقد آذيتني بأبنائك المشاكسين فأجابه اليهودي: لستَ مجبراً على البقاء، يُمكنك بيع دارك والرحيل إلى موضعٍ آخر. ثم إنَّ هذا الرجل أخبر في مجلسٍ آخر أنَّ زيداً شكى لجاره اليهودي أذى أبنائه له، فأجابه اليهودي إذا ذكرتَ أبنائي بسوء فسوف أُحرق دارك، فجواب اليهودي لجاره في الخبر الأول مختلفٌ عن جوابه لجاره في الخبر الثاني، فهل أنَّ هذا الإختلاف بين الجوابين مصحِّحُ لرمي المُخبِر بالكذب رغم احتمال تعدُّد المُخبَر عنه؟! خصوصاً وأنَّ تعدُّد مثل هذه الوقائع أمرٌ تقتضية طبيعة القضية موردَ الخصام وتقتضيه طبيعة العلاقة بين شخصيات الخبرين حيثُ كانت بينهما جيريَّة.

 

فالأمر كذلك فيما تُخبِرُ عنه الآيات من سورتي الأعراف والعنكبوت فإنَّه لو سلَّمنا جدلاً بعدم الجزم أنَّ السورتين تُخبران عن واقعتين منفصلتين إلا انَّه من غير الممكن نفي احتمال التعدُّد خصوصاً بعد ملاحظة أنَّ طبيعة الوظيفة المُناطة بلوط (ع) تقتضي كثرة الإلتقاء بقومه وكثرة مخاطبتهم وزجرهم عما يقترفونه من قبائح، وانَّ إصرارهم على العناد كما هو المعلوم من شأنهم يقتضي التفاوت في اختيارهم في كلِّ مرَّة لجوابٍ يرجون به صرف نبيِّهم عن دعوته لهم. 

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة الأعراف / 82.

2- سورة العنكبوت / 28-30.

3- سورة الأعراف / 80-82.